&

بعد اسابيع تأخذ معركة الرئاسة الفرنسية منحى بالغ الخشونة وسنبدأ سماع اصوات الطامحين في الرئاسة تعلو أكثر من أي زمن مضى. فالرئيس جاك شيراك يبذل ما في استطاعته واستطاعة اصدقائه واولهم واصدقهم في وقفته معه رئيس مجلس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، من اجل ان يجدد الرئاسة وبحيث لا يخطفها منه رئيس الحكومة الفرنسية الحالي ليونيل جوسبان الذي ما زال ينزف غضباً لأن شيراك خطف منه الفوز في معركة الرئاسة السابقة بعدما هذا الفوز شبه مضمون له. وقد تكون الوقفة الحريرية في اللحظة ما قبل الاخيرة الى جانب شيراك هي التي حسمت فوز الرئيس الديغولي الذي ما زال الى الآن حافظاً للجميل ويحاول رده لصديقه رفيق الحريري بأشكال مختلفة من بينها ان ابواب "الاليزيه" (قصر الرئاسة الفرنسية) مفتوحة في استمرار للحريري سواء كان رئيساً للحكومة او كان خارج الحكم في انتظار أن يستعيد المنصب على نحو ما حدث بالفعل. كما ان التسهيلات الفرنسية تواصلت وبحيث ان الحريري بات من قلائل في العالم يتمتعون بميزة انه مواطن بامتياز في ثلاث دول دفعة واحدة هي الوطن المحلي لبنان والوطن الاقليمي السعودية والوطن الدولي فرنسا. وهذا الوطن المثلث ساهم مجتمعاً في تكوين رجل دولة من نوعية كثيرة التميز ونكاد نقول نادرة عندما نقارن بين الذين يشغلون منصبه، او اولئك الذين سبق وتعاقبوا على منصب رئاسة الحكومة في الدول العربية بالذات.
وتبدو معركة الرئاسة الفرنسية التي باتت قريبة وكأنما هي معركته. وتلك ايضاً حالة جديدة في دنيا السياسة. فاذا فاز الصديق جاك شيراك بالرئاسة لولاية جديدة فهذا معناه ان الحريري ضمن حليفاً دولياً بذل من اجل الحريري وهو في رئاسة الحكومة اللبنانية، ومن اجله بعدما ابعدوه في سياق رهان لم يصمد، جهداً لم يحدث ان حظي به رئيس دولة صغرى في العالم من رئيس دولة كبرى، باستثناء كل رئيس حكومة في اسرائيل من كل رئيس جمهورية في اميركا. وعندما نقول ذلك فليس من باب التشبيه، ذلك ان الوقفة الشيراكية مع الحريري خالية من الشوائب والابتزازات التي هي سمة وقوف رؤساء الادارات الاميركية عموماً مع الذي يترأس الحكومة في اسرائيل، وما تفرضه الابتزازات الصهيونية على اولئك الرؤساء من ضغوط تجعلهم يتخذون مواقف على حساب الحق والقيم وشرعة حقوق الانسان وشرائع الاديان السماوية.
بل ليس مبالغة القول ونحن نتأمل في صفحات العلاقة الشيراكية - الحريرية ان الرئيس شيراك وصل الى حد أنه بات يرى ان لبنان هو رفيق الحريري وان رفيق الحريري هو لبنان، او أنه في الحد الادنى وتفادياً للمبالغة بات ينظر الى لبنان من خلال الحريري وهذا مخالف للنظرة التقليدية للعلاقة الفرنسية - اللبنانية على مر الرئاسات منذ ما قبل الاستقلال. بل اننا في سياق التوصيف يمكننا القول ان جاك شيراك الرئيس بات هو "الصديق الحنون" لرفيق الحريري بعدما كان شائعاً وإلى درجة التكريس ان فرنسا هي "الام الحنون" لكل لبنان. واذا كان لا بد من بعض الشواهد كتأكيد لما نقوله، فإنها اكثر من التصور، إلاّ ان الذي يستوقفنا هو ما بذله الرئيس شيراك من اجل ان يستضيف لبنان القمة الفرنكوفونية والتي اوجبت تأجيلها الظروف المأساوية الناشئة عن العملية الترويعية التي استهدفت يوم 11 سبتمبر (ايلول) الماضي مركز التجارة العالمية في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) في واشنطن وما استتبع العملية من رد فعل بلغ مداه بالحرب الاميركية - البريطانية المتواصلة على افغانستان بذريعة ان "نظام طالبان" يؤوي اسامة بن لادن المشتبه به بأنه وراء العملية الترويعية تخطيطاً من جانبه ومباركة من الملا محمد عمر وتنفيذاً من عناصر ينتمون الى "تنظيم القاعدة" الذي يتزعمه والذي تستضيفه "طالبان". وكان من المستحيل وقوع الاختيار على لبنان لكي يستضيف القمة الفرنكوفونية لولا جهود خارقة بذلها شيراك من اجل صديقه رفيق الحريري. واستحالة عقد هذه القمة في لبنان ليس لأنه مشكوك من الدول الاعضاء في هذه المنظومة بفرنكوفونيته وإنما لأنه الدولة العربية الوحيدة التي تخوض شريحة عريضة من شعبها متمثلة بـ"حزب الله" عمليات مقاومة مسلحة ضد اسرائيل وهذا غير مرحَّب به من جانب بضع دول اساسية في منظومة الفرنكوفونية، يضاف الى ذلك ان الادارة الاميركية ونتيجة تحريضات وابتزازات تمارسها اسرائيل عبر الصهيونية العالمية واللوبيات اليهودية المستشرية في جسد الادارة الاميركية، لا يمكنها ان تتحمل انعقاد مثل هكذا قمة. وستثير ما في استطاعتها من الغبار الكفيل بحجب الرؤية، اي بما معناه توغر صدور بعض الدول الاعضاء وتضغط على بعض آخر وتتمنى على بعض ثالث وتتوعد بعضاً رابعاً.. وهكذا، كي لا تُكتب للقمة الفرنكوفونية فرصة الانعقاد في لبنان واذا هي عُقدت لا يُكتب لها حظ النجاح. ثم جاءت العملية الترويعية يوم 11 سبتمبر الماضي لتدفع الامور في هذه الاتجاه، هذا مع الاخذ في الاعتبار أن العملية المشار اليها كانت حدثاً يحفظ ماء وجه الحكم اللبناني الذي استجاب لتأجيل القمة الفرنكوفونية التي كان مقدَّراً لها في حال انعقادها من 26 الى 28 اكتوبر (تشرين الاول) الماضي ان تشكل انتصاراً زاهياً للتوأم السياسي الفريد من نوعه: جاك شيراك - رفيق الحريري. ومع الاخذ في الاعتبار ايضاً ان نغمة التأجيل كانت بدأت قبل العملية الترويعية. وكل ذلك لأن اسرائيل لا تتحمل، وتشاركها الادارة الاميركية هذا الشعور، ان تنعقد قمة دولية في بلد على مرمى حجر من حدودها وهو بلد له تراثه وفاعليته على صعيد المقاومة للاحتلال الاسرائيلي وإجبار قوات هذا الاحتلال على الانسحاب تحت وقع ضربات المقاومة. ومن الطبيعي ان تنزعج اسرائيل من هكذا قمة لهذا السبب وللمزيد من الاسباب ايضاً والتي ابرزها ان القمة المشار اليها سيشارك فيها 52 رئيس دولة او رئيس حكومة، اي حوالى ثلث رؤساء دول العالم وأن هؤلاء يمثِّلون قارات آسيا وافريقيا واوروبا واميركا بينما ليس في قدرتها ان تستضيف مؤتمراً دولياً بهذا التنوع. ثم ان هذه القمة، التي مع الأسف لم يُكتب لها حظ الانعقاد، كانت لن تغرق في بحر المناقشات ذات المنحى الثقافي والحضاري وما يتعلق بالهوية والتراث الفرنكوفوني، وإنما ستتوقف وبتهيب امام الوضع العام في الشرق الأوسط مع اطلالة اكثر عمقاً على الوضع في لبنان، خصوصاً ان الرئيس شيراك عندما دفع في القمة الفرنكوفونية السابعة في هانوي عام 1997 بالاتجاه الذي انتهى الى عقد القمة التاسعة في لبنان واقنع رئيس رومانيا ورئيس هايتي اللذين كانا يتطلعان الى استضافة القمة التاسعة بسحب ترشيح بلديهما للاستضافة، انطلق من رغبة ان تكون هذه القمة "رسالة سلام ودعماً للبنان" او بمعنى آخر هدية سياسية ومعنوية ثمينة منه لصديقه الحريري الذي كان زمنذاك حائراً في ما ستكون عليه احواله واحوال لبنان مع العهد الجديد الذي لم يكن قد بدأ بعد ولم يكن محسوماً من سيكون سيد هذا العهد، وإن كانت التكهنات تميل في اتجاه ان يخلف قائد الجيش العماد اميل لحود في منصب رئاسة الجمهورية الرئيس الياس الهراوي.
ومن الاسباب ايضاً وايضاً التي تجعل اسرائيل تنزعج من انعقاد القمة الفرنكوفونية، وتتفهم الادارة الاميركية دواعي هذا الانزعاج، ان سيناريو ترشيح لبنان واختياره تم في هانوي الأمر الذي له تفسير خلاصته انه خلال قمة استضافتها مدينة لها تراثها النضالي تقررت فكرة استضافة قمة في بلد له تراثه العريق كمقاومة ويترأس حكومته شخص (اي الحريري) وقف امام قمة هانوي متباهياً ليعلن "ان لبنان يقول نعم للمقاومة" فضلاً عن انه وبموجب السيناريو نفسه كانت اعادة الاعتبار الى الامين العام السابق للامم المتحدة الدكتور بطرس غالي باختياره اميناً عاماً للفرنكوفونية بينما تريد له اسرائيل المزيد من القصاص والعزلة جرّاء ادانته وهو ما زال اميناً عاماً للامم المتحدة المجزرة الشيمونية البيريزية في "قانا".
بالاضافة الى تثبيت عقد القمة الفرنكوفونية في لبنان والتي ليس مثل الحريري من هو حزين لفرط عقدها، كانت هنالك مبادرة اخرى ارادها الرئيس شيراك هدية ثمينة لصديقه، منطلقاً في سعيه لتأمين حصول الهدية من ان الشعب الفرنسي قد يخذل رغبته في تجديد الرئاسة، وقد تخذله ايضاً الظروف والالاعيب الدولية ومن بينها ما يتعلق بتداعيات العملية الترويعية يوم 11 سبتمبر (ايلول) الماضي، وبذلك لا يعود في استطاعته تتويج رد الجمائل لصديقه الرئيس الحريري بعمل كبير يعزز طموحات الصديق في ان يكون الرجل الذي استنهض لبنان. والهدية المشار اليها هي تأمين انعقاد الجولة الثانية من اللقاء الاقتصادي الدولي المعروف بـ "باريس - 2" الذي يمكن ان ينتهي ونتيجة دعم كبير من الرئيس شيراك الى نتائج طيبة بحيث يتم، اذا جاز القول، ضخ المزيد من الدماء في شرايين الجسد اللبناني الذي يزداد نشافة وقد يتيبس ويذبل العود ويحدث الانهيار من دون هذه النجدة. ثم يتبين ان صندوق النقد الدولي ـ الذي تتحكم الادارة الاميركية بخياراته وتوجهاته وقراراته ـ رأى وقبل ايام من انعقاد لقاء النجدة الدولية "باريس ـ 2" ان لبنان متباطىء في الاصلاحات المالية المطلوبة منه. وبطبيعة الحال فإن مثل هكذا تقرير كفيل بجعل المقتدرين مالياً، الذين يريدهم الرئيس شيراك متعاونين وفي لقاء يستضيفه في العاصمة الفرنسية، يجفلون في الحد الاقصى او يتهيبون في الحد الادنى. وعلى هذا الاساس يصبح مصير هذا اللقاء بمثل مصير القمة الفرنكوفونية التاسعة وتصبح تبعاً لذلك امال التوأم الرئاسي المتميز جاك شيراك ـ رفيق الحريري في مهب الريح.
وعطفاً على ذلك يصبح الرئيس الحريري اكثر القلقين على صديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك اذا كان الفرنسيون سيخذلونه فلا يضعون اصواتهم لمصلحته في صناديق الاقتراع، ويصبح الرئيس شيراك أكثر المهمومين بما ستؤول اليه الاحوال الحريرية مع من سيخلفه في رئاسة فرنسا، ليونيل جوسبان او مفاجأة ليست في الحسبان، وذلك لإدراك من الرئيس شيراك ان لا أحد غيره في فرنسا يمكن أن يعامل الرئيس الحريري بمثل ما عامله، ولا رئيس يمكن ان يبقي على أبواب "الاليزيه" مشرعة أمام الحريري كما هو فعل. فتلك توأمة على المستوى الرئاسي غير مطروقة... وقد لا تتكرر.(الشرق الأوسط اللندنية)
&