صمود الموارنة في وجه الحروب والهرطقات

من قدر له زيارة لبنان وعرج على دير مار أنطونيوس قزحيا؟ مهد الموارنة وموئل النساك القدامى، كان سيلقي بنظرة حميمة على منطقة في شمال لبنان، ولا نغالي لو قلنا إنها تشبه الفردوس بخضرة تنتشر كما الزمرد فوق تيجان الهضاب والجبال، بل وتقترب من مساكن الملائكة بروحانية جلبها اليها أولئك النساك والأطهار الذين زهدوا بالدنيا وعلموا باكرًا أن العمل من أجل آخرة متسامية عما هو أرضيّ و باطلٌ، لأهمّ و أغلى...من يصل إلى ها هنا سيلقىتلك الصوامع المطلّة على الدير و التي حفرها الموارنة القدامى في قلب الصخور فتشكلت مقرّات نسكٍ وملاذات تخفٍّ عن العيون المتربّصة، ويكفي هذا المشهد كي تعلم من هم الموارنة فهم باختصار جماعة مسيحيّة قديمة تميزت بقوّة الأيْمان وقوّة البطش فاختارت شظف العيش وقساوة الحياة أسلوبًا للبقاء، فحملت الصليب إلى جانب السيف، ومضت تدافع بشراسة عن معتقدها الديني المسمى أرثوذكسي وقتذاك أي أنها آمنت ولا تزل بمسيح ذي طبيعتين إلهية وإنسانية، متحدية بذلك كل البدع التي حاولت تشتيتها، كما وأصرّت على استقلالها وحافظت على كيانها مجابهة هجمات الروم والفرس والنساطرة واليعاقبة والعرب و من حاول القضاء عليها. لكن المارونية ليست متحجّرة او متقوقعة على ذاتها كما يراها البعض بل تنزّهت عن العصبية قرونًا، وعرفت كيف تتعايش مع شرق بغالبيةٍ مسلمةٍ فتآخت معه، وكذلك عرفت كيف تنهلُّ من حضارات غرب متقدّم حتى قال عنها الحاكم التركي إسماعيل حقّي باشا حاكم جبل لبنان:"المارونية معقل الطرائد،وموئل الحريات".ووصفها أحبار روما بأنها" وردة بين الأشواك".


مار مارون "أبو الموارنة"

هو مارون القورشي المعروف بأبي الموارنة، سيمَ راهبًا سنة 405 م، عاش في ذرى جبل قورش، في منسك للأوثان لكنه عاد وهدمه مع السكان، ليشيد مكانه أول كنيسة مارونية في الشرق. كان مار مارون يعظ الأوثان
ويدعوهم لنبذ عباداتهم الأسطورية، وعرف عنه أيْمانه الأورثودكسي بالمسيح (وهي التسمية الأولى لمسيحيي المجمع الأفسسي، ثم الخلقيدوني الذي اعتبر أن للمسيح طبيعتين إلهية وإنسانية).
ذاعت شهرة مار مارون حتى عمّت أقطار الشرق كلها، وصارت صفوفًا من السوريين واللبنانيين، تتحلّق حوله تستمتع بمواعظه وتلتمس بركاته، وكانت تحصل منه على شفاءات ليست جسدية فحسب وإنما قيل أيضا نفسية.ولما اشتد ضغط النساطرة عليهم يدعمهم ملوك بيزنطية توجّه الموارنة وبطلب من مار مارون إلى منابع العاصي وجبل لبنان. وما يؤكد على الهجرة تشابه أسماء الأديرة وأسماء مقاطع الطرق والقرى والبلدات بين سورية ولبنان من مثل؛
عيناب اللبنانية وعيناب السورية، عمشيت اللبنانية وعمشيت السورية ونيحا وسلعاتا وعين دارة...في سورية، ونيحا وسلعاتا وعين دارة... في لبنان.

هامة مار مارون مدفونة في إيطاليا

توفي أبو الموارنة في مقرّ صومعته في جبل قورش سنة433 م وقيل سنة 410. وقد حدث نزاع عظيم بين الموارنة آنذاك على جسد مار مارون ويروي تاودوريطس، أسقف قورش، أن سكان بلدة مجاورة لجبل قورش انتصرت على الآخرين واحتفظت بالجثمان، ويرى المؤرخون أن هذه البلدة قد تكون القورشية لأن فيها بقايا إحدى وعشرين كنيسة من الجيل الرابع والخامس والسادس، عدا عن وجود هياكل وثنية فيها، هذا بالاضافة الى المدافن والأبراج والحمامات والقلاع....
ويعتقد أن الجثمان دفن مؤقتًا في هذه البلدة، لكن وبسبب اضطهاد النساطرة ثم اليعاقبة للموارنة خاف كبيررهبان سورية يوحنا مارون على قبر القديس مارون، فحمل هامته بعد قرنين ونصف القرن من موته إلى دير مارون الكبير في الرستن، بين حمص وحماه حيث المقرّ الماروني الأكبر، في سورية وهناك، جمع الراهب يوحنا الكبير زهاء 800 راهبٍ وحمل الهامة المقدسة ليستقر في لبنان، إذ عُيّن بطريركًا على الموارنة سنة 685 م، وقام مع الرهبان بدفن مار مارون في بلدة كفرحي. وشُيّد فوق الجثة دير "ريش موران" أي ما تفسيره "رأس مارون"، أو "رأس سيدنا".واللافت أن هذا الراهب وقبل ان يصير بطريركًا في كفرحي، كان أسقفًا في صمّار جبيل في بلاد البترون وبجانبها بلدة راشانا التي تفسيرها "ريش أونا" أي رئيسنا هنا، فهل دفنت الهامة المقدسة في راشانا مؤقتًا وقبل انتقاله الى كفرحي؟؟؟
المهم أن هامة مارون ظلّت مدفونة في كفرحي إلى أن زارها راهبٌ بندوقيّ نسبة إلى البندقية، والراهب تابع لجمعية القديس مبارك، والغريب أن هذا الراهب الإيطالي استطاع أن يحصل على هامة مارون ويعود بها إلى مقر جمعيته في مدينة فولينو بإيطاليا، وهناك استقبلت بحفاوة، ودفنت في المدينة وصارت محجّة لمسيحيي الشرق والغرب على حدّ سواء.
ويناشد عبد الله أبي عبد الله في موسوعته " تاريخ الموارنة ومسيحيّ الشرق عبر العصور" قداسة الحبر الحالي، كي يستعيد موارنة الشرق الذخيرة الأقدس والأثمن، كما ويناشد الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، ورئيس الجمهورية اللبنانية لاستعادة هذا الذخر الثمين، وإرجاعه إلى دير مار يوحنا مارون كفرحي، باعتباره حقًّا مقدّسًا للموارنة عمومًا وللبنانيين خصوصًا.

موطن الموارنة

في إشارة إلى موطن الموارنة، نلفت إلى أن حدود هذه الطائفة المسيحية، كانت من عند مصبّ العاصي في سورية الثانية إلى عكا ساحلًا، أي بين جبال اللكام شمالًا وجبال الجليل جنوبًا، والسلسلة الشرقية وجبال العلويين شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا.

المارونية بين البدع والإنشقاق

بعد انتشار المسيحية قامت بطريركية إنطاكية لتشمل أقاليم المشرق وأسقفياتها، وكان عدو الكنيسة الأكبر أباطرة روما وعلى رأسهم الطاغية نيرون (54-68) وصولًا الى قسطنطين الذي اعتلى عرش روما سنة 312 وقد آمن بالمسيح بناءً على طلب والدته هيلانة، وبعد وفاته صارت إنطاكية عاصمة الشرق وكنيسته، في وقت كانت روما تتحضر فيه لتصبح عاصمة الغرب وكنيسة الكثلكة، وبدل أن يجمع الأيمان بالمسيح هاتين القوتين، بدأ الجدل البيزنطي وظهرت البدع واكفهرت سماء الكنيسة بسبب تلك المجادلات اللاهوتية التي كلفتها أثمانًا باهظة.ومن أبرز تلك البدع:
1-الآريوسية: وظلت قائمة هذه البدعة حتى القرن الرابع، أسّسها كاهن من أصل ليبيّ يدعى آريوس وقد استطاع هذا الراهب بشدة ذكائه وكثرة علمه أن يستميل أساقفة صور واللاذقية وبيروت وفلسطين. وآريوس أنكر ألوهية المسيح والذي أوقف هذه البدعة في الكنيسة كان القديس باسيليوس الكبير والقديس يوحنا فم الذهب ولم يطل الأمر وظهر مبدع جديد في بلاد ما بين النهرين هو نسطور.
2- النسطورية: قال نسطور: إن مريم العذراء أعطت المسيح بحكم الولادة أي "الطبيعة البشرية" وأرسطو يقول: لا يمكن ان يكون هناك طبيعة من دون وجود شخص (إنكار الطبيعة الإلهية). و قد تأثر بكلامه ونظريته معظم رجال الدين في الإمبراطورية الرومانية وبنوع خاص من تأثر بأرسطو وبأفلاطون وبصاحب نظرية البسط والإنشراح اللبناني الأصل أبيقورس، وانتشرت فلسفة نسطور في مصر وروما و إنطاكية وصولًا إلى سورية ولبنان، لتغوي عقول كهنة موارنة بل وبعض قادتهم لكن الملك قسطنطين اللحيان كان له الفضل في التصدي لهذه البدعة.
3-اليعقوبية: هي استمرار للنسطورية إذ تبنت أفكارها وفلسفتها، وفي سنة 517 قام اليعاقبة باقتحام دير مار مارون الكبير، وكذا فعلوا سنة 694 فقتلوا قسمًا من الرهبان وهجروا القسم الآخر، ولحقوا بهم إلى لبنان بعد أن دمروا كل أديار الموارنة الواقعة في طريقهم على نهر العاصي. وكم من مرة وخلال أجيال استطاع اليعاقبة خرق صفوف الموارنة لكنهم عادوا وتوحدوا بل وقدموا أوراقهم للكرسي الرسولي في روما ليثبتوا أن إيمانهم أرثوذكسي قويم ويخلو من الشوائب.

موارنة لبنان عرب أم فنيقيون:

إنقسم الباحثون في أصل الشعب اللبناني إلى قسمين، قسم زعم أن اللبنانيين جاءوا من جهات البحر الأحمر والجزيرة العربية، وقسم ادعى بعد اكتشاف الهيكل العظمي في مغارة أنطلياس والذي عمره 50 ألف سنة، إلى جانب اكتشافات أخرى أن هذه الأرض الوافرة المياه والخصبة، عاش عليها شعب أصيل، ورأت هذه الأبحاث أن هذا الشعب كان صاحب حضارة عظيمة، واليه اعاد العلماء فضل اكتشاف الحروف الصوتية التي صارت فيما بعد قاعدة للغات العالم كلّها.ومما اثبتته الدراسات الموسعة في هذا الشأن والذي ثبت وكما يقولون معوّلين على التوراة أيضًا أن الفنيقية لقب أطلق على الشعب اللبناني الأصيل وليست هجرة غريبة حطّت في لبنان.

الموارنة تستوطن جبال لبنان

سبق وأشرنا الى ان الموارنة جماعة او حزب شكله القديس مارون في كل من لبنان وسورية، الشعب المستعمر آنذاك كان البيزنطي الذي عانى منه الموارنة الأمرين والذي دعم اليعاقبة في حروبهم على الموارنة، وتنازع على احتلال هذه المنطقة الفرس مع الروم ولما جاء الفتح الإسلامي العربي الجديد رأى الموارنة أن جبال لبنان تصد هجمات الغزاة الجدد أكثر من سهول وهضاب سورية لذا شكلت الجبال معاقل حصينة لهم، مشكلين فرقا عسكرية عرفت باسماء متنوعة وقفت على الحياد من كل الفئات المتصارعة واعتزلت في الجبال متسلحةً بصلابة الايمان وقوّة السلاح، بعد حين عاش المورانة في ظل دولة الاسلام عهودا مشرقة وذلك نتيجة المعاهدات بين العرب والروم، ولا يخفى على الدارسين بالغ الأثر على العلاقات العربية المارونية بسبب تحكيم معاوية بين الموارنة واليعاقبة.

تحكيم معاوية

على الرغم من المعاهدات الكثيرة التي جرت بين العرب والروم، إلا أن الموارنة ثمّنوا موقف معاوية في تحكيمه بينهم وبين اليعاقبة إلى اليوم، إذ حضر في العام 658 رهبان دير مار مارون الكبير في الرستن، ليفصل الوالي معاوية وقبل ان يصير خليفة، بينهم وبين اليعاقبة وبعد سماعه مناظرة الفريقين، أفحم معاوية اليعاقبة وأمرهم بأن يدفعوا له عشرين ألف دينار وبأن يلزموا الصمت ويقال إن معاوية جرّد اليعاقبة من ممتلكاتهم وضمها للموارنة.

فرق الموارنة المسلّحة

خيل الروم أو ما اشتهر بالمردة: هم جماعة من الجند، كلّفها ملوك بيزنطية، حماية الثغور اللبنانية من هجمات الفرس والعرب، وبعد توقيع العرب معاهدات سلم مع الروم أيام هارون الرشيد ومعاوية، قضت المعاهدات بانسحاب هؤلاء من لبنان، بعد أن قضوا قرونًا فيه، فهان عليهم تركه ورفضوا الخروج من لبنان وقد تمرّدوا على دولتهم وانضموا إلى الموارنة فعرفوا باسم "المردة " أيضا بل إنهم اشتهروا بهذا الإسم.

الجراجمة: وهم سكان بلدة الجرجومة والتي نشأت فيها الموارنة، لجهة أقصى الشمال قرب إنطاكية، وانقسم الباحثون في شأنهم، منهم من رأى أن الجراجمة هم المردة انفسهم ومنهم من أكّد على أنهم مورانة في الأصل وليسوا من خيل الروم.