كعادتي في أيام الصيف أتسكع في شوارع فيينا وحدائقها. أراقب الفتيات وأتحرش بهن وأتعمد إيقاع إحداهن في حبائلي. أو أذهب إلى جزيرة الدانوب حيث يستلقي جيش من الحسان شبه عاريات على الضفاف وعلى الحشائش الخضراء، مجرباً قوة نظري وهذه إحدى هواياتي المفضلة.
طارق الطيب ______ تصوير Hans Labler
الطريق طويل. ينقسم إلى قسمين يفصلهما خط أبيض أحدهما للمشاة والآخر للدراجات. دائماً أخلط بينهما، فترن أجراس الدراجات خلفي حين أكون مبحلقاً في فتاة، أو مائلاً إلى أخرى بعيدة وحيدة في سرعة من يحاول النـزول ببطء من سفح جبل شديد الانحدار. لا أهتم باختلاف مظهري وشكلي بل وملابسي فمعظمهم يلبس لباس البحر وأكون أنا غالباً في ملابس شبه شتوية تثير الضحك أحياناً وتثقل صدور المجهوضين بالقيظ أحياناً أخرى. فُزت بحكايات نادرة ومحاولات سخيفة جمّلتها وحسّنتها وأضفت إليها بعض الذواق والحشو المناسب أثناء روايتها على زملائي وعلى الجدد غير المجربين.
في هذا اليوم اشتدت الحرارة ونسيت نفسي في نومة الظهيرة، فلم يعد من الوقت متبقياً لما يسمح بالذهاب حتى ضفاف الدانوب والخروج بحكاية جديدة، فاكتفيت بالذهاب إلى الشارع السياحي، أتفرج على فرق الموسيقى والغناء، التي تجمع حولها حلقات من البشر. هناك ألصق نفسي إلى جوار المفتونات بالموسيقى محاولاً إضفاء نوع من المرح والانسجام، مدعياً تذوقي لكل أنواع الموسيقى مصفقاً، صاخباً، مردداً: "جميل.. رائع.. هائل.. مواهب ضلت طريقها!" وأتعجب حين أجد الواحدة منهن تنظر إلّي في غضب وتنفر بعيداً لتقف في مكان آخر.
أكمل التسكع وأترقب السائرات وحدهن، وحين تقترب مني إحداهن، أبتسم في وجهها ابتسامة عريضة، ترى فيها أسناني كلها واضحة، وربما ترى أضراسي أيضاً، وحين تفوتني الفتاة بلا اكتراث لا أدفن ابتسامتي العريضة بين أسناني، حتى أوضح للمقابلين في الطريق - على الأقل - أنني أعرفها وحييتها. أحياناً أتخيـّر فاتنة أخرى أسير إلى جوارها بضع خطوات، كأننا نسير معاً، إلى أن تتنبه لذلك، فتبطئ أو تسرع أو تركن إلى نافذة أحد المحال فأتابع مسيرة البحث.
لعنت في سري هذا اليوم الكريه، فمعظم الفتيات يتأبطن فتياناً، وأحياناً يسيطر ذكر وحيد على مجموعة من الفتيات، فتثير بلاهته غيظي أكثر، وهو معهن على قارعة الطريق يضحك ويضيع الوقت فيما لا فائدة منه، بدلاً من أن يستغل ذلك في حكاية ترفع من شأنه وسط أصدقائه. أني أكره هذا التوزيع غير العادل، فهؤلاء الأغبياء يفوزون بفتيات جميلات بسهولة، بينما أرهق أنا نفسي وأوزع ابتساماتي المجانية بلا مقابل.
في مقابلي على بعد عدة أمتار رأيت زميلي كارلوس الأرجنتيني، الذي كان يدرس معي اللغة الألمانية في المدرسة المسائية، عرجت إلى ناحية أخرى من الطريق متعمداً تجنب ثرثرته المعتادة، وتضييع الوقت فيما لا يفيد، لكن هذا اللعين لمحني وصاح من بعيد بألمانيته الإسبانية محيياً، وانطلق يحكي بلا توقف عن أخبار الدراسة واللغة ومشكلاتها ويسألني في بعض الكلمات الجديدة، وأنا أحاول أن أزيحه من رأسي وطريقي. إنه زميل ظريف محب للدعابة وجاد في دراسته، لكن لم أحب أن ألقاه هنا، فأنا مشغول الآن وعندي ما هو أهم. كنت أرد على كلامه وأسئلته بردود موجزة، وأحياناً بلا تعليق، فيكرر كلامه دون ملل أو ضيق.
ترامى إلى سمعي من بين كلماته أنه سيذهب إلى مقهى "كافيه دوليروب" Café de l'Europe الموجود في بداية "جرابن" Graben ليقابل فتاتين حضرتا حديثاً من الأرجنتين إلى فيينا للدراسة، وترغبان في بعض المعلومات. فجأة تحولت لا مبالاتي إلى مشاركة ومزاح وضحك مع كارلوس. لم يتعجب، فهو إنسان بسيط السجية يحب الضحك. حكى لي كيف تهرب اليوم من صاحبة الشقة التي هبطت عليه كالصقر لتستلم الإيجار بنفسها وقد أعطته مهلة حتى اليوم التالي، وقال لي أن هذه هي الشقة الثامنة التي سكن فيها خلال العامين السابقين.
كنت قد قابلته هذا اليوم في منتصف الشارع السياحي وسرنا معاً في بطء حتى محطة مترو الأنفاق، ولما اقتربنا من المقهى، أردت ألا تضيع مني فرصة لقائه بالفتاتين، فربما يصيبني من الحظ ولو شعرة. قلت له مقاطعاً حديثاً له عن الحكم العسكري وديكتاتوريته في أمريكا اللاتينية:
- "هل تعرف أنني كنت ناوياً الذهاب إلى "كافية دوليروب" أيضاً. إني أفضل شرب "الموكا" هناك".
لم يرد كارلوس، جرني من يدي وذهبنا إلى هناك. كانت هناك ثلاث فتيات يجلسن ويشربن مثلجات إحداهن شقراء والأخريان يميزهما شعرهما الأسود الفاحم. جلسنا بعد تعارف سريع، وكانت جلستي إلى جوار الفتاة الشقراء. دخل كارلوس في حديث جاد بالإسبانية مع الفتاتين عن طريقة الدراسة، وعن بيت الطالبات والتكاليف والكتب و.. و.. بينما انتحيت بالشقراء بعيداً عن موضوعاتهم. كلمتني بالإنجليزية قالت لي أن اسمها "جابي" وتبلغ من العمر تسعة عشر عاماً وتدرس الباليه والرقص، ثم سألتني من أين أنا وماذا أفعل في فيينا، وحين أدركت أنني أحسن شيئاً من الألمانية، انطلقت في بساطة تحكي معي وتسألني عن إفريقيا وأحوالها. كانت تعرف الكثير عنها وعن أسماء العواصم. التي لا أميز بينها وبين اسم الدولة، ثم تحولت إلى الحديث عن الفقر في إفريقيا ولما رأيت أن هذا الموضوع يقرب عواطفها مني، تعمدت المبالغة والتمسكن وفعلاً خال عليها الأمر، وتابعت تحكي عن جمال إفريقيا وطبيعتها الساحرة، ثم تحول الحديث إلى ذكائي وإجادتي اللغة في وقت قصير، فحدثتها عن الزراعة والاقتصاد الزراعي وهما مجال تخصصي الدراسي وبدأت أريها خططي وأهدافي وأبالغ بعض الشيء سعياً للقرب منها. تحمست لي ولأفكاري، ففركت أنفي من السعادة. كانت معجبة بي وبأفكاري إلى أقصى حد، حتى أنني حركت مقعدي بقربها عشرات المرات، فإحساسي أن شيئاً ما سيحدث، وأنني حصلت على فريستي الضالة جعل جلستي طول الوقت قلقة غير مستقرة.
بعد ساعتين تقريباً قررت الفتاتان وكارلوس مغادرة المقهى وذكرت جابي أنها ستبقى قليلاً، فودعت كارلوس والفتاتين. أراد أن يدفع الحساب عني فأخذني الحماس والكرم وقلت له:
"الحساب عندي، فهم ضيوفي اليوم".
انصرفوا وبقيت معها نكمل حديثنا. لا أعرف كم طلبت، هي طلبت ثلاثة أرباع من النبيذ الأحمر، وكنت أطلب دائماً شاياً أو قهوة حتى لا أفقد وعيي وتضيع مني تفاصيل الحكاية المثيرة إذا ثملنا معاً. كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلاً حين أرادت أن تتمشى قليلاً. جاءت الجرسونة فدفعت الحساب في كرم ملحوظ وتصميم أكيد أنـّبني عليهما ضميري وديوني المرهقة، لكن الفريسة في يدي وكل شيء يسير أفضل مما توقعت، بل حتى اللحظة يمكن رواية الكثير للزملاء.
سرت معها في الشارع السياحي. كانت تضحك وتمزح معي نشوانة، بينما أنا أبحث بعيني عن صديق أو زميل أو أي شخص أعرفه لأحييه حتى يراني ويصير شاهداً على امتلاكي هذا الجمال وحدي أو ليكون مؤيداً لحكايتي المقبلة. عرضت عليها أن نذهب إلى ديسكو للرقص، رفضت لأنها كانت تشعر بشيء من الصداع وترغب في العودة إلى المنزل.
زاد طمعي كلما سارت الأمور خطوة إلى الأمام، وإن كنت مقتنعاً تماماً أن الأمر إلى هذا الحد يكفي لخلق قصة رائعة للزملاء، علي أن أسجل كل لحظاتها بعناية حتى أحكيها تفصيلاً وتطويلاً فيما بعد. ذكرت لي أنها تسكن في الحيّ الثاني والعشرين، فقلت لها إنني أسكن بالقرب منها في الواحد والعشرين، رغم أني أسكن في الحيّ الرابع عشر البعيد جداً عن حيّها.
إلى أقرب موقف تاكسيات، استقللنا معاً تاكسياً، ذكرت هي اسم الشارع والحي، وفضلت أنا الصمت كي أنزل معها وفعلاً هذا ما حدث. دفعت حساب التاكسي، رغم إصرارها على الدفع، كنت أسرع منها في كرمي الأحمق الشهير.
سارت تتمايل أمامي وتقفز خلفي كالغزالة البريئة وكانت الخمر قد لعبت برأسها، بينما أنا هادئ أحفظ كل لحظة وكل حركة كي أحكيها غداً وبعد غد والعام المقبل وأحيي الذكرى أمام الزملاء والأصدقاء في كل سهرة ولقاء.
- "ما رأيك في تناول فنجان من القهوة معي في البيت؟"
قالتها دون أن تنظر إلي. ارتبكت. لم أكن أتوقع أن يختصر الطريق هكذا، فرددت دون تفكير:
&"طبعاً، طبعاً، إنني أيضاً أرغب في تناول القهوة".
سرت صامتاً مذهولاً، هي تردد بعض الأغنيات، وأنا أشاركها بابتسامتي العريضة الشهيرة. أمسكت بيدي، فسرت معها كطفل ضال يبحث عن أهله.
كنا نسير بين إحدى المقاطعات السكنية المبنية حديثاً. تتشابه كلها في التصميم واللون والارتفاع ولا يميزها عن بعضها سوى أرقامها المختلفة. فتحت البوابة وصعدنا بالأسانسير حتى الدور السابع وبالتحديد إلى الشقة رقم 707. دخلت معها وأنا أبحث عن الكلمات فمازلت في ولهي ومحاولة حفظ الأحداث والأشياء والألوان. شقة صغيرة الحجم، لا يتعدى اتساعها أربعين متراً مربعاً، حوائطها مازالت حديثة تفوح منها رائحة الدهان. سقفها منخفض جداً كسقف الأوتوبيس. فيها سرير صغير، في أحد أركانها، مرتب بعناية ويتوسطه دب صغير من القماش يستند إلى وسادة مربعة. وفي الجانب الآخر جهاز تسجيل وبعض الشرائط والأسطوانات. بعض البوستر معلق على الحائط لأشخاص لا أعرفهم ولراقصي وراقصات باليه، والبعض الآخر لإعلانات أفلام. دخلَتْ إلى المطبخ الصغير لتعد القهوة وعادت لتخلع أمامي ودون تحفظ فستانها الأصفر وتلبس شورتاً، لكني أذكر الحق أنها سألتني أثناء خلع ملابسها إن كان هذا يضايقني، وبالطبع نفيت.
شربت القهوة معها، وعلت أنغام أسطوانة حديثة لصوت شخص لم أميزه إن كان رجلاً أو امرأة. جلست إلى جواري وشعرها الأصفر تفوح منه رائحة خطر شديد ونظراتها تبعث خطراً وتوتراً أشد لنبضات قلبي، ثم همست في أذني بأنها معجبة بي، وكانت هذه الكلمة كافية لتبدأ الحكاية التي سجلتها في ذاكرتي جيداً وأنا غير مصدق ما يحدث.
قالت لي بعد ذلك في خضوع أنثوي مثير - بعد أن سبّلت عينيها الزرقاوين - إن كانت معي صورة شخصية لتحتفظ بها في ألبومها الخاص، أربكتني سعادتي وأنا أحاول أن أخفيها كي أبدو أكثر تريثاً وجدت نفسي قافزاً أعبث بقميصي أبحث عن بطاقة السفر الشهرية. خلعت عنها الصورة وأهديتها إياها. قالت لي إن أجمل ما أعجبها في هو عيناي، ولم أكن قد سمعت ذلك من قبل في حياتي، فزاد ذلك من رقص قلبي وأدركت أن تدريبي وهوايتي لعيني لم يضيعا سدى.
دخلت إلى الحمام تغني أغنية الأسطوانة ووقفت أنا في وسط الحجرة أشوّح بيدي وأرقص من الفرحة. كنت عارباً تماماً وكانت أمامي مرآة، حين رأيت نفسي فيها خجلت وغطيتها بملاءة طويلة وأكملت رقصة السعادة، ثم انتقلت بعدها إلى رفوف مكتبتها الصغيرة أتفحصها. كانت هناك بعض الكتيبات عن القطط والكلاب وسلالاتها. وبعض كتب "كارل ماي" ومجموعة من مجلات "ميكي ماوس" و "ماد" و "أستريكس" وبعض التحف الإفريقية والآسيوية. من الرف الأول من المكتبة أخرجت البوماً، فيه صور لها. بعضها في ملابس الباليه والرقص وأخرى على شاطئ بملابس البحر، وتبدو في جمال أخاذ وأنوثة مثيرة.
أردت أن أخلع صورة لها، كي تكون حكاياتي مؤيدة بالأدلة والبراهين، لكني فضلت أن أحصل على صورة منها بتوقيعها، لتستوفي المستندات صحتها القانونية أثناء العرض والحكاية.
قلبت بعض الصفحات، وجدتها مملوءة بصور مختلفة الأحجام تحتها تواريخ وأسماء مختلفة، يبدو عليها أنها لأشخاص من دول وقارات مختلفة، فألوانهم وملامحهم متمايزة، بعضها يوجد في شكل رسم كاريكاتيري وتحته تاريخ صاحبه واسمه، وكل صورة أو رسم كاريكاتيري تحمل رقماً مسلسلاً. تعجبت واعتقدت في البداية أنها من هواة المراسلة ولكن الشك والريبة داخلاني، فكل الصور لذكور فقط.
حيرتي زادت بينما كانت الأسطوانة قد أنهت أغنياتها الصاخبة وظلت تلف حول نفسها بلا صوت وما زالت هي تغني وصوت الدش يشاركها الضجيج. أعدت الصفحات إلى بداية أول مجموعة من الرجال والشباب. قرأت عليها بالألمانية "أمنيتي أن أجرب كل رجال العالم".
كان هناك مربع جديد فارغ بعد آخر صورة فيه علامة استفهام وتحته رقم 113.
فيينا 3 تموز (يوليو) 1988