الانقسام حول عماد مغنية:
خلاف حادّ علىتقديره ذمّاً أو مدحًا
بلال خبيز من بيروت: أثار اغتيال أعلى قادة حزب الله العسكريين شأناً، الحاج عماد مغنية، في دمشق ردود فعل سياسية وشعبية تجاوزت العالمين العربي والإسلامي نحو العالم الواسع. وما زال الناس يذكرون كيف سلطت الصحافة أضواءها على وزير دفاع اسرائيل ايهودا باراك عند إذاعة الخبر من قبل حزب الله، وهو كان في زيارة رسمية إلى تركيا. كذلك لم ينس أحد التصريح الأميركي تعليقاً على اغتياله، الذي اعتبر أن العالم أصبح أفضل من دونه. في العالم العربي ضجيج شعبي وسياسي حيال الحدث ومترتباته.
لكن هذا الضجيج لم يبلغ حد الأزمة المفتوحة الشاملة وإن كانت الأمور تبدو بالغة الخطورة في لبنان والعراق والكويت، بسبب الانقسام الشعبي والسياسي حول تاريخ الفقيد، مع استثناء وحيد يتعلق بالساحة الفلسطينية التي أجمعت قواها السياسية جميعاً على أهمية الرجل واعتبرت رحيله خسارة لا تعوض، خصوصاً بعد التصريحات التي أدلى بها اللواء سلطان ابو العينين امين سر حركة فتح في لبنان التي قال فيها إن عماد مغنية كان ضابط التنسيق بين الرئيس الراحل ياسر عرفات وامين عام حزب الله حسن نصرالله في مجالات دعم الانتفاضة الفلسطينية لوجستياً وسياسياً على حد سواء. ولم يعد خافياً ان الراحل لعب دوراً اساسياً في قضية السفينة كارين اي التي كانت تحمل اسلحة لمنظمة التحرير الفلسطينية اثناء ما اصطلح على تسميته الانتفاضة الثانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
|
عناصر من حزب الله خلال مسيرة للحزب في قرية طير دبَّا. 17 شباط (فبراير) 2008. أ ف ب |
الذين يعتبرون مغنية بطلاً ليسوا كلهم في قائمة أعداء اميركا اينما وجدت. والذين يعتبرونه إرهابياً مجرماً ليسوا كلهم في خانة من يوالي اميركا ويفضل الاستسلام على المواجهة. لكن المشترك بين الجميع اعترافهم ان الرجل لعب أدواراً في غاية الاهمية طوال العقدين الماضيين على امتداد رقعة جغرافية كبيرة تمتد من فلسطين إلى ايران مروراً بالسودان والعراق والكويت وبيروت بطبيعة الحال. والخلاف الحاد على تقديره ذماً او مدحاً، لا يتصل بدوره الشخصي وعقله الفذ. فهذا امر لا يختلف فيه اثنان، والأرجح أن أعداءه يقدرون خطورة هذا العقل الفذ أكثر من أصدقائه في بعض الأحيان.
نشاط عماد مغنية حياً يفتح أسباب الخلافات السياسية على مصراعيها في طول العالم العربي وعرضه، لكنه يؤشر من جهة أخرى إلى طبيعة متغيرات الصراعات التي تحف بالمنطقة والتي يبدو انها مرشحة للاستمرار زمناً طويلاً، وقد تكون نتائجها اخطر كثيراً مما يمكننا ان نتخيل.
الفلسطينيون بفصائلهم كلها، المتهمون منهم انهم انهزاميون ومفرطون بالحق الفلسطيني، كحركة فتح، والمتهمون منهم بالإرهاب كحركة حماس يجمعون على الدور الإيجابي الذي قدمه مغنية لقضيتهم. ذلك ان نقطة الالتقاء الوحيدة بين مقاومات اليوم ومقاومات السبعينات من القرن الماضي تنعقد عند حد القضية الفلسطينية. حيث ترى ايران أن أحد مداخلها لحيازة دور اقليمي وازن في المنطقة يتمثل بالدخول على خط القضية الفلسطينية. والارجح ان الدور الإيراني ينظر بعين الأمل والرجاء لاحتمال ان تحوز إيران مقعدًا دائما في اي مؤتمر مقبل للسلام بين العرب وإسرائيل. وعلى النحو نفسه كانت الحركة القومية العربية بزعامة جمال عبد الناصر في الستينات من القرن الماضي تعتبر دعم القضية الفلسطينية من المفاصل الأساسية التي تنعقد عليها سياساتها الشرق اوسطية. ولم يكن الخصم السياسي للحركة القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر اقل اهتماماً بالقضية الفلسطينية، والذي تمثل يومذاك بالمملكة العربية السعودية، بل ان العلاقات القوية التي ربطت حركة فتح بزعامة الرئيس الراحل ياسر عرفات وقادة المملكة اظهرت ان نوائب الدهر وصروفه لم تقو عليها وكانت في وجه من الوجوه اصلب العلاقات وأتنها على الإطلاق. لكن ما يختلف بين الامس واليوم لا يتصل بالقضية الفلسطينية وحدود المساهمة في دعم الشعب الفلسطيني، بل بهوية المشروع المقاوم للهيمنة الامبريالية والأطماع الإسرائيلية في المنطقة. ويمكن القول ان انقسام الربع الاخير من القرن الماضي كان داخل اطار الهوية الواحدة، اي بين جزء من العرب يرون الرأي المصري في المعركة التي تخوضها المنطقة والمشكلات التي تواجهها وجزء عربي آخر يرى رأي المملكة العربية السعودية في انجع السبل للمواجهة والصمود. وذهب يسار السبعينات في لبنان وفلسطين إلى اعتبار ان انظمة الاستبداد الإشتراكية ( دولتا البعث خصوصاً ) تشكل الخاصرة الرخوة التي ينفذ منها المشروع الاميركي إلى المنطقة، والتي يستقوي بها المشروع الصهيوني خصوصاً. والواقع ان الهزائم التي تعرض لها العرب في حروبهم مع إسرائيل كانت هزائم هذه الانظمة بالتحديد. لكن ما لا يقبل الجدال في تاريخ تلك الحقبة من عمر النهوض العربي كان على الدوام انتماء المعسكرين إلى رابطة عروبية تغلب الانقسامات السياسية على غيرها من الانقسامات الدينية او المذهبية او العرقية. وفي مثل هذا الانقسام ما يحمي الدول الوطنية من التذرر والتشظي تحت وطأة الانقسامات المذهبية والدينية.
استلم حزب الله راية المقاومة ضد إسرائيل في جنوب لبنان في لحظة كانت الانقسامات السياسية تشهد تغيرات عميقة وجذرية. ومنذ اللحظة الأولى جاهر حزب الله بمذهبيته وطائفيته، فلم تنج خطبة من خطب قادته من التذكير المنتظم بهوية المقاومين الدينية والمذهبية، بل وانعكس هذا على طبيعة الصفات التي يحملها قادته ومحازبوه، فقادة حزب الله اليوم هم اما حجاج او شيوخ، بافتراض ان كل صفة من هاتين الصفتين لها معنى في التراتبية الحزبية، وطبيعة المهام الموكولة لأعضائه. وإذ يبدو الامر في لبنان مفهوماً ومعقولاً، نظراً إلى كون الطائفة الشيعية في لبنان تقيم على تخوم حرب لبنان وسلمه، ذلك ان اكثر من ثمانين بالمئة من القرى المتاخمة للحدود مع اسرائيل يقطنها شيعة لبنانيون، فإن تعميم ظاهرة حزب الله على المنطقة عموماً قد ينذر باضطرابات لا سابق لها. لذلك يبدو الانقسام حيال مغنية واغتياله مفهوماً تماماًً، فالشيعة في العالم العربي عموماً أميل إلى تكريم الفقيد ومديح انجازاته والتساهل مع الإلتباساتحوله في خطف الطائرات والأعمال ذات المنحى الإرهابي، فيما يرى السنة عموماً ان هذهالالتباسات هي ما يجب ان يحاكم عليه الرجل.
|
فتيات من كشافة حزب الله يؤدين التحية خلال مرورهن أمام صورة عماد مغنية في ضاحية بيروت الجنوبية في 16 شباط (فبراير) 2008. أ ف ب |
مثل هذا الإنقسام، إذا ما استشرى، يهدد الدول الوطنية في نسيجها الإجتماعي والسياسي ويقلب امر مواجهة اسرائيل وبالاً على العرب من دون تمييز. على اي حال، ليس خافياً ما آل إليه الدعم الإيراني لحركة حماس من انقسام فلسطيني يهدد بدفن الولد مع ماء الغسيل. وايضاً لم يعد خافياً ان حزب الله، بسبب من مذهبيته الضيقة، يهدر انجازاته يومياً في زواريب بيروت، ويعود مشاركاً وداعماً ومحرضاً على حرب اهلية من القرون الوسطى امام كاميرات التلفزيون.
التعليقات