أكثر من وجه للالتباس أثاره نفي الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسي أن سورية وضعت شروطا لحضورها الاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب الخميس الماضي، حيث يورط المرء نفسه في تخمين هذه الشروط ماذا كانت لو أن دمشق طرحتها فعلا. ومما أبعد ذلك الالتباس المشار إليه، ما تأكد لاحقا عن خلاف ساد المداولات في هذا المؤتمر، بين موقفي سورية والسلطة الوطنية الفلسطينية، حيث لم يحبذ وفد دمشق التوجه العام في المؤتمر نحو تأييد سياسة الرئيس ياسر عرفات في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وعمل علي عدم تضمين البيان الختامي هذا النص، وحاول التنصيص علي دعم الانتفاضة، وبدا أن جهده في الأمرين أخفق. وعقب فاروق الشرع بأن البيان الصادر بعدئذ لم يعبر عن نبض الشارع العربي وطموحاته.
كل الحق مع وزير الخارجية السوري في قولته هذه. إذ لم يعد ما هو أكثر ضجرا للشارع العربي ومللا من توالي هذه الاجتماعات التي يبدو أنها لم تعد تحرج أحدا من الداعين إليها أو من حضورها. فالشارع العربي (أو نبضه ربما) يطلب من الوزراء العرب قرارات للتنفيذ، إذا ما تداعوا إلي اجتماع لنصرة الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة. كأن تُدفع الحصص المالية في الصندوقين اللذين قررتهما قمة عربية مشهورة، مثلا. ويأمل هذا الشارع من مثل هذه الاجتماعات، الطارئ منها والعادي، أن ينظر فيها وزراء خارجية الدول العربية إلي خسارات الشعب الفلسطيني الشقيق جراء الإجرام الإسرائيلي اليومي بمعرفة تفصيلية وشمولية، وأن يتفهم كل ما يحيط بهذا الشعب من أهوال، إذا ما اختارت سلطته الوطنية أيا من الخيارات، الضيقة أصلا، في محاولة لحماية هذا الشعب أو لالتقاط أنفاسه أو للحؤول دون مزيد من التدمير لأراضيه ومزروعاته ومؤسساته، ولقياداته وكوادر المقاومة الشعبية والمسلحة فيه.
وبغض النظر عن التبسيط هنا في تصوير واقع في غاية التعقيد، يجدر التنبيه إلي أن الهدنة في المعارك، المختلة التوازن بين أطرافها خصوصا، ليست جريمة ولا عارا ولا حراما. ناهيك عن أن الانتفاضة الفلسطينية ليست في الأصل حربا. وإذ كان الأمر علي هذا الحال لا يصير طيبا ولا معقولا من الوزير فاروق الشرع قوله، في دمشق بعد عودته من مؤتمر زملائه العرب أن السلطة الفلسطينية تستطيع الصمود أكثر بكثير في وجه ضغوط إسرائيل، وأنها يمكن أن تستفيد من مواقف دولة عربية مؤيدة للانتفاضة والمقاومة. ومبعث التحفظ علي هذا التصريح أن فيه فوقية لا مسوغ لها تجاه السلطة الفلسطينية التي نحسب أنها تحملت من الضربات والاعتداءات الإسرائيلية ما لم يختبر الشارع العربي قدرة أية سلطة عربية علي تحمله. حمي الله كل البلاد العربية من أي مكروه. وحسنا فعل وزير التخطيط الفلسطيني الدكتور نبيل شعث عندما كان في دمشق نفسها في أثناء زيارته لها في أيلول (سبتمبر) الماضي للترتيب للزيارة العتيدة للرئيس عرفات التي لم تتم إلي سورية، عندما قال ان الشعب الفلسطيني وسلطته صامدون في مواجهة العدوان الإسرائيلي وأنهم يقاومونه، علي الرغم من أنهم لا يملكون الصواريخ والدبابات والطائرات المقاتلة.
نجد أنفسنا في أثناء هذا السجال الذي لا مدعاة له، وغصبا عنا، مضطرين إلي استدعاء النموذج الأكثر حكمة في السياسات العربية، أي الواقعية التي تنتهجها السياسة السورية من دون أي تفريط بالحق. ففي البال أن لسورية أراضي محتلة، وأن هدنة وقعتها دمشق مع تل أبيب، كان سيئ الذكر إيهود باراك قد أثني علي الالتزام السوري بها طوال أكثر من خمسة وعشرين عاما. وفي البال أيضا أن سورية اختارت العلاج السياسي لأزمة بالغة التوتر مع تركيا، كادت الأخيرة فيها أن تباشر عدوانا عسكريا فيما لو لم يتدارك الرئيس الراحل حافظ الأسد حدوثها، فكانت الوساطة المصرية الموفقة بطلب من دمشق، وكانت الاستجابة لمطلب أنقرة طرد عبد الله أوجلان، ثم التفاهمات الأمنية في اتفاقية سيحان. وليس استطرادا أبدا أن يأتي إلي الخاطر قول الشرع عقب اعتداءين إسرائيليين علي محطة رادار سورية في لبنان، أدتا إلي استشهاد وجرح جنود سوريين، أن بلاده لا تنجر إلي حرب تريدها الطغمة الحاكمة في تل أبيب. وأنها تختار الوقت المناسب للرد.... ولمّا يأت هذا الوقت بعد. وفي هذه الوقائع وأخري غيرها، نجحت القيادة السورية، وبحكمة، في تجنيب بلادها أي أذي وأي مغامرات إسرائيلية .
في وسع دمشق أن تختلف مع ياسر عرفات كيف تريد، وأن يصل بها الأمر إلي التبرم من نصرة كلامية لسلطته أمام استهداف شارون لها، وقد يكون من حقها رؤيتها بشأن التعامل مع طرف فلسطيني دون آخر. لكن، يكون مستغربا أن ترتد، في هذا الأمر دون غيره، عن واقعيتها النموذج .... وما سبق بعض من كلام كثير في هذا الشأن.(القدس العربي اللندنية)