أ.د.عمر بن قينة:

لست مولعاً بالشاشة، لكنني أتفقدها، في بعض البرامج الجادة الحوارية والوثائقية ونحوها، ومنها ما ألقاه بالصدفة، من هذه الأخيرة ما عرضته الفضائية القطرية (الجزيرة) يوم: 2/11/1425ه (13/1/2005م) عن جزر القمر. وحركه في الذهن اليوم أكثر من أمر.

أدركت كم هي تعاني تلك القطعة العزيزة من الوطن العربي.. في عرض المحيط، تحنّ إلي فضائها العربي الذي لا يكاد يذكرها.. بل فيه من ينكرها.. أنها منه: لغة وعقيدة، قرن ونصف من الاحتلال الفرنسي.. شوّه اللسان ولم يمسخ الجنان، ظروف الاحتلال جعلت الجزر الثلاث تنسي لسانها العربي.. لكنها القابضة بالنواجذ علي دينها الإسلامي، شوّه اللسان لكن القلب نابض حي خفاق بحب العربية والعروبة والإسلام، فتدرك ذلك الإحساس القوي بهذا الانتماء.. أمة تعشق لغتها العربية المحرومة منها، وتتشبث بدينها الإسلامي دين كل أبناء الأمة القمرية.

من أجل ذلك يجاهد إخواننا القمريون هنالك، صامدين دفاعا عن الهوية بلغتها العربية وروحها الإسلام، يجاهدون في سبيل ذلك مستبسلين مضحين إلي درجة تكتفي فيها الأسرة بوجبة طعام واحدة في اليوم لتوفير تكاليف التعليم لأبنائها، وأي تعليم؟ في ظروف قاسية جداً تجعلك تثور علي نفسك وأنانيتك، الكتب نادرة، أدوات الكتابة عزيزة، أماكن الدراسة غرف بدائية (المعلم) يقطع الكيلومترات علي قدميه لأنه لا يملك أجرة التنقل، ولم يتقاض راتبه منذ سبعة شهور، مع ذلك يعطي بما لديه من (معارف) وبماله من امكانات بسخاء، المعلم والتلميذ مستبسلان معاً، حرصا علي تعلم لغة القرآن ودراسة الإسلام، رغم قلة الوسائل وهزال هذه القلة وبدائيتها، إنه لجهاد شريف.. هل من سبيل إلي جزر (القمر)؟ هنا الجهاد الجاد المستبسل ساخرا من جهاد (المرتزقة) و(الزنادقة) و(التكفيريين) الجهلة: تاريخا وعقيدة وسياسة!

كبر حنيني إلي جزر (القمر) بقدر ما كان الأسي يعصر قلبي عصرا من معاناتها الحاجة إلي المال، الحاجة إلي معلمين، إلي الكتاب، إلي الدفاتر والأقلام والسبورات، فأين عرب (الكرنفالات)؟ أين عرب البهرجة من حاجة إخوانهم، في الجزر، وحنينها إلي فضائها العربي، الذي يكاد سياسيون ينكرونها، ولم تقبل في (الجامعة العربية) إلا بجهد جهيد، ووساطة دولة عربية تعود معظم جذور سكان (الجزر) اليها بحدودها القديمة.. أو الحديثة.فرض الاحتلال الفرنسي لغته فمكن لها علي الألسنة، لكنه لم يقتلع الانتماء العربي من الأفئدة، ولا نال من حسها الإسلامي، بقيت (الجزر) في ذلك حريصة علي وميض الحرف العربي وان في الزوايا، وتعيش إسلامها بلغة الاحتلال الفرنسي الذي رحل، أو باللغة المحلية، فيبقي حنين (الجزر) إلي فضائها وقادا، لم ينطفيء من وطأة قرن وخمسين سنة، وهنالك من أصر علي التحدي في التمكين للغة القرآن علي اللسان، فتجد مسؤولي دولة (جزر القمر) تتدفق العربية علي ألسنتهم كماء عذب زلال، قوية دقيقة واضحة، يعجز دونها أشباه سياسيين ابتليت بهم بعض أقطارنا العربية، حيث تضيع منه العربية لأنه خصمها، ويأنف من العامية، فيرتمي في أحضان فريسته يستعذبها كما يستعذب العبد الذليل مداعبة جلاده.

هؤلاء المسؤولون، ابتداء من رئيس الجمهورية مرورا بوزير الخارجية، حتي التعليم والإعلام صورة لجزر واعدة، تحفظ عمقا ضاع لدي بعضنا، رئيس الجمهورية فيها يؤم المصلين في صلاة الجمعة، ويخطب فيها، كما يتولي الإرشاد ويعتز بأخيه الذي علمه وقدمته (القناة) يلقي دروسه المتواضعة في الإسلام، علي تلاميذه المتواضعين، في مكان متواضع ايضا، إنها الحاجة، والقوم صامدون مستبسلون، والي فضائهم العربي يحنون، وبأسلامهم متمسكون.

جزر عائمة في المحيط، عامرة بالبشر، كثيفة الغابات، تحنّ إلي العلم والمعرفة، ويقعد بها الفقر، لكن القلوب عامرة بالإيمان، يطبعها الحب الصادق، فلا غش في بضاعة، ولا مساومة، ولا سرقة ولا اعتداء، ليس في الجزر وحوش مفترسة، وليس في الدولة ظالم يمارس ظلما، ولا مظلوما يعاني ظلم آخرين، فهل من سبيل.. إلي جزر (القمر)؟ هل من دليل؟ هل من مرافق؟

اشتد حنيني لجزر (القمر) بقدر ما رأيت من حنين أبنائها إلي فضائهم العربي، وبقدر ما رأيت تشبثهم بهويتهم، من خلال رمزي الانتماء: القرآن ولغة القرآن.

رأينا ملامح مدارس حديثة تقدم أهم موادها بالفرنسية في ظروف صعبة، ومدارس أخري للعربية والدين الإسلامي، في ظروف تتضاعف صعوبتها عشرات المرات، وشاهدنا أستاذ تاريخ وأستاذ عقيدة في الجامعة التي لم نرها، وحال الأستاذين يدل علي حالها.

مع ذلك أقول هل من سبيل إلي جزر القمر؟ هل من مرافق، لا يهمني الموقع، في الجامعة أدرس اللغة العربية وأدبها أو في المدرسة الابتدائية أعلم الحروف الهجائية العربية، يهمني أن أشار أعزة يحنون الينا بؤسهم ومعاناتهم، وأعضدهم بما أستطيع من زاد معرفي متواضع أراه مفيداً في حالهم؟.. هل من سبيل؟ وكيف: دلونا.. يرحمكم الله! لا نحلم برواتب فقد عرفنا حال معلمين هناك، نحلم بأن نصل في ظروف عادية، لا نضيع في الغابات، والكهوف، بل ننتهي إلي منزل والي قاعة تدريس.. هل من سبيل؟ هل من مرافق؟

إخواننا هناك يستنجدون بنا.. ولسانهم يعبر عن حالهم.. التي لا يلتفت اليها (عرب) فإن فعلوا كانت التفاتة حيية، ممثلو جمعيات إسلامية عربية جهودهم بقيت دون حاجة إخواننا في معاناتهم، ليس للعربي إلا سفارةبلد واحد عرف بممارسة (الديماغوجية) والأدوار البهلوانية، والشطحات السياسية.

العرب غائبون عن (جزر القمر) لكن حنينها إلي العربية والعرب والإسلام يزداد اتقادا، وا شوقاه إلي (جزر) ينساها العرب عائمة في المحيط، وتتشبث بهم، وتسعي قوي الشر العالمية لقطع هذا التشبث، فإن رحل الاحتلال الفرنسي فقد تركها علي الألسنة وإن فشل في غرس حبها في الأرواح والأفئدة، لكن آثاره باقية فهو مستمر في حرصه علي خنق الحس الإسلامي، والحيلولة دون نبض الحرف العربي قدر المستطاع، والبنوك التي بقيت في جزر (القمر) تحت إدارة فرنسيين (واعية) أيضاً (بمهمتها) فهي ترفض فتح حسابات لمؤسسات إسلامية كشركة التعمير الإسلامية، وسد الباب أمام نظرائها، وكان الابتهاج كبيرا حين عصفت الظروف بمؤسسة (الحرمين) التي كانت ترعي مؤسسة تعليمية دعوية، لشبهات مست موقعا (ما) في هذه المؤسسة.

يكبر حنين الجزر، في زمن (الإرهاب الأمريكي) الذي عمم خططه علي الغرب والشرق والحلفاء في العالم كله، تمكينا لاستعمار جديد، علي درب المسيحية الصهيونية، لضرب العرب أساسا حيث كانوا والمسلمين عموما أني وجدوا، ومحو المؤسسات الإسلامية، ويكبر الفرح الأمريكي بالذرائع حين يكتشف الثغرات في نشاط مؤسسات إسلامية قد تكون ضحية تسيير مسؤولين فيها، قبل أعدائها الذين يعدون دائماً للضربة القاضية، اعتمادا علي ذرائع تسوغ محو هذه المؤسسة أو تلك، من أجل الإفساح لضعفها عشرات المرات من مؤسسات (التنصير) تحت عناوين تمويهية مختلفة.

كاد الاستطراد عن الإرهاب الأمريكي يصرفني عن الحديث عن إخواننا في جزر القمر، المستميتين في التشبث بانتمائهم، لغة ودينا، متطلعين إلي إخوانهم في الدين والوطن الكبير بالعون، بالكتاب نفسه، بدفتر، بقلم، بسبورة، بأستاذ، بمعلم، بكل شيء يضمن إطلاق الحرف العربي علي شفاة الصغار، ليتناغم مع الحس الديني في الوجدان، فهل من مجيب؟ إن توقعت استجابة، فلا أعرف حجمها لكنني لن أكف عن النداء: هل من سبيل؟ ولو بعد حين.. ولو بعد السنين فالتحدي.. تحدي العوائق.. طبعت عليه.. طالما مضت في العمر بقية.. وشيء من الصحة.. وبعض القوة..

مع ألف تحية.. لقناة (الجزيرة) العربية، تقديراً وحباً، وإن غضبت مرات ومرات.. من إفساحك لأعدائنا الذين لا يفسحون لنا، بل يكتمون أنفاسنا، يخنقوننا.

- كاتب وأكاديمي جزائري

[email protected]