&
-10-

تزوّجت وردة إسماعيل ووعدته أن لا تنجب له إلا أولاداً ووعدها أن يسميهم كلهم "قاسم"..لم تعترض عمتي، لم يعترض أحمد ولكن كل أهل القرية ضحكوا وعضّوا أصابعهم ثم أوصلوا ضـحكهم إلى سعدي في العاصمة، فجاء ليعاتبها على زواجها من إسماعيل وقال: "إنه كذاب.. وكان يهرب أيام الحرب"، فرمقته بصمت ثم أضاف: "لا بدّ أن تتركيه انه لا يناسب مقامي بوصفي رئيساً لرابطة أحباب "القائد".. ماذا سيقال عني إذا عرفوا هناك بأن زوج أختي كذاب ولا صنعة له غير عزف الربابة". قالت: "ولكنه رجل يستحق الاحترام". صاح: "على ماذا؟". قالت :" إنه يحلم بما أحلم به". قال: "أنت مجنونة...". وأراد أن يواصل الحديث معها لكنه لا يعرف ماذا وكيف يقول، فتمتم ثم قال بحزم " إنه..إنه ليس حلواً ". وقصد حسيبة علّها تساعده في إقناعها لأنه لا يجيد الكلام فلم يجد في دار قاسم غير إبراهيم فأقنعه بأن يأخذه معه إلى العاصمة كي يغني هناك ويصبح غنياً ومشهوراً مثل كل الشعراء الذين تغنّوا بـ "القائد"، ففرح إبراهيم ولكن حسيبة ـ حين عادت من الحقل ـ انهالت على رأسه ضرباً: "أتريد أن تتغنى بقاتل أبيك يا ابن ال... يا ابن حسيبة؟!..". أدخلته حجرته ركلاً وأغلقت الباب ثم التفتت إلى سعدي الذي اقترب منها مشدوداً إلى خشونة طبعها وثورتها فقال: "إهدأي يا حسيبة.. إهدأي فحتى أنت عليك أن تفكري في نفسك أيضاً". مدّ يده إلى ذراعها وفي عينيه رغبة فاحتدمت وحارت في ردّ فعلها.. بصقت في وجهه " تُـفّ " فـشعر هو بخطورة ما ارتكب، سارع للمغادرة، لكن حسيبة عاجلته برمية من حذائها على زاوية رأسه قبل أن يغيب خارج الباب، ويغيب عن القرية بلا عودة، إلا أنه ظل يطل في التلفزيون وظلت هي تبصق عليه وترميه بحذائها كلما ظهر حتى في آخر صورة له مع "القائد" الذي هدّد بمحاربة العالم دفاعاً عن : السيادة والكرامة والشرف...! وأقسم إسماعيل أمام وردة بأنّه لن يشارك في الحرب الجديدة وأنه عازم على استمرار الانشغال بخطته، وكان يطلع وردة ـ كل يوم ـ على تفاصيل وتعديلات جديدة، فطالبته بأن يشمل ضمن تعديلاته عقاباً للمغنين و الشعراء الذين كانت لا تعرفهم قبل أن تخبرها حسيبة عن محاولة سعدي إقناع إبراهيم، فوعدها بذلك لاحقاً ومضت وردة تنقل وعده إلى حسيبة وما أن دخلت ولمحت باب مرسم قاسم موصداً حتى أعلنت عن رغبتها في أخذ كل صورها التي رسمها لها قاسم منذ طفولتها، ففتحت حسيبة لها باب المرسم و غادرت باتجاه الحقل بعد أن عرجت على بيت ابنتها شيماء الممددة في فراش مرضها: صفراء، ناحلة مثل خيط صوف عتيق... وكعادتها لم ترجع إلا بعد غروب الشمس بعد أن تنهك جسدها بالعمل كـأنها تروّضه... ساد الكون ظلام، وثمة قمر ينير.. قمر تأملته حسيبة بنظرة جادة فلم تجد فيه معنىً... كان عادياً، أجرد مثل قطعة معدنية كالحة ولا شيء فيه.. لا شيء ولا حتى وجه قاسم... المقبرة مظلمة والحقول... أما ظلام القرية فتثقبه المصابيح المتناثرة، و في مثل هذا الوقت كانت تسمع ـ كما الجميع ـ الأنغام الحزينة لربابة إسماعيل، لكنّه كفّ عن ذلك بعد زواجه بوردة وترك فضاء القرية والحقول والمقبرة والعالم نهباً لنقيق الضفادع وصرير الجنادب وعواء بنات آوى و تنابح الكلاب وتصايح الأولاد اللاعبين بين البيادر، يرتفع على كل ذلك ـ بين برهة وأخرى ـ نهيق حمار... ظلمة، أقدام ملطخة بالطين، نجوم بعيدة، قمر بلا معنى، رأس بلا حلم، تصبّر بلا غاية، وقلب حزين..حزين.. يـا عمتي انتبهي إلى الماء الأزرق في عينيكِ فقد تحرّك.. سوف يعميكِ البـكاء كما ستهلك وردة رغبتها في الخلاص، أو في الحياة أو في الثأر أو في التحدّي.. أي تحدٍ !.. لا تحب الموت.. مصرّة على البقاء مخلفة على درب مسيرتها وروداً وقواسم غير مكترثة بحرمان القرية من أنغام ربابة إسماعيل حين كانوا يتناولون عشاءهم، وينام جائعاً متوسداً ربابته... الآن قد تعشّى وها هوَ يحوم مثل الفراشة حول وردة وقد عطّرت إبطيها بالقرنفل وأشرق وجهها بالحلم فيما تلم كَتِفَيها العاريتين تمنّعاً..جميلة..جميلة.. "ما أجملها!" وإسماعيل لا يحتمل الصبر أمام سحر ابتسامتها... تعذبه كل ليلة بتمنّعها المشروط حتى يعيد على مسامعها تفاصيل خطته والتعديلات اليومية الجديدة.. بعد ذلك تهبه نفسها بلا حدود.. لا حدود لها وإسماعيل أكثر من يدرك ذلك فيسأل نفسه: "هل كان فوزي وعقيل يدركان ذلك..؟.. وردة كائن لانهائي.. لا نهاية لها، لكنها تحتاج إلى بداية.. بداية ما.. ولو بحلم.. ولو بكذبة.. مدّ يده فلملمت كتفيها وتلوت ممانعة قائلة: "الخطة" وتمددت فوق البساط على ظهرها فتمدد إسماعيل إلى جوارها: نصفه على البساط ونصفه فوقها وأعاد على مسامعها خطته فساعدته في رفع نصفه الآخر فوقها واهتزّ إسماعيل عذوبة، تراقص مع خصلات شعرها المفروش تحتهما.. يهزّه الشعر أو هو الذي يهزّ الشعر ووردة شعر وعيون وخدود وشفاه وأكتاف وقلب و ... وردة لا نهاية لها ولا يغيب عنها الغائبون.. وذلك الغريب البعيد الدخيل: " لقد جَعلنا فتيتاً مبعثراً"، فأجابها إسماعيل:" سأجعله فتيتاً مبعثَراً " وازداد لهاثه، لهاثهما وهي تسأل بتقطع: "والشـ..والشعراء؟" فقال وهو يتفتت فوقها: "سأجـ..علهم ... ف..ت..ي..ت..اً.. م.. ب.. ع.. ث.. ر.. اً ." ورددت معه بنشوة الحلم الملح واللانهاية& "فت.. ي.. ت.. مب.. ع.. ث.. ر.. .
&&&&&&&&&&&&&&&&&& فت..
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& ي..
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& ت..
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& مب..&&&&&&
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& ع..
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& ث..
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& ر.. .
&

صِفر اليَدين

& ربما أن " صِفر اليدين " محاولة أخرى لإعادة ما حاولت وصفه في قصتي " عرس الواوي " حين يهطل المطر والشمس طالعة. غربة مفتقرة إلى معناها. وجود حائر. منفى بالمعنى البابلي؛ زماني أكثر من كونه مكاني.. إنه تعطيل الحاضر الذي تكوينا استطالته. لا أعرف كيف أسمي زعمي البحث عن محمود وفي واقعي لا أبحث عنه... أستيقظ ظُهراً. أُنقب في الصحف ـ قبل أن أغسل وجهي ـ ثم أقذفها بخيبة " لا جديد عن الوطن ".. حَمّام، قهوة بالحليب، ثم سيجارة وإطلالة من الشرفة " لا جديد في المنفى " فأُعاود ـ ربما للمرة الألف ـ قراءة الرسالتين الوحيدتين اللتين وصلتا إليّ منذ خـروجـي.
&& أيام تشبه بعضها وسنوات تمحو أحلامي وتشتبك مع الذاكرة بإنهاكٍ مرير. أسير في الشوارع ناظراً إلى رقاب الناس، أتراني الوحيد الذي يشعر بوخز إبرة قنفذ في بلعومه؟.. أوشك أن أسأل العابرين؛ هل يرون خيط دمٍ نازل من تفاحتي التي ورثتها عن آدم؟
&& نحن المبعثرون في المنافي لم نختر أماكننا الحالية، وإنما وصلنا إليها إثر انفجارات الدخان في جحر النار الأزلية، والمترنحون اختناقاً لا ينظرون: أية بقعة تطأ أقدامهم. لم نختر أراضينا الجديدة، نحن الذين ركَلتهم قديمتهم حين دِيست بلا رحمة، ولهذا نكابد أوجاعنا الشبيهة بسلخ الجلد حياً، ومازال السابقون مِنا يفتحون صنابير ذاكراتهم بالحديث، سائلين عن مقهى عزّاوي والثور المجنح ونومي البصرة. واللاحقون تجيش صدورهم بالغثيان لكثر التشكي فيوجزون: مَن دخل قبره فهو آمِن.
&& هنا في الأصقاع القريبة من غرناطة نتقاسم مع الفلسطينيين النحيب.. نبكي كالنساء على أوطانٍ لم نعرف المحافظة عليها كالرجال، وكم بصقنا على شواربنا في مرايا الغرب " تّـفُـو " ثم انتهينا إلى حلاقتها جميعاً. لا نجيد غير تسويد الصفحات بصرخات حـزينة، فيراودني الشك بأن مصانع تكرير الورق ستكفي لفيض آبار الحكايات في وطني.
&& أتقلب غريباً هنا بين الجرح وعذوبة/عذابات العمق، مرارة حضور الزوال والانتظار المُقنّع بلا انتظار، الصبر ولا شئ والتذوّق والموت، محاطاً بالأسبان: الثرثرة والثرثرة والكلاب والدخان وأوراق الدعاية، تماثيل جميلة لا تعرف ما حدث هناك لعمتي وأولادها. خواء، رقص، سيل القُبل الباردة دائماً رغم حثيث النفخ في رمادها، جمال مدبق بالزغب... لذا أحمل نفسي إلى المقهى والمرقص والحدائق وفي المترو. أعيش مشطوراً بين منفاي وبلدي. توخزني رؤية ضاحك وامرأة مشغولة بالموضة..
خرجتُ من المترو الدائري رقم 6 بعد ركوبي لدورانه.. دوائر لا أعرف عددها تحت الأرض. عند زاوية الدرج، انتحت جانباً فتاة يُرنحها الإدمان. أنزلَت بنطالها، قرفصت وبالت. على زجاج البوابة يقف شاب أسود بأقراط فضيّة، يوزع على الخارجين عنوان مرقص للتعري. كان ليل السبت قد حل بـكائناته الدائخة، وساعة الشارع تشير إلى الثانية. دلفتُ إلى أول بار. جلست في أبعد زاوية ورحتُ أحدق في العتمة..
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& " لكنها الأرضُ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& بستان الخزفِ الأمثلُ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& ـ الفتيتِ المبعثرِ ـ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& آنَ خلخالٌ نحاسٌ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& تحت أقراطٍ نحاسٍ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& آن اسمُ المرأةِ المُثلى
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& وجسمُ المرأةِ المُثلى
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& والقماشُ .. شفيفينَ،
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& آنَ مَـنْ حولي بعيدونَ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& وكفي مُعتمة.
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& *&& *&& *
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& إنها الأرضُ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& والبصرُ الذي يُغري البصيرةَ بالتلفُّتِ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& بانتقاءِ المُرِ والساكنِ المُعتمِ الروحِ.
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& إنها الأرضُ .. ،
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& وهذا الشُبّاكُ الداكنُ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& يتـفصدُ عرقاً غامقاً
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& بستاناً أغمقَ مما أَلفْتُ.
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& *&& *&& *
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& ( راكضةٌ أشجار الخزفِ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& وأنا أَخْفى عن ضوضاءِ تلاطُمِها
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& عن إبرِ الصَّـرَخاتْ ).
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& *&& *&& *
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& إنها الأرضُ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& والقهوةُ
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& والفتيتُ المُبعثَـرُ ".*

&
*& القصيدة للشاعر ماهر الأصفر.
&
&