قالت الحكومة البريطانية انها تريد الذهاب أبعد من التعددية الثقافية . المثل الذي كثيراً ما يُضرب اليوم: الزيجات القسرية. فتاة او شاب مسلمان يعيشان في بردفورد يرتّب أهلهما زواجهما غصباً عنهما. الغصب أكبر في حالة الفتاة بالطبع. هذا، بذاته، مسّ خطير بحقوق الانسان، لكنه أيضاً مسّ بفرص الاندماج: كثيرون من العرسان والعرائس يعيشون في باكستان أو الهند أو بنغلادش. الذين منهم يسكنون بريطانيا يصيرون آباء وأمهات لا يجيدون الانكليزية. الأمر ينعكس علي الولد الذي تتراجع معرفته باللغة. تتراجع فرصته في سوق العمل. يصير تعبيراً مُشخّصاً عن أزمتين اقتصادية واجتماعية معاً.
هذا كله ينبغي عدم التساهل معه بحجة التعددية الثقافية و التسامح ، أو خوفاً من الاتهام بـ العنصرية التي تدوس قيم الآخر . الشيء نفسه يصح في ختان البنات وضرب الزوجات وغير ذلك.
الحكومة البريطانية مُحقّة. لكنها تخطيء حين تضيف: انها تريد العودة الي القيم البريطانية القديمة في التسامح بدل الذهاب الي شرعة حقوق الانسان وسائر المواثيق الدولية. القيم البريطانية ليست أبعد من التعددية الثقافية. انها عودة باللغة المهذبة، أي انها فعلاً انتكاسة لتلك التعددية.
ولأنها انتكاسة من طبيعة قومية، فهي كاذبة بالضرورة: فما من قيم قومية قديمة تصلح لادارة العلاقات المعقّدة لزمننا ما بعد القومي. ثم: يصعب وصف اي قيم قومية قديمة بالتسامح، أولاً لأنها قومية، وثانياً لأنها قديمة. فالتسامح، حيال المرأة كما حيال الغريب، لم يكن من شيم العهد الفيكتوري، ولا كانت العائلة الأبوية والعمالية في انكلترا رحيمة حيال الاثنين.
هكذا التراثات. كل التراثات. لكن الميل الي تمجيدها في بريطانيا الكوزموبوليتية مخيف. وهو، في واقع الحال، يندرج في صراع الحضارات الذي يفترض الفرز الاطلاقي: ما فينا جيد بقديمه وجديده. ما فيكم سييء بقديمه وجديده. رسالة خالدة تقابل رسالة زائلة ومنحطة.
وفي باب صراع الحضارات تندرج اليوم مواقف كثيرة تنفي كلها أن تكون كذلك. فحين تظهر في كتاباتنا انتقادات لنقص الديموقراطية في اميركا، فهذا ايضاً يدخل في الباب نفسه. صحيح ان الحرب اضعفت الأداء الديموقراطي الأميركي، الاعلامي وغير الاعلامي، لكن من يجوز له قول ذلك هو: الديموقراطي الراديكالي، أي ذاك الذي لا يعبّر عن الاجماعات القومية لثقافته ووسائل إعلامها. حين يصدر الكلام عن معجب بنظام غير ديموقراطي، أو راغب في انقاذ نظام غير ديموقراطي لمجرد كونه عربياً ، فالأمر يتعدي الانتهازية الي... صراع الحضارات. لماذا؟ لأن هذا الموقف يستبطن تمييزاً بين ما يحصل عندكم وما يحصل عندنا (سبق للرئيس حافظ الأسد أن قال انه اقوي من أميركا لأن الأخيرة لا تتحمل مقتل فرد من أفرادها... أما نحن...!).
باب صراع الحضارات، بعيداً عن أحكام القيمة، واسع إذاً. يدخله كثيرون من مواقع شتي. وهنا تلتبس الأمور قليلاً. لنأخذ مثلاً مقتل مئات المساجين من الطالبانيين والقاعديين في سجنهم. هناك، أولاً، سؤال تقني لا بد منه: هل هرّبوا أسلحة معهم الي السجن أم لا؟ الجواب بـ نعم يعني أنهم لم يعودوا مساجين بل ظلوا محاربين ولو داخل السجن. ومن ثم فاتفاقية جنيف في صدد الأسري لا تنطبق عليهم. الجواب بـ لا يعني ان ما تم هو جريمة حرب بكل معني الكلمة.
أغلب الظن، في انتظار التحقيق، أن نكون امام جريمة حرب جزئية لأن الرد، في الأحوال كافة، تجاوز حجم الخطر الذي طرحه المساجين المتمردون. ثم: لأن بعضهم قضي، تحت ضربات الطيران، وهم مقيّدون الي ظهورهم.
هذا سلوك لا يسلكه الا الذي يتعامل مع الآخر كأنه منزوع الانسانية. أو أنه ينزع انسانيته من أجل أن يهوّن علي نفسه، ويبرر لها، معاملته اياه هكذا. هذا يدخله في باب صراع الحضارات بأبشع معاني الكلمة.
الا ان الذين تابعوا المشهد علي التلفزيون، رأوا أفغاناً آخرين يسارعون الي قلع الأسنان الذهبية للقتلي بالحراب (كما يسارعون في مناسبات أخري الي ركل النساء والأطفال وضربهم، من دون أي سبب، بأعقاب الرشاشات!).
ما يقال هنا يمكن قوله في ما شهدناه من توقيفات اعتباطية وتعديلات للقوانين في عدد من البلدان الغربية. الوجهة القمعية والمخالفة للقانون بلغت حد انشاء محاكم عسكرية أميركية للأجانب، اي حرمانهم من حقوق المتهمين، والتمييز امام القانون بين أميركان وغير أميركان، وفرض عالمية العدالة من طرف واحد (علماً ان الولايات المتحدة ترفض فكرة المحكمة الدولية وواقعها)، ناهيك عن أمركة هذه العدالة العالمية المفترضة.
لكنْ في مقابل اسبانيا التي رفضت تسليم الارهابيين والمتهمين بالارهاب الي اميركا، تعاملت دول أخري حيال المعتقلين من حاملي جنسيتها كأن لا علاقة لها بالموضوع. هذه الدول تنتمي الي محيط ليس معروفاً فقط بالعداء للحداثة. انه محيط يحتقر أصلاً جواز السفر (تأملوا دولاً وطنية جداً تفرّط، بسبب ولا سبب، بجواز سفرها فتمنحه لكل حليف او عميل لها).
هنا نقول: في خلاف أميركا واسبانيا، اسبانيا - التي فيها محاكم ودولة، وفيها أفراد ومواطنون بصفتهم هذه - علي حق بالمطلق. في خلاف أميركا وغيرها، أميركا علي حق جزئي. القانون واحد علي عالم واحد، أما درجات الرغبة في الانفصال عن الوحدة الكونية هذه فهي مرايا الخطأ المتعمّد والإرادي.(الحياة اللندنية)