محمد الخامري من صنعاء: أصبح قرص الرغيف الشغل الشاغل للعديد من ذوي الدخول المتدنية في المجتمع اليمني الذين يحاولون قدر الامكان توفيره أطفالهم حيث لا يكفي الإنسان العادي فوق 15 عام أكل 6 - 8 أرغفة والطفل الصغير لا يشبعه اقل من ثلاثة أرغفة على الأقل ، ولو افترضنا متوسط العائلات اليمنية 7 أطفال إضافة إلى الأب والأم فهم يحتاجون في اليوم إلى 35 رغيفا في وجبة الإفطار ومثلها في الغداء ومثلها على العشاء أي أن إجمالي ما تحتاجه الأسرة المتوسطة من الرغيف يوميا 105 أرغفة بمبلغ 525 ريالا فقط بما يساوي 15750 ريالا في الشهر الواحد قيمة رغيف فقط ، فضلا عن بقية المأكل والمشرب والملبس والإيجار والكهرباء والماء وخلافه.
قد يقول قائل أنها نوع من المبالغة ، أقول له اطرح ما شئت منها وقيّم الباقي كيفما تشاء لن تجدها الفرق كبير ، وهذه الحالة والحسبة التي أجهدت نفسي فيها لأوضح الحال الذي وصل إليه الرغيف من حجم صغير ووزن الريشة ، إذ لو كان كما يجب والمفترض فيه وفق القرار الرسمي الصادر عن وزارة التموين والتجارة رقم 132 لعام 1999م لكفى هذه الأسرة نصف الكمية المشار إليها أو اقل وبالتالي فان التكلفة ستقل إلى اقل من النصف ، لكنه الجشع والطمع وتغييب الضمير وعدم الرقابة الذاتية والحكومية.
وكان مركز الأبحاث الزراعية وتقنية ما بعد الحصاد قد نظم أواخر العام الماضي ندوة علمية حول صناعة الخبز حاضرا ومستقلا ، كشف فيها العديد من السلبيات والمخالفات التي ترافق عملية صناعة الخبز والتي بدورها تهدد صحة المواطنين ومستقبل الأمن الغذائي في اليمن ، حيث قدم الباحث في مجال الأمن الغذائي الدكتور محمد سالم المصلي بحثا مطولا ذكر فيه أن الأفران اليمنية تفتقر للعديد من المقومات الأساسية لإنتاج الخبز السليم والخالي من الشوائب الملوثة له صحيا ، مشيرا إلى أن العناصر المكونة للمخبز أو الفرن في صنعاء او أي من المحافظات اليمنية ليست بالمستوى المطلوب ولا يوجد فيها أدنى الشروط المنصوص عليها في القانون المنظم لها.
وأضاف الدكتور المصلي ان اغلب مخابز وافران أمانة العاصمة صنعاء تستخدم ماء غير صالح للاستخدام في صناعة الخبز وهو غالبا من المشاريع الأهلية المرتبطة بها تلك المخابز وعليه العديد من علامات الاستفهام ، مشيرا إلى أن هناك محافظات برمتها لا تهتم بنوعية المياه المستخدمة في مخابزها كالحديدة وعدن وحضرموت وبعض المدن الساحلية التابعة لها ، إضافة إلى المكونات الأساسية للخبز او الروتي كما يطلق عليه شعبيا (السندويتش) التي يجري فيها التلاعب الكبير من قبل تلك الأفران حيث يتم إضافة الخميرة بنسبة اقل من 50% من الكميات المتعارف عليها من وزن الدقيق المستخدم نظرا لغلاء سعرها في الأسواق ، إضافة إلى أن هذه الخمائر والمحسنات التي يجب ان تحفظ في أماكن معينة وتحت درجة حرارة معينة ورطوبة دقيقة نجدها تحفظ في أماكن غير صالحة وتنعدم للنظافة أولا ثم للشروط الواجب توافرها لحفظها ، كما يتم خلطها بالعجين تبعا للطرق والأساليب المتوارثة بين الخبازين وليس وفقا للمعايير المنصوص عليها أو الطرق الصحيحة المطلوب وجودها وإتباعها في المخابز ، الأمر الذي من شانه إنتاج خبز هزيل وغير محسن وبجودة متدنية وفائدة منعدمة تماما.

أوضاع المخابز
أما الأوضاع الصحية الموجودة في الأفران والمخابز اليمنية فقد انتقدها الدكتور المصلي بشده حيث أشار إلى انه لا يوجد 10% من إجمالي المخابز المصرح لها (رسميا) في اليمن والبالغ عددها 2108 مخبز منها 463 مخبزا في أمانة العاصمة فقط تستخدم الطرق الصحيحة في والشروط الصحية المطلوب توافرها نظرا لعدم المتابعة والرقابة من الجهات المعنية ، مؤكدا انه ومن خلال المشاهدة البسيطة لأي مخبز شعبي أو تقليدي ستجد أن المكان الذي يوضع فيه الخبز بعد خروجه من الفرن غير صحي ، إضافة إلى الخباز الذي يخبز لو دققت في يديه وملبسه وهيئته لوجدته رثا قذرا كأنه (عامل نظافة) وليس خباز يفترض فيه النظافة في كل شئ لان آلاف الأسر تأكل من يده ، وقس على هذا بقية مكونات المخبز من العجانة إلى الفرازة إلى الدقيق وأماكن حفظه ، إلى المناولة اليدوية للقالب الخشبي الذي يتم مناولة العجين فيه إلى بقية العناصر المكونة والمرافقة لعمل الخبز.

الضمير في إجازة
أما النقطة الأهم في هذا كله وهو انعدام الرقابة الحكومية والشعبية والذاتية لدى أصحاب الأفران والمخابز ، إذ أن الفقر والظروف الاقتصادية التي وصلت إليها البلاد وغلاء الأسعار غيّب دور الضمير لدى غالبية أصحاب الأفران حيث ان هناك الكثير من التلاعب في وزن الرغيف ، وأصبحت مع مرور الأيام مسالة عادية لدى المستهلك الذي يكتفي بالضحك على الحجم او التندر مع صاحب المخبز عن ما وصل إليه هذا الحجم وكيف انكمش بسرعة خلال فترة قصيرة ، إضافة إلى سكوت الجهات المعنية بالرقابة رغم انه مخالف للمواصفات المنصوص عليها والقرار الوزاري الذي أصدرته وزارة الصناعة والتجارة عام 1999م برقم 132 والذي حدد وزن الرغيف بـ100 غرام وسعره (بهذا الوزن) بـ5 ريالات إلا أن وزن الرغيف هذه الأيام وصل إلى اقل من 50 غرام كحد أدنى و55 غرام كحد أعلى مع الاحتفاظ بالتسعيرة الموجودة في القرار (5 ريال) ، إضافة إلى استبعاد بعض المكونات الغذائية الهامة أثناء إعداد وصناعة الخبز وبالتالي يصبح الرغيف صغيرا وحقيرا وفقيرا وغير مفيد.

رقابة الدولة
عند النظر إلى المكونات الغذائية الهامة التي تم استبعادها ، نجد أنها استبعدت بنظر الدولة ، حيث تبدأ عملية نقص المكونات واستبعادها من المطاحن الكبرى التي تنظر إلى الربح المادي على انه حجر الزاوية في تعاملها مع المواطن وقوته حيث تقوم بفصل الردة او النخالة التي أثبتت البحوث العلمية أهميتها نظرا لاحتوائها على عناصر غذائية وفيتامينات مثل الحديد الذي يفتقره غالبية المجتمع اليمني ، إضافة إلى دورها الرئيسي في اصطياد الكيماويات والملوثات الخبيثة المسببة لسرطان القولون حيث تحتوي على العديد من الألياف التي تعمل على حماية سطح القولون من الاحتكاك بهذه الملوثات المسرطنة التي تتولد في الجهاز الهضمي بعد إتمام عملية الهضم ، تقوم هذه المطاحن بفصل النخالة عن القمح لتبيعه منفردا (بوشة) كأعلاف للحيوانات رغم أنها تعلم ان هذه العملية يؤدي إلى إضعاف جدار الأمعاء وحدوث الإمساك واضمحلال القوة الهاضمة في الجسم البشري.
وكانت جمعية حماية المستهلك اليمنية قد قالت في منشور وزعته في وقت سابق على وسائل الإعلام أن بعض المخابز الفرنسية تستخدم محسنات ضارة بصحة الإنسان ، مشيرة إلى نتيجة المختبرات العلمية التي أثبتت ان نوعية هذه المحسنات تحتوي على مادة (برومات البوتاسيوم) المستخدمة لتحسين الخبز الفرنسي وهي المادة التي تسبب أوراما سرطانية في الغدد الدرقية ، إضافة إلى تسببها في فشل الغدد النخامية في القيام بدورها المنوط بها.

أنا مش حكومة
كان هذا الجانب البحثي العلمي في تحقيق الخبز اليمني الذي يجأر بالشكوى للأمم المتحدة ويطالب بإنقاذه من يد العبث التي طالته من قبل جميع المتناوبين عليه ابتداء من الدولة التي أوصلت البلاد والأوضاع الاقتصادية إلى هذه الحالة التي أصبح معها التاجر يفكر في كيفية الربح دون أدنى تفكير في المواطن المسكين وصحته حيث تم فصل النخالة عن القمح في المطاحن الكبرى بالجمهورية وتحت سمع وبصر الدولة التي تغض الطرف عن هكذا مخالفات وانتهاء بصاحب الفرن والخباز الذي يحاول قدر الامكان تصغير حجم الرغيف وإنقاص وزنه بغرض الكسب أيضا ، ومن هنا نبدأ تحقيقنا الميداني حيث التقينا بصاحب فرن السعادة الشعبي بمنطقة التحرير وسألناه عن الحالة المأساوية التي وصل إليها رغيف الخبز ، ولماذا؟
** السوق يحكمك ، أنا عندما اشتري كل شئ غالي ، ايش تنتظر مني ، تشتيني (تريدني) أروح أبيع بيتي وارضي علشان أحسّن الرغيف ، مو انا حكومة ، كلم الحكومة وخليها ترخص سعر الدقيق وأنا شاعمل خبز كبير مش 100غرام بس ، أنا مستعد اعمل خبز 500غرام بس خليها ترخص الدقيق وتخلينا نطلب الله زي الناس.

- يقال بأنكم تستخدمون محسنات مضرة بصحة الانسان؟
** شوف يااخي خلينا واقعيين ، إذا كانت هذه المحسنات مضره حسبما تقول ، ليش الدولة تسمح بدخولها والترويج لها في الأسواق وفي الصحف والجرائد والتلفزيون ، المفروض أن العناية بصحة الإنسان تكون من الدولة التي تمتلك المختبرات والدكاترة والعلماء والمثقفين والأجهزة الأمنية وجمعية المستهلك وهيئة المقاييس وصحة البيئة وكل شئ ، أما نحن لا نقرا ولا نكتب ، أنا أروح للتاجر واقله هاتلي محسنات للخبز ويجيب لي هذي العلبة ويقلي كيف استخدمها ، وكل إلي مكتوب عليها بالإنجليزي ، ماني داري ايش مكوناتها ولا ايش تنفع ولا ايش تضر ، ولا ادري شيء من هذا.
- هل تحدد الدولة وزن الرغيف وقيمته؟
** ايوة.. تم تحديد سعره ووزنه وكل شيء.
- كم تحديد الوزن والسعر؟
** السعر خمسة ريال ، والوزن 100غرام.
- وكم وزن الرغيف الذي تنتجه أنت في مخبزك ، وبكم تبيعه؟
** الوزن ناقص شوي على المئة غرام (الملاحظ انه ناقص إلى النصف تقريبا) أما السعر خمسة ريال مايزيدش.

قلبي (مفقوش)
- ولماذا الوزن ناقص شوي (حسب قولك)؟
** يا أخي أنت صحفي مش عارف ايش إلي نحصله من صحة البيئة والبلدية والتجارة ، والتموين وكل المصالح الحكومية إلي تجي (تأتي) يوميا تشتي حقها (المقسوم) ، يااخي خلينا نترزق الله وشوف واحد غيري قد قلبي مفقوش (مشقوق إلى نصفين).
- أنا ممكن إني أساعدك؟
** شكرا وألف شكر خليني في همي ومساعدتك ماشتنفعنيش (لن تنفعني).
- طيب ليش هذا الرغيف بهذا الحجم الصغير جدا؟
** قالها وهو في قمة الغيظ والانفعال (روح اسأل حكومتك ، اسأل باجمال ، اسأل وزير التموين ، اسأل المسؤولين إلي وصلوا الرغيف لهذا الحجم ، مو حناكتكم " رقابتكم " علينا نحن المساكين) ، ولو سمحت يااخي روح شوف واحد يتفاهم معاك خليني اطلب الله على عيالي الله يرضى عليك.

جمعية لدعم الرغيف
حامد مكرد يعمل في احد المخابز الآلية في أمانة العاصمة سألناه عن حجم الرغيف ، لماذا وصل إلى هذا الحجم والوزن الضئيل جدا؟
** أنا لي أكثر من 30 سنة في مهنة الخبز ولوازمه ، كان الرغيف إلى عام 1991م يصل إلى 300 غرام تقريبا وكان سعره ربع ريال ، أما اليوم فلا يصل إلى 60 غرام إلا بالصدفة وضربة الحظ وسعره خمسة ريالات (يبتسم) ، اما العوامل التي أدت إلى نزول الرغيف إلى هذا الحجم كثيرة أهمها غياب الدور الحكومي في ممارسة الرقابة بشكل عام ، يعني مش الرقابة على الأفران بس ، الرقابة على المطاحن ، الرقابة على التجار الكبار الذين يستوردون القمح من أميركا وكندا واستراليا ، الرقابة على توزيعه ، الرقابة على الأسواق ومافيها من محسنات مضره ، الرقابة على الأسعار بشكل عام ، إضافة إلى العامل الاقتصادي الذي ارتفع فيه سعر الكيس الدقيق من 70 ريال (سبعين) قبل عام 93 إلى 3000 ريال (ثلاثة ألف) هذه الأيام ، هذه كلها عوامل أدت إلى تضاءل حجم الرغيف ووصوله إلى الحالة التي وصل إليها اليوم بحيث لا يكفي الرغيف الواحد طفل عمره ثلاث سنوات.
- معنى هذا أن الدولة هي المسؤولة عن هذا الحجم؟
** بكل تأكيد ، إذا كانت الدولة جادة في دعم المواطن صحيا وغذائيا فالمفروض ان تعمل مثلا جمعية للأفران أو آلية خاصة لدعمهم بالدقيق الممتاز الذي تختاره وفق المواصفات الخاصة لديها من قبل المختبرات والاختصاصيين في مجال التغذية ، ثم تبيعه لهم بسعر تشجيعي بالإضافة إلى بقية مكونات الرغيف من محسنات وخلافه ، وبهذه الطريقة يحق لها فرض سعر ووزن محدد ومن خالف راقبته وحبسته وأغلقت مخبزه ، ويحق لها اتخذا أي إجراء تراه مناسبا ، أما بهذه الطريقة فلا تستطيع ان تفرض وزن ، ولعلمك فالسعر أصبح كالعرف الاجتماعي فقط وكالسلعة التي لو حصلتها غالية في محل فلن تشتريها ، وليس لان الدولة قررته لان هناك مخابز اليه لديها إمكانيات كبيرة أسعارها مرتفعة قليلا حيث تبيع 9 أرغفة حجم كبير ب100 ريال والحجم الصغير رهيف (ضعيف) جدا عن الخبز الذي نعمله نحن ومع ذلك لا رقابة ولا يحزنون.
- إلى ماذا تريد ان تصل؟
** أريد أن اصل إلى أن الحكومة هي المسؤولة عن وصول الرغيف إلى هذا الحجم الصغير والعديم الفائدة وربما يكون (الضار) كما تقول الجرائد بالمحسنات التي ندخلها عليه.

لو دعمت الرغيف لأعلنت إفلاسي
- وانتم ألا تتحملون جزء من المسؤولية؟
** لا ، لا نتحمل أي مسؤولية ، أنا أسست هذا المخبز بأكثر من 7 مليون ريال ، وأريد ان اطلب الله ، وأشقى على عيالي ، كيف تشتيني (تريدني) ادعم لك الخبز من قوت عيالي ، بكره سوف أعلن إفلاسي ، يااخي المثل يقول (على قد رجلك مد لحافك) إذا كان كل شئ غالي فكيف تشتيني أصلح لك خبز كبير ورخيص ، تعال معي احسب لك كم الكيس الدقيق يخرج ارغفه وبكم تكلفة الرغيف الواحد تطلع علي أنا كصاحب المخبز بعد خصم المحروقات وقيمة الدقيق والمحسنات والإيجارات والكهرباء والعمال والبلدية وصحة البيئة ومرافق الدولة المختلفة إلي يجوا كل يوم إلى هنا للجباية غير الرسمية ، وكل يوم بحجة ، أنا اقدر احلف لك يمين انه ما معانا ريال صافي في الخمسة الأرغفة ، احلف لك يمين ان ربحنا الصافي اقل من ريال واحد في خمسة أرغفة مجتمعه ، الله يستر علينا ويطرح البركة بس.

- ماهو الحل من وجهة نظرك؟
- الصميل (قالها بسرعة ) ويعني الشدة والحزم من قبل الدولة والصميل باللهجة اليمنية الدارجة تطلق على الخشبة ذات الرأس الكبيرة المعدة للضرب ، ويقصد ان الدولة يجب ان تضرب بيد من حديد على المخالفين بعد ان تكون قد عملت ما ذكره في ثنايا حديثه من إجراءات لدعم الدقيق وتوفيره مع المحسنات بأسعار تشجيعية.


الجرعة؟
المحرر : لي تنبيه أخير وهو أني أعددت هذا التحقيق قبل إقرار الجرعة الأخيرة في مجلس النواب ضمن البرنامج الذي اصطلح على تسميته شعبيا (برنامج الإفقار الشامل) الذي بدأ عام 1995م ، وهي الجرعة التي تحتوي على رفع الدعم عن المشتقات النفطية ومن بينها الديزل الذي يعمل به معظم المخابز والأفران في اليمن ، والمعروف انه بارتفاع المشتقات النفطية فان كل شئ سيرتفع ثمنه ولا نعلم ماهو المصير الذي ينتظر رغيف الخبز بعد الجرعة.
إنا لمنتظرون؟