المحكمة والحرب والإغتيالات والإنقسامات تكبّر التحديات
4 أعوام على إغتياله: تركة الحريري ثقيلة جدًا
إيلاف ديجتيال- إيلي الحاج: لم تخطر ببال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري يومًا مسألة تركته السياسية، فالرجل اغتيل بعمر 61 سنة ولم يكن مصدقًا كل التهديدات والإنذارات التي تلقاها، مطمئنًا إلى ضمانات بأن لا أحد ولا جهة تجرؤ على قتله لأن ثمنه غالٍ جدًا كما قال لصديقه النائب وليد جنبلاط قبل يومين من 14 شباط / فبراير 2005 الذي كان مفترقًا شديد الصعوبة على لبنان وآل الحريري وسورية وأهل البلدين. لكنه لم يكن مطمئنًا تمامًا بدليل قوله أيضاً لجنبلاط :quot; إما سيقتلكونك وإما سيقتلوننيquot;. بحسب معلومات مستقاة من محضر للجنة التحقيق الدولية، كان المفترض بحسب تحليل أحد كبار المسؤولين- وهو ضابط سئل في اجتماع عما يُحتمل أن يكون رد فعل السنة في لبنان على قتل الحريري- أن السُنة سيشيعون الرجل إلى مثواه الأخير ويعودون إلى بيوتهم وأشغالهم ، وبعد أيام قليلة يعود كل شيء كما كان. السُنّة في لبنان لم ينزلوا إلى الشارع منذ أيام الرئيس جمال عبد الناصر، قال. وكان تحليله منطقيًا.
لكن ما حصل كان النقيض تمامًا. التحدي فرض رد التحدي . يقول جنبلاط عن ذلك اليوم:quot; اتفقنا منذ اللحظة الأولى في منزل رفيق الحريري في قريطم على رفض اقامة جنازة رسمية. وقررنا فورًا اعلاننا اتهام النظام الامني السوري اللبناني بجريمة الاغتيال، وعلى رأسه ( الرئيس السابق) اميل لحود في لبنانquot;. ويضيف:quot; ما حدث حول الضريح كان متوقعًا. لكن ما حدث يدل في وضوح الى أي حدّ كان رفيق الحريري يعمل في دأب وصمت كبيرين من أجل لبنان وجميع اللبنانيين. لقد كان رجل خير وعطاء صامتين وبلا حساب وللجميع. وجميعنا اكتشفنا، مسلمون ومسيحيون في زيارات الضريح، لبنانية رفيق الحريري الأكيدة. فما حدث حول الضريح، فضح أكاذيب حملات التشهير المدبرة التي كانت تقوم بها، ضد رفيق الحريري، مجموعات لبنانية كثيرة مرتبطة بنظام الوصاية السوريةquot;.
من يوم التشييع إلتقى حشد هائل من كل أطياف اللبنانيين وأحزابهم وانتماءاتهم في ما عرف بـquot;ثورة الأرزquot; مطالبين بالحرية والإستقلال لبلادهم، وألقيت أعباء ضخمة خصوصًا على نجل الحريري النائب سعد ليحمل التركة. ولم يكن الحريري الأب وجّه أحداً من أبنائه إلى السياسة بل إلى عالم الأعمال. وباستثناء شقيقته الوزيرة الحالية بهية لم يكن أحد من عائلة الحريري يعمل معه في السياسة، متكلاً في ذلك على فريق واسع من المستشارين والمساعدين ساهموا في صعوده الإسطوري مدعوماً بقدرات فكرية إستيعابية كبيرة وبثروة هائلة في مقاييس بلد صغير مثل لبنان . مع سعد بدا أن العائلة نجحت في البقاء من ضمن quot;العائلات السياسيةquot; التي تدير لبنان منذ قرون بعدما اخترقها والده رفيق الحريري في سرعة مذهلة قالباً صفحة بيوتات تقليدية كثيرة منها.
انخرط سعد الحريري في وقت قصير في العمل السياسي بعدما قررت العائلة أن يكون ممثلها في هذا المضمار، مقابل انصراف شقيقه الأكبر بهاء إلى الأعمال المالية. وبالطبع كان من المبالغة والظلم توقع أن يكون سعد بديلاً من والده . فرجل واحد لا يملأ فراغ رفيق الحريري المتعدد، لذلك كان التعويل على الموقف والفريق المتكامل والعمل الجماعي . وكان الحل الأفضل للبنان والذي لم يتحقق هو تشكيل حكومة منبثقة من مجلس النواب الجديد الذي انتخب عام 2005 لتضم فريق عمل متجانسا يتمتع بكفاءة عالية واختصاصات متنوعة، وتكون قادرة على الحكم وتحرير الخيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأن الحكومات السابقة التي ترأسها الحريري كانت تعتمد بنسبة عالية على شخصه. وكان مستحيلاً بعد غيابه المفاجىء ايجاد البديل على صعيد شبكة العلاقات الدولية التي عززها الرئيس الحريري من خلال تجيير علاقاته الخاصة لمصلحة لبنان السياسي ومصالحه الاقتصادية.
لكن المشكلة كل المشكلة مع تهاوي محاولات التوصل إلى حلول للقضية الفلسطينية هو الإنقسام العمودي الذي ضرب المنطقة ولا سيما لبنان بسبب اندفاع التحالف السوري- الإيراني إلى تعزيز أوراقه الظاهرة والمخفية فيها. كانت تظاهرة 8 آذار / مارس التي جمعت حشداً هائلاً هي أيضاً في محيط ضريح الحريري وسط بيروت، قبل أن يجف التراب عليه، وحملها شعارات quot;الشكر والوفاء لسوريةquot; المتهمة قيادتها باغتيال الحريري أكبر مؤشر إلى أن إدارة التركة لن تكون سهلة على سعد الحريري. فحتى والده لم يواجه ما واجهه سعد لاحقاً من أوضاع ضاغطة عليه وعلى شعبه. وربما عرف ما هو أدهى وأخطر ، ولكن بقيت الأمور على مستواه الشخصي. أما في ظل قيادة الحريري الإبن فسيدفع سنة بيروت خصوصا ولبنانيون آخرون من مختلف المناطق والطوائف دماً لقاء مواقف سياسية.
لم يكن ما حصل في 7 أيار/ 2008 في شوارع بيروت وبعض الجبل بعد الإعتصام الطويل قبالة السرايا إلا قمة الجبل البارزة . وفي الواقع عانى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بدوره ما لا يُحتمل من أنواع التشهير والحملات وأثبت صلابة نادرة في المحافظة على رؤية صديقه الحريري إلى لبنان والمنطقة ، وبذل مع آخرين جهوداً مكلفة من أجل تحقيق المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري، والتي ستنطلق في أعمالها في أول آذار/ مارس المقبل في لاهاي. ودفعت شخصيات 14 آذار وجمهورها تضحيات بلغت الأرواح مع اغتيال سلسلة من أركان quot;ثورة الأرزquot;، لكن لا المسيرة نحو المحاكمة توقفت ولا الأهداف تغيرت.
وفي موازاة الإنقسام الطائفي المخيف الذي اندلع في لبنان والمنطقة أضيفت متاعب ناتجة من حرب تموز/ يوليو 2006 بين quot;حزب اللهquot; وإسرائيل . متاعب عرف مثلها الحريري مع الحزب وشكل له عام 1996 صمام أمام من هلال quot;تفاهم نيسان/ إبريلquot;. وقبل اندلاع حرب تموز كان الحريري أطلع الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله على خطورة القيام بعمليات ضد إسرائيل لأن الرد سيكون قاسياً جداً، فوعده بألا تحصل عمليات. وبعد ذلك قال نصرالله عبارته الشهيرة :quot; لو كنت أعلمquot;.
كان الحريري الأب جهد خلال توليه رئاسة الحكومة، في وضع برامج اعمال وتسخير علاقاته الدولية من أجل اعادة وضع لبنان على الخريطة الدولية واعادة تطوير دوره الاستراتيجي كمركز للاعمال والخدمات والسياحة. وهذه كلها تابعها سعد، لكن الأهم هو ما تحقق زمن الحريري على الصعيد الوطني . وهو مصالحة المسلمين في لبنان، ولا سيما السُنة منهم مع الغرب. فقد اكتشف هؤلاء اللبنانيون الذين اعتقدوا طويلاً أن فرنسا مثلاً منحازة إلى مواطنيهم المسيحيين أن الأمر اختلف مع الحريري الذي كان يخرج معه الرئيس جاك شيراك إلى باب سيارته خلافا لكل بروتوكول. شيراك الذي ستنطبع صورة انحناءته أمام ضريح صديقه المغتال في أذهان اللبنانيين طوال هذا العصر.
ولم تتح التشنجات السياسية والميدانية لورثة رفيق الحريري سواء في القيادة السياسية لتياره quot;المستقبلquot; أم في الحكومة وقوى 14 آذار بعامة أن تتابع نهجه على صعيد العمل الرسمي الذي اتسم بالتطور والعصرنة باتجاه خلق مستقبل افضل للبنان، إذ كان يريد ان يجعل من بيروت laquo;مونتي كارلو الشرقquot; . وهذه دينامية كانت غريبة على السياسات التقليدية، فلم تتمكن من مجاراته، من هنا كانت العراقيل السياسية لبرنامجه، الا انه استطاع رغم كل العراقيل وبفضل دينامية وشخصيته وثقة العالم به ان يبني قواعد العمل الانقاذي من خلال خلق المؤسسات وتشكيل الكوادر المتخصصة وتحفيز الفرص والعوامل الجاذبة للاستثمار الاجنبي والعربي الذي ساهم في عملية نمو اقتصادي مهمة جدًا للبنان.
ولم تتح الفترة الكارثية التي أعقبت تشكيل حكومة السنيورة ، والمستمرة حتى اليوم الخروج من الازمة السياسية والحفاظ على laquo;تركة الحريريraquo; والتي هي نتائج laquo;باريس1 ـ 2raquo;، علماً ان الكل متفق على إتفاق الطائف . ولبنان يعيش في حالة شلل عملياً بين فترة وأخرى إما بسبب حرب مع إسرائيل وإما بسبب الإرهاب كما جرى في معركة نهر البارد ، وإما بالإعتصامات والإضرابات ، وإما بالمواجهات المسلحة كما حصل في 7 أيار الماضي. كما أنه بلد مثقل بالديون ويعيش على المال السياسي ، أما المال السياحي فيظل مهددا في أي وقت ولأدنى سبب.
يبقى أن ما تحقق بإصرار القيمين على quot;تركة الحريريquot; لم يكن ليتحقق في الخيال: خرج الجيش السوري من لبنان وعاد بلد حريات، أي عاد لبنان يشبه نفسه. واعترفت سورية بلبنان. وأقيمت المحكمة الدولية. وعاد قرار لبنان إليه إلى حد كبير . كل نقطة من هذه النقاط في ذاتها معجزة . والبقية تأتي.
التعليقات