محمد عبده‏(‏ عبقري‏)‏ تجاوز تأثيره حدود المكان والزمان

كتب : د‏.‏ سعيد اللاوندي
‏ كان ذلك قبل سنوات عندما حملت رسالة من الناقد سامي خشبة الي المستشرق الكبير جاك بيرك يقول فيها إن الهيئة العامة لقصور الثقافة‏(‏ وجامعتي الأزهر والأسكندرية‏)‏ تدعوه للمشاركة في مهرجان حول الامام محمد عبده وادهشني أن الرجل ـ الذي رحل بعد ذلك بعامين ـ لم يتحمس لتلبية الدعوة‏(‏ وإن كان قد سعد بها كثيرا‏)‏ وعندما سألته عن السبب أجاب‏..‏

أخشي أن يثير البعض ضجة حول حضوري ـ ولعلك تذكر الهجوم الذي تعرضت له عقب صدور ترجمتي لمعاني القرآن الكريم‏..‏ ولست أريد أن أشعل فرصة ثانية لمهاجمتي فأنا رجل مسن‏(86‏ عاما‏)‏ ولم تعد صحتي تتحمل مثل هذه المهاترات‏,‏ ولم أنس بعد أن البعض كان قد اتهمني بالكفر وبأني عدو الاسلام‏!..‏ وهي ذات الاتهامات التي سبق أن وجهت للامام محمد عبده نفسه‏,‏ ولطه حسين وآخرين‏.‏

ثم أضاف جاك بيرك‏:‏
علي كل حال‏,‏ إني أغبط العلماء في مصر علي احتفالهم بالامام محمد عبده الذي قرأت مؤلفاته‏,‏ وتأملت أفكاره في وقت مبكر من حياتي‏,‏ وتحديدا عندما شرعت في اختيار الدراسات العربية والاسلامية مجالا لايماني قبل اكثر من نصف قرن وأول كتاب قرأته كان باللغة الفرنسية لشخص يدعي فرنسوا بونجوت عاش في مصر في زمن محمد عبده‏,‏ وكان يشتغل بالتدريس بالثانوي وكتابه كان رواية في ثلاثة أجزاء بعنوان‏:‏ محمد عبده المصري يتحدث فيه عن حياته‏,‏ ومآثره‏,‏ ومعاركه التي خاضها من أجل الاصلاح ضد الجامدين في الفكر والعقيدة‏.‏

قلت‏:‏ يري البعض أن رسالة التوحيد لمحمد عبده هي الكتاب الوحيد الذي جاءنا بعد سنوات عجاف منذ صدور مقدمة بن خلدون فما رأيك؟‏.‏
ـ كتاب رسالة التوحيد هو مؤلف مهم أودع فيه محمد عبده جانبا من فكره ونظرته للدنيا والدين‏,‏ لكن ظهرت قبل هذه الفترة مؤلفات لمفكرين آخرين ظلوا حتي اليوم مجهولين

ولا شك أن محمد عبده كان صاحب واحدة من هذه العبقريات الاسلامية الفريدة‏.‏ فهناك ابن خلدون‏,‏ وابن رشد‏,‏ وابن حزم ومحمد عبده‏(‏ هو بلا شك سليل هؤلاء العظام‏).‏

قلت‏:‏ ما هو الوزن الذي يمثله محمد عبده ـ فكريا وفلسفيا ـ في رأيك؟
ـ أجاب‏:‏ إني أحب محمد عبده كثيرا‏,‏ واسجل اعجابي به في كل المناسبات‏,‏ وأراه أفضل كثيرا من استاذه الأفغاني لأنه اكثر صفاء منه‏.‏ فالافغاني كانت السياسة‏(‏ وأشياء أخري‏)‏ تلوث فكره وتوجهاته‏.‏ أما محمد عبده فقد ظل نقيا صافيا وأهم مآثره العقلانية التي حرص عليها وشدد علي أنها من أصول الإسلام‏.‏ وقد ناضل من أجل أن يسترد‏(‏ هذا الأصل‏)‏ مكانه الأول في العقيدة الاسلامية‏.‏ وقال إنها الطريق الصحيح لفهم القرآن وتعاليمه‏.‏

أما الشيء الثاني الذي أذكره له فهو تحريره النثر العربي مما علق به من قيود‏.‏ بمعني أنه أطلق الأسلوب العربي من عقاله‏,‏ وجعله حرا طليقا ولذلك اشتهر بجزالة الاسلوب وسهولته وغناه في آن واحد‏.‏

سألت‏:‏ ماذا يبقي من محمد عبده اليوم‏,‏ وهل تعتبر نفسك تلميذا في مدرسته الفكرية؟
ـ يبقي من محمد عبده روحه‏,‏ واسلوبه في التفكير وجرأته في قوله الحق من أجل أفكاره‏.‏ ثم اهتمامه بالأسلوب التربوي والاصلاحي‏.‏ واعتقد أن تلاميذه كثيرون اليوم ليس فقط في مصر ولكن أيضا في كل الدول العربية والاسلامية‏.‏

ولا شك أنني اعتبر نفسي ـ من هذه الزاوية الفكرية ـ تلميذا في مدرسته وإن لم أره أو أدرس علي يديه‏.‏ ويكفي أن أقول إنه أحد عباقرة الاسلام الذين تجاوز تأثيرهم حدود المكان والزمان‏.‏