&
&
&
جوزف سماحة : قيل ذات مرة، عن حق، إن "الاشتراكية" تحولت إلى أداة من أدوات السياسة الخارجية الروسية. ويمكن القول اليوم، عن حق، إن "الديموقراطية" كانت أداة من أدوات السياسة الخارجية الأميركية. ويعني ذلك أن تعميمها، ومعها ترسانة المفاهيم الخاصة بحقوق الإنسان والأقليات، ليس مطلوباً في ذاته. يصبح هدفاً عند التقائه بالمصالح الوطنية الأميركية. ويسقط بمجرد أن يبرز تناقض بينه وبينها.
ما لم تستوعبه واشنطن كفاية هو أن هذه الأداة باتت مثلومة منذ انهيار جدار برلين. أي إنها كانت فعالة جداً في سياق الحرب الباردة ومسرحها الأوروبي وتراجعت فعاليتها مع انتصار <<العالم الحر>> وانهيار حلف وارسو.
ففي أوروبا الوسطى والشرقية وفي ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي نفسه تلاقى المطلب الديموقراطي مع المطلب القومي. فالشعوب الساعية إلى التحرر الوطني استعارت الشعار الديموقراطي بصفته <<إيديولوجيا>> الخصم العالمي للجهة التي كانت تعتبرها <<استعمارية>>. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن هذه الشعوب كانت على مستوى من التطور العام يسمح لها، كما شاهدنا، بخوض تجربة من هذا النوع. ولوحظ، بعد انهيار الجدار، وبعد التحولات الكبرى في الأحزاب العمالية الرئيسية، وبعد إنجاز الاستقلال، أن العودة إلى أطروحات يسارية معتدلة وديموقراطية هي الغالبة وأنها مترافقة مع نزوع شديد إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي أو لحلف شمال الأطلسي.
إن الولايات المتحدة صاحبة فضل على الشطر الغربي من أوروبا لأنها ساهمت في تحريره من النازية. وهي صاحبة فضل على الشطر الشرقي لأنها لعبت دوراً حاسماً في إنقاذه من توتاليتاريات سبق لمركزها السوفياتي أن تحمّل العبء الأكبر من هزيمة النازية.
الاستنتاج مما تقدم هو أن الديموقراطية، في هذه البلدان، تقود، بشكل طبيعي جداً، إلى علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، ولو أنها علاقات تشوبها صراعات مصالح محدودة ومنضبطة بالإطار التحالفي الواسع.
لقد تغيّر العالم فعلاً عند منعطف التسعينيات. وإذا كانت الديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية سجلتا انتصارات مدوية فإن معطيات المرحلة الجديدة خففت، إلى حد بعيد، من فعالية الشعار الديموقراطي كأداة من أدوات السياسة الخارجية الأميركية.
لماذا؟ لأنه في العالم غير المتقدم، وفي العالمين العربي والإسلامي خاصة، ثمة تعارض واضح بين المطلب القومي وبين السياسة الأميركية. ويقود ذلك، حكماً، إلى تراجع من جانب واشنطن في التشديد على الديموقراطية منهجياً لصالح التمسك، لا بل الضغط المنظم، لتوسيع أفق الليبرالية الاقتصادية.
تأسيساً على ذلك يمكن القول إن الديموقراطية لم تعد مطلباً أميركياً في هذه المناطق. وبدل أن تكون، كما في أوروبا الشرقية، جسراً لعلاقة إيجابية مع الولايات المتحدة، تحولت، لارتباطها بالمطلب القومي (وأحياناً الاجتماعي)، إلى عنوان مواجهة.
إن جولة سريعة في ما يحصل في العالم، اليوم، تؤكد هذا الانطباع.
ففي بيروت، مثلاً، يطالب السفير الأميركي فنسنت باتل بمصادرة أموال <<حزب الله>>. ويضيف، بأريحية <<ليس فوراً>>. ويصر على مطلبه برغم أنه لا يجد أي صدى داخلي، وبالرغم من أن خيار احتضان المقاومة يحظى، ديموقراطياً، بأرجحية حاسمة. ويكاد المرء يقبل من باتل هذا الطلب إذا وافق من جانبه على شرط واحد: تأمين أكبر قدر من الحماية الديموقراطية له. ويعني ذلك أحد أمرين لا ثالث لهما. إما تحترم واشنطن رغبة اللبنانيين وإما تسمح لهم، في أقرب وقت ممكن، بالمشاركة في الانتخابات... الأميركية. كل ما عدا ذلك إملاء لا صلة له بالحريات.
وعلى محور كابول إسلام أباد لا يمكن لأحد إقناع أحد بأن الولايات المتحدة لا تفضل الاستقرار على حساب الديموقراطية. التجربة مع برويز مشرّف ذات معنى. والاستقرار المشار إليه هو ذلك الذي يسمح لواشنطن بتنفيذ سياساتها وليس الذي يسمح للباكستانيين والأفغان بهدوء يجعلهم أقدر على تقرير مصائرهم.
ولن نجد أميركياً واحداً، في موقع المسؤولية، يرتضي الديموقراطية للفلسطينيين إذا كانت تؤدي إلى أي نوع من أنواع الضرر بإسرائيل.
ولعل المثال الأكثر حراجة هو ما يحصل في الدوحة حالياً. فالمتظاهرون ضد اجتماع منظمة التجارة العالمية يرفعون شعاراً مركزياً يقول: <<ماذا نريد؟ الديموقراطية!>>. وهذا صحيح. فالمنظمة المعنية تريد التقرير بأوضاع العالم عبر مداولات تُحاط بأقصى قدر من السرية. وآلية العمل المعتمدة فيها تعطي لممثلي أكثرية المعمورة صوتاً أقل تأثيراً من صوت الدول الغنية. ولقد كان مثيراً، قبل سنوات، أن مجرد الكشف عن مشروع كانت تعده المنظمة أدى إلى إلغائه وسحبه من التداول في انتظار أوقات أفضل.
إن هذا المثال مهم جداً، وهو كذلك لأنه يضع موضع تساؤل البند الجوهري في السياسة الخارجية الأميركية: الليبرالية المعولمة. وهو يفعل ذلك باستخدام ما كان يفترض أن يكون الشقيق التوأم لهذه الليبرالية: الديموقراطية.
لقد شهد العقد الماضي، بدليل الأمثلة السابقة وغيرها الكثير، انتقالاً للسلاح الديموقراطي من يد إلى يد. لقد أدى اندماجه بالمطالب القومية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لشعوب بكاملها إلى تراجع واضح في القدرة الأميركية على استخدامه كأداة من أدوات السياسة الخارجية. لقد كان ذلك صحيحاً قبل 1990 لكنه، في 2001، أكثر وضوحاً.(السفير اللبنانية)
&