ونيـــــن
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& " إن في اللعبة دواراً "
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& &&&& ساراماغو
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& &&&& ساراماغو
&
"أنتظره.. حتى يخرج عصفور من فمي ويختفي في الصمت"، هذا ما فكرت به كمدخل للقصة.
القصة التي تقرؤونها معي وتصرون على تبديل عنوانها لأنه ليس فصيحاً، فأخبركم بأن الأنين بلهجتها ـ هي أمي إلا أنها لا تستطيع تحديد الأشياء ـ& لا يكتمل دون حذف الألف وإضافة واو بدله ولأنها لا تعني الأنين وحسب بل الحرقة و ذوبان الجسد و شد الأوصال وذرف الدموع حتى لا يبقى أثر لدمعة واحدة.
&&& كتبت القصة منذ زمن بعيد، هو ليس الآن، ربما قبل عشرة أعوام عندما لم أفكر بعد بكتابتها، ولم أكن أتخيل حتى اللحظة التي سأجلس فيها لأسطر الحروف كي يكون لها معنى أو حتى وظيفة وهي تخرج مثل العصفور ذاك، في القصيدة تلك، لذلك الشاعر الذي أنساه ولا أذكر منه سوى هيئته المنتظرة بفم مفتوح. وأنا الذي لا يشاركني في رحلة الأمام غير صوت داخل حسن( وهو يئن على وليفه في أرشيف كاسيتات تحتل محل التسجيلات الذي أملكه اليوم وأشارك الآخرين بسماعها و "ون يا قلب ون"، ولأنه الوحيد المرافق لي رفقة اللصيق والنادب والمذكر ومن يسرد الوقائع التي أكتب الآن حتى لو جاءت بصوت مبحوح.
& أمي في الحقيقة لا تعرف البحة. أعني لا تعرف البكاء. هي لا تقرب البكاء. ذلك أنها الونين كله. فمثلما تجهل تسمية الأشياء، كانت تبرز معرفتها بهذا الونين. تقول أونن وتشد على الكلمة حتى تستحيل كلها شبكة جامعة للآخر. الآخر الذي هو أبو كاظم، كما تحب أن تناديه وتئن معه، وهو أيضاً أبو كاظم محتلاً رفوف محل التسجيلات ـ أعني غرفة الاستقبال ـ وهي التسجيلات ذاتها عندما غضب أبي ولم يعرف كيف يتصرف فحملني بها عربة شحن وأمرني أن أمضي، مشدداً " لا أريد أن أراك في البيت إذا لم تتخلص منها".
& أراد أبي أن يكمل فعلته فأضاف يهزها من رأسها بصوت مبحوح هو الآخر: يا ليتني أعيش وأراك تضحكين لمرة.
&& لم تكن قد نسيت الضحك، لكنها لحظة مؤجلة تراكمت فوقها صور وأصوات ولمعان عيون أحبتها. كانت تقول له: إذا لم أئن عليهم فمن يذكرهم. ثم تسرح مع صوت أبو كاظم، وعندما تعيها لحظة تسمية الأشياء التي تجهلها تقول: أونن.. ثم تشير وحسب:هذا الشيء.لأنها كلها أشياء بلا تسمية في رأسها وعلى لسانها، كلها أشياء بلا تعريف، ناقصة، لا تكتمل سوى باهتزاز الرأس وميوعته ثم اتكاء الحنك على اليد وتجميع الجسد بحركة واحدة.
القصة التي تقرؤونها معي وتصرون على تبديل عنوانها لأنه ليس فصيحاً، فأخبركم بأن الأنين بلهجتها ـ هي أمي إلا أنها لا تستطيع تحديد الأشياء ـ& لا يكتمل دون حذف الألف وإضافة واو بدله ولأنها لا تعني الأنين وحسب بل الحرقة و ذوبان الجسد و شد الأوصال وذرف الدموع حتى لا يبقى أثر لدمعة واحدة.
&&& كتبت القصة منذ زمن بعيد، هو ليس الآن، ربما قبل عشرة أعوام عندما لم أفكر بعد بكتابتها، ولم أكن أتخيل حتى اللحظة التي سأجلس فيها لأسطر الحروف كي يكون لها معنى أو حتى وظيفة وهي تخرج مثل العصفور ذاك، في القصيدة تلك، لذلك الشاعر الذي أنساه ولا أذكر منه سوى هيئته المنتظرة بفم مفتوح. وأنا الذي لا يشاركني في رحلة الأمام غير صوت داخل حسن( وهو يئن على وليفه في أرشيف كاسيتات تحتل محل التسجيلات الذي أملكه اليوم وأشارك الآخرين بسماعها و "ون يا قلب ون"، ولأنه الوحيد المرافق لي رفقة اللصيق والنادب والمذكر ومن يسرد الوقائع التي أكتب الآن حتى لو جاءت بصوت مبحوح.
& أمي في الحقيقة لا تعرف البحة. أعني لا تعرف البكاء. هي لا تقرب البكاء. ذلك أنها الونين كله. فمثلما تجهل تسمية الأشياء، كانت تبرز معرفتها بهذا الونين. تقول أونن وتشد على الكلمة حتى تستحيل كلها شبكة جامعة للآخر. الآخر الذي هو أبو كاظم، كما تحب أن تناديه وتئن معه، وهو أيضاً أبو كاظم محتلاً رفوف محل التسجيلات ـ أعني غرفة الاستقبال ـ وهي التسجيلات ذاتها عندما غضب أبي ولم يعرف كيف يتصرف فحملني بها عربة شحن وأمرني أن أمضي، مشدداً " لا أريد أن أراك في البيت إذا لم تتخلص منها".
& أراد أبي أن يكمل فعلته فأضاف يهزها من رأسها بصوت مبحوح هو الآخر: يا ليتني أعيش وأراك تضحكين لمرة.
&& لم تكن قد نسيت الضحك، لكنها لحظة مؤجلة تراكمت فوقها صور وأصوات ولمعان عيون أحبتها. كانت تقول له: إذا لم أئن عليهم فمن يذكرهم. ثم تسرح مع صوت أبو كاظم، وعندما تعيها لحظة تسمية الأشياء التي تجهلها تقول: أونن.. ثم تشير وحسب:هذا الشيء.لأنها كلها أشياء بلا تسمية في رأسها وعلى لسانها، كلها أشياء بلا تعريف، ناقصة، لا تكتمل سوى باهتزاز الرأس وميوعته ثم اتكاء الحنك على اليد وتجميع الجسد بحركة واحدة.
أتجول منذ أمر الأب وبعهدتي عربة كاملة من تسجيلات داخل حسن.
لا أجد من يقبل بها. يواجهني الجميع بتلك النظرة المعهودة التي لا تعرف تحديداً للأشياء، ثم يطرقون برؤوسهم ويقولون ما زلنا ننتظره حتى يخرج.. عفواً تنتظرون ماذا؟.. ذلك العصفور!
ظننت إن الشاعر هو الوحيد الذي ينتظر بفم مفتوح على الدوام، لكن الآخرين صححوا لي خطأي، ثم أغلقوا الباب وطردوني.
كل مساء أعود قرب البيت ـ بيتنا ـ عسى وأسمع ما ينبئ بتغير شيء، فأعود وأستريح. لكن لا شيء من ذلك يحصل. كلمات الأشياء غير المحددة تتقافز بحرية، و"أونن" تتلاقفها ريح الشوارع وآذان الناس المفتوحة باتساع أفواهها. فأعود بعربتي متجولاً من حي لآخر.
& أمضيت الأيام بحثاً عن ملجأ، حفرة، أو وكر كي أخبئ صوت داخل حسن دون جدوى. اكتشفت أن الجميع عندهم ذاك "الونين" ويبحثون عن طريقة ليتخلصوا منه، فيبعثون بأبنائهم محملين بعربات مثلي كي يطمروا صوته. بعضهم عاد دون توضيح لمهمته. آخرون اختفوا مع التسجيلات. حدثني البعض عن موت أبنائهم ما أن رجعوا ليلة التخلص من الصوت.
احترت بين رغبتي باللجوء إلى الفراش والراحة، وبين غضب أبي. لم أعرف شيئاً عما يدور في البيت وكيف مضت أيام أمي دون "أونن".
& في ليلة تجوالي قرب أهوار القصب بلا ماء لمحت ما يقرب لحظة الخلاص. حملت العربة بأكملها حتى تلال الآلهة النائمة. غافلت خالي المحاط برؤوسه الحجرية ودخلت بوابتها الكبيرة. قلت: الصوت يعود لأهله. تركت الونين برفقة أحجار وعيون وطين منحوت، وركضت دون تفكير بحل آخر.
دخلت البيت ولم أنطق بحرف واحد. هز الأب رأسه ولم يسألني. لمحت الإرتياح على وجهه أو هذا ما بدا لي. لم أتعب نفسي بالبحث عن أمي.
جربت أن أنام!
& عندما صحوت بدت لي الأصوات أكثر غموضاً. ولم أحظ بحضورها. وهي أمي.
& فتشت عن صوتها في البيت فسمعته ولكني لم أعثر عليها، أعني لم أجدها حاضرة باتكاء الحنك على اليد وهزة رأسها بمثابة استدعاء تام للأنين. لم تكن. ظننت أول الأمر أنها حاضرة لأنني أستمع للأنين يخترق البيت من كل جهة.
& الأب والأخت ـ الأخوة أيضاً لا بد منهم هنا وإن لم يذكروا كممثلين ثانويين ـ وناس الجيران وكل من يأتي ليطل برأسه من الباب ليرى من تئن في كل ساعات اليوم، أكدوا لي أنها موجودة في البيت وإن لم أرها. هم يتحدثون إليها وتشاركهم الجلوس والخروج بحثاً عن أصوات تشبهها فتجتمع بهم وتحادثهم عن الأشياء التي بلا مسمى ولا تعريف لأنها تحير بتحديده فتقول برفقتهم: أونن.
& أصبح سؤالي عنها بمرور الأيام نوعاً من الغباء أو المماطلة، ذلك أنهم في المرات الأخيرة لم يكونوا يجيبونني بكلمة واحدة. الأب يزيد كمية القطن في أذنيه ويحدثني عن تكاثر الأصوات في رأسه، يحشو الأذنين بلا طائل فالكل مرده للعين، أقول له وهل نطفئ العين أيضاً، يقول: أنت لا تدرك ما أرمي إليه، أقصد العين الأخرى..الرأس.. العين من الداخل، هل تفهم؟
& سلوة أبي الوحيدة بعد حشو الأذنين بالقطن والحديث بلا حديث، كان نبش تربة الحديقة. في كل مرة يطلب مني أن أنقب بدلاً عنه بينما يجلس تحت ظل النخلة لا يلتفت لي ولا يريد مشاركتي ولكنني ما أن أقف حتى أراه يستعجلني. أعرف أنه يستعجلني لاستخراج ما دفنه بنفسه قبل أعوام بعيدة. يدلني على المكان بسهولة وما أن أسرع باستخراج مجموعة الصواني النحاسية حتى يقترب مندهشاً ويبتدئ سرد حكايتها؛ حكايته:
&& لم أتخلص منها، لم أستطع لأنها كانت لأمك. كل صينية نحاسية ذكرى ولادة لأبن. هذه صينية الملك، والأخرى للوصي، الوجوه لا ترى بوضوح اليوم، وهذا شارب الزعيم، هو كل ما تبقى منه على هذه الصينية..لم لا تحفر أكثر وتستخرج أخريات غيرها.. أقول له ألا يكفي أننا نعيش بوجوههم كل حياتنا يا أبي. يقول أحفر أكثر متعذراً بحشوة القطن وأنه لا يسمعني، ولأنه لا يريد للونين من الغرفة الأخرى أن يصله. وهو ممتن لي لأنني أساعده بأن لا تضيع ثروته.. ولكن يا بني لا تحدث أحداً عنها، لأنهم طلبوا أن نتخلص منها أو نتبرع بها للمتاحف.. لم أرد ذلك إذ لكل صينية طرف حكاية، شتلة جديدة، أبن، ولادة وتعب ورحيل.. أنت تفهمني حقاً.. لقد تنازلت عن الخناجر والسيوف والأسلحة..بل حتى الحصان المسروق من حظيرة لم يعد يخطر على بالي لولا أنه يبرز تبعاً لرجاء من أمك، و..أيضاً.. مسدس صغير يذكرني بها، لأنني كنت أحمله معي في نهار وقوع نظري عليها قبل أن تقع أرضاً فأقع في حبها.. أمك هي نفسها التي أبتسمت، أو لا أعرف هل ابتسمت حقاً لأني لم أعد أعرف للبسمة أثراً على وجهها، وأهزها كل يوم عسى تنسى أو تصمت، لكنها أمك.. أنت أعرف..أنها أمك.
&&&& لكنها هي متناسياً للحظة حكاية أخرى يرددها أبي على الجميع إلا معي، عن حصان وسرقة، و موافقتها على الزواج بشرط ارتداءها للأسود، فاتحة الأنين آنذاك نظراً لموت ناقة؛ وناقة هنا عمة أمي وليست أنثى الجمل بالتحديد.. هي نفسها التي يكلمني عنها أبي أو لا يكلمني عنها بحديثه للآخرين..هي أمي التي أبحث عنها في غرف البيت منذ تخلصي من عربة تسجيلات داخل حسن، ولا أجد لها أثراً. لا أحدد لها شكلاً. أريد أن أطمئن وحسب أنها هنا. الأب يهز الرأس المحشو بالقطن ويقنعني بوجودها:"هناك في غرفتها تنوح". والأخت التي أتتبع خطوها من غرفة لأخرى، &تشير لي أنها الآن هنا؛ خرجت منذ ساعة؛ ستحضر مجلساً؛ ولن تعود حتى الغد..أو شيء من هذا " تعال معي وستراها في وسطهن تئن..". لذا أتبع حركاتها ـ هي الأخت ـ عسى وأصل لرؤية أمي وأخبرها عن عربة التسجيلات. التتبع له أثره أيضاً، لأنك تضل في كل خطوة فتظن أنك مازلت تراوح في مكانك مثل عقاب الجندي. لكن الحال ليس هو فعندما تمضي الأخت وأكون خلفها عسى وأرى أمي، تحملني بمتاعها. مثل حقيبة، كيس كتب أو ما بدا لي آنذاك، وتأمرني أن أسكت: "لا أحد يرتضي دخولك، تشبث بثوبي ولن يطردوك". تدخل البيوت بيتاً بيتاً، أجلس بالخلف منها، وما أن أنتبه لها حتى تكون قد تململت وهزت الرأس فسقط الحنك على اليد وجمعت تدويرة الفم ونطقت: أونن.
رأيتها تميل مثل أمي. فيميل الناس حولها وهي تفرش الكتيبات في حضنها وتختار ما تراه يساعد على اهتزاز الأجساد وصراخ اللسان. أمضي خلفها متمسكاً بكوب الدارسين ـ تسمى أيضاً قرفة، أو هي الأصح ربما بعرف عارفي الأعشاب ـ حتى لا ينسكب أرضاً من تأثير الدربكات وتلاطم الأقدام على وقع صوت الأخت. أتمسك بكوب الدارسين ولا يهمني غيره (تقول لي كل مرة: ألا يكفيك طفولة؟) لأن الدارسين يحيل الأجساد كلها وصوت النعي والدربكة إلى تناغم آخر يجعلني أصبر على مرافقة الشقيقة( أقول لها: ولكنني أنا الطفل وأرافقك) وهي المصاحبة التي لو تمت اللحظة؛ الآن؛ لما شاركت بغير التمسك بكوب الدارسين. حقيقة لا غير. وهي منصفة أو مهضومة أو معتبرة أو ثاقبة البعد إلا أنها الحقيقة التي أمضي ورائها وأنا أتشبث بثوب شقيقتي حتى لا تطردني النسوة من مجالس أنينهن، والتي أجد شقيقتي تتوسطهن وتعلمهن رقة الغفوة و الانحناء والميوعة حتى النشيج الذي لا يبتدئ ولا ينتهي لأنه لصيق و أزلي و مرافق.
& نطوف البيوت، وهي متشابهة حقاً، إلا من طعم الدارسين بين بيت وآخر. تقول الشقيقة آنذاك (آنذاك ليست من الحاضر وهي صيغة استحضار للماضي، أو ما أعتقده أو أظن بأنني أريده لولا عدم ثقتي بكل تعبير معين) بأنني ما أن أصغي إلى درجة الغفوة حتى يصبح طعم الدارسين ليس دارسينا وتنحني رقبتك وتتذكر البياض؛ و "لكنك ما زلت مشدوداً لكوب الشراب الساخن وحسب؛ و.. يا ويلي لو تراك أمي".
&& في المرات العديدة للطواف تحدثني الشقيقة عن حقيبة كتيباتها التي أحملها لها بمثابة دولاب متنقل، وتقاطع تساؤلاتي وأنا أستعلم عن الأم؛ تقول لي بأنني كائن متحرك لا يهمه سوى السوائل المنشطة لأنني لو نظرت للحظة فسأجد أمي بقربي.. ولكنني أبحث عنها منذ... لا تنطق بكلمة.. أنت لا تهتم بالبياض. ثم تتابع سيرها،أنا خلفها، وتتابع ونينها الذي لا يشبه الآن سوى صوتها الذي أعرفه:...أنت لأنك لم تتبع الخطوات المعروفة بترويج عربة الكاسيتات. لو تعبت قليلاً لوجدت من يريدها. ناس كثر من لا يحفل ولكن لو حدثته عن تهدل الحنك حتى اليد ولمحة بياض العين لراق له بضاعتك.. أنت لأنك وجدت في مخبأ تماثيل الخال ورؤوسه ما سيخلصك من سؤال الأب.. الأب لو تمعنت بنفسك لعرفت أنه رغب أن تحمل الكاسيتات لأنه مشدود لها أكثر من أمي.. ليتك فكرت بالبياض.. مثلي.. أو مثل الأخوات الأخريات، أو مثل الأخ الأكبر عندما مضى خلف بياض رائق وما زال يجوب بعربته متون الجبال( "آه يا ماوت" يسمونه؛ أو موت يا آه أسميه) لذا& تتعجب الأم أنك لا تعرف أين تكون ولا تتضح لك هيئتها في غرفتها؛ ثم أنها تختبر هدوئك لأنها تظنك الأخ الأكبر وقد عاد.. تتخفى عن نظرك فلا تراها، مثلما لا تراني في حلقة البياض لأنك مهموم بكوب الدارسين.
أقول: ولكن... تقول أصمت ولو لسماع صوتك!
& الصوت مثل نقر العصفور، ليس عصفور الشاعر حتماً، مثل أي عصفور فوق شجرة في فراغ يسمى سماء هي ملك الآخر الذي له تسميات عديدة وكلها واحد. النقر يتبعني لذا لا أميز الهدوء عن التحرك. تسميني شقيقتي كائناً متحركاً وهي قد تعني ساقيّ الطويلتين، وربما ليس التأكيد عن طول أو قصر بقدر ثبات العجيزة عند زاوية وفتح الأذنين لسماع همسة تمر، تمرق متغافلة عن أنك قد تحضى بنقر وقعها..مثل..مثل العصفور.
& جربت أن أنصت حقاً ولكن ما سمعته وحسب ( لنقل أنني تنبهت له أو أنتظرته أن يحدث) هو حديث الشقيقة للشقيقة. أقصد حديثها لنفسها. أنسكب سائلي وانسحبت باتجاه غرفتها؛ سائلي يجرني رغماً عني ما أن تهمس شقيقتي لأن غرفتها مثل حقل لا أفرق بدايته من نهايته فأفضل ما تفضله القدم... يقول لي تقدم فأتقدم، ثم يصم أذني وتغلق عيني ويقول هل تر وتحس وتسمع فتبرق جدحة الرأس وأعلم بما يدور رغم أنني لا أسمع ولا أرى ولا أشعر؛ أعلم وحسب، ولأنني مطرود من كل هذا فأعجز عن أن أخبركم بما يمكنني من إتمام القصة. لذا يقودني الذي قال تقدم وقدم لي ما يشبه كرسياً و وسمني بالعجز؛ أنا أعجز حقاً عن اضافة أية كلمة للحدث فلا عذر لي بعد حين أن تقرأوا نصي ناقصاً ولن يسمى بعدها بأي تسمية محددة وفق تسميات السادة النقاد.. لذا أوافق ولو مضطراً... أرى الأخت تتقدم وتسجل بيدها ما يدور عنها ولو أنها تستخدم صيغة الـ هو، الآخر، ( هنا الـ هي). أتركها لطالما أتمتها أحسن مني فأنا لم أعد أكتب قصصاً منذ أن كتبت هذا النص قبل أكثر من عشرة أعوام أو هذا ما خطر لي أو أخبرتكم به في البداية حتى أتهرب من وقع ألسنتكم ولأن القصص متعبة يوماً بعد آخر كما أنني لم أعد أعرف تعريفاً ممكناً لها ولا أدري هل قصص الآخرين قصصاً أم ما أكتبه أم كلاهما أم لا شيء منها ( تذكر يا موس.. وأنا أؤكد لا غير.. أننا لا نحيد عن السؤال نفسه ونضحك ملء أرواحنا لأننا نضحك من محيط الرأس حتى خليج القدم ومع هذا سيأتي من يسأل ما معنى موس هذا ـ سيرجعونه إلى أثر الحلاقة ـ وليس غيرنا أو أحد آخر يعرف معناه) .. و أنتم تقولون .. أم هي التي تقول لي؛ الآن: أنتَ أعلم بها.
&& كانت هناك عينات من كل شيء في الغرفة.
&& عينات جمعتها برحلة الدوار خلف اتكاء حنك الأم بمثابة منبه للونين بعد حين. كيف اختارتها الأم وهي التي تعلم بأن شغف البنت ليس أكبر من شغف أخريات. تجميع صور حسين فهمي ـ لأنه أكثر وسامة آنذاك مثل إنكليزي مجازاً ـ وكتابة رسائل غرامية حتى لو كانت لشخص وهمي، بديباجة تبدأها بـ:" راية غرامي التي ترفرف في الروح" وتنهيها ـ " أذكروني كلما هب النسيم وأحبوني كلما غنى عبدالحليم". ولكن الأذن تسمع أشياء أخرى فجرتها الأم بشدة وحزم.
&& التنقل من كتيب لآخر حتى تتحول العين من انتباهة " تذكروني كلما غنى عبدالحليم" إلى " أنه شعندي بعد ويه الليالي". العين أولاً ومثل نفضة على الظهر تنعدل الصورة وتتشابه الأصوات. لا أريد أن أقول بأن المران أمتد أعواماً. أعوام شبيهة بالتي تجر الآن (صغير هو الأخ) وتطالبه بأن ينتبه للبياض. الأم حملت وعاء البياض كله وفرغته دفعة واحدة في أذني البنت.. هي البنت نفسها والتي لم تعد هي. في المرات التي تلت قالت الأم لا داعي لأن تنزلين الحنك، داخل حسن لم يعد له من وقع آخر، لقد تشربت ببحة البحث عن " الذئب الذي يعوي" فتعوي الأرواح خلفك، وها أنا أتركك مكاني يا أبنتي لأنك قادرة على حمل جبل كلمات الكتيبات حتى وأنت الخفيفة مثل فراشة.. مثل قشة في مهب ريح. والريح لا تستطيع سوى أن تساعدك على المرور.. لتمري بلا خوف، وانقري رقاب منْ لم يحظ برفقة البياض.
& تستمع لصوت أبو كاظم ـ هي أيضاً مثل الأم تفضل ذلك ـ وتقول للآخرين الآن يخرج العصفور من الفم.. فتخرج ولا تعود دون أن تمر على البيوت بيتاً بيتاً مرددة تقدير الدرجة الأولى بزحزحة أوتار البحة، تجمع الجسد كله وتقول: أونن.
&& بدل الرسائل اليوم كتيبات بأحجام مختلفة..كتيبات تقول.. لأنها ليست بحاجة للصوت لأنه موجود( إذن لماذا علي أن أمضي بعربة تسجيلات داخل حسن وأرمي بها بعيداً؟)؛ تقول لأنك لا تعرف الفرق بين المران وبين الرؤية نفسها.
& أفترض الآن.. هو إفتراض قد يجدر بقبولكم أم لا، ولكنني أضعه مثل لطخة وسط النص، وسط المشهد؛ الرؤية كما تريد. وأراقب مثلها وهي تسطر كلماتها عنها. في البداية ظننت به شبحاً لأنني رأيته لحظة سماع الهمس. أقول الهمس وليس الصراخ لأنها كلمة مهذبة وما سمعته عن لسان الأخت ما حملني على تقدير الكلمة بمقدار رهافتها وهي التي كقشة في ريح كما تردد الأم.
&&& دخلتُ أكثر في مدارات غرفتها ورأيتني أزوغ طالما حاولت الأقتراب ولم ألمح سوى البياض. هذا ما بدا لي وعندما تصادم نظري بعيني الشقيقة ورأتني حتى أدارت وجهها وأختفت. نسيت أن أذكر أنني سمعت الصرخة في آن واحد مع إلتفاتة رقبتها ورؤيتها لي وكأنها أرادت أن تخبرني: ليس الآن وقت معاينة.
&& البياض صعد ببطء، الثوب الأبيض أو الشبح الأبيض ملتفاً على جسدها ولم تلتفت مرة أخرى. طارت أو ما خمنته لكنه ليست شبيهاً باختفاء ريميديوس في مائة عام من العزلة لأنها لم تبرح غرفتها بعد ولم يصدق أحد في البيت ما أسرده عليكم الآن. الأب يؤكد لي أنها هناك مع أمها تنوحان.." ثم ألا تسمع..ما لك تزوغ كثيراً..أليس الأجدر بك أن تساعدني بالحفر".. ويوسع حفرتي الأذنين بمزيد من القطن.
&& لأن الجميع يؤكد، فالافتراض أنها ما تزال في غرفتها، مثلما الأم هي أيضاً تنوح وتتذكر أبو كاظم فلا أراها ولكنني أسمعها بين الحين والآخر تئن لوحدها، أو منذ طيران البياض في غرفة الأخت، تتجادلان وتشتكيان وتسندان الواحدة حنك الأخرى وتميلان حتى ملامسة الأرض.
الآن لا أستمع للأنين. قبل ذلك أتجول في الغرف ولا أثر. أستمع لمن ينادي خلفي ويقول الأهم كوب الدارسين. لا أفهم. أتعثر بالكتيبات وتؤرقني حروف كلماتها وأنا الذي لا يستطيع أن يهزها مثل الشقيقة. أجلس أياماً في الغرفة وأراقب البياض. ولكن البياض الذي يحضرني لم يكن غير هيئة الرداء وكأنه يطير برفرفة تحد منها ملاقط تشبكه وكأنه منشور على حبل غسيل. الأخت تكرر بعد حين: ليس الوقت وقت معاينة. النساء تطردني من بيوتها لأنني لا أتشبث الآن بثوب شقيقتي، أو أمي، أي ثوب، ولأنه لم يبق بعد ثوب منذ لحظة الرفرفة في الغرفة.. لم أتذوق الدارسين (الذي يسمونه قرفة) فالبيوت لم تعد مختلفة ومتعددة ولها أبواب.
&& في رؤيتي شك (من يستطيع أن يذكرني بمعنى الكلمة؟) لذا أخرج من البيت ـ لا أعني بيتنا تحديداً ـ حتى دون تهديد من الأب أو أي تذكير.
& أعود حتى تلال الآلهة، هناك حيث الخال مازال يلتهم التبغ ويعدل رؤوساً بأحجامها الطبيعية. أصعد فوق الركام وأبحث عن البوابة. أقرر أن أعود بتسجيلات داخل حسن و لو من أجل أن أصدق ما يردده الآخرون بوجود أمي وشقيقتي في البيت. أصل قرب الجناح المثلوم لرجل برأس عملاق ولحية ممشطة حيث تركت عربة التسجيلات فلا أعثر على شيء. أنقب هنا وهناك بين الأحجار ولكن لا أثر.
صعدت وسألت خالي رغم أنه لا يدرك من سؤالي شيئاً فلا يتحرك له لسان، وأسمعه يردد كذلك: ألم أقل لك دعهم يحملون ما يريدون.. ولكن يا خالي نحن في موضع مختلف الآن، لأنني في انتحال مختلف، وأنا أبحث عن شيء آخر ،.. يقول آه هذا الذي يبدو لك فحسب.. لو تعلم أننا نبحث عن شيء واحد لا غير طوال رحلتنا هذه..ثم ألم أحذرك أن لا تتحدث بلسانين، تتكلم وتئن بآن واحد.
صوت يئن من التل. التل كله يئن ولا أفكر كيف.
لن أعود حتى أعثر على العربة.
أتساءل وأنا أعلى التل. فلا معنى للرجوع مثلما لا معنى لغياب أول.
&& الغفوة بعد حين مثل منشفة منقعة بعشب مخدر. ثم بما يشبه كلابتين ضخمتين أحس بأحدهم يقترب و يقرصني بإبرة دبور ثم يمط فمي وكأنه يؤكد على سمة الابتسام. الفم ينفطر دون صعوبة، ينفتح، تتراخى عضلاته كلها وفي اللحظة التي أشق النظر عبر طرف العين المسهدة أثر ونين متواصل حتى لو سددت السمع بالقطن مثل الأب، ألمحه يخرج من تدويرة الفم.
&يخرج برفرفة. تصافق جناحين يذكراني بما يشبه العصفور ذاك عندما سيختفي في الصمت بعد حين.
لا أجد من يقبل بها. يواجهني الجميع بتلك النظرة المعهودة التي لا تعرف تحديداً للأشياء، ثم يطرقون برؤوسهم ويقولون ما زلنا ننتظره حتى يخرج.. عفواً تنتظرون ماذا؟.. ذلك العصفور!
ظننت إن الشاعر هو الوحيد الذي ينتظر بفم مفتوح على الدوام، لكن الآخرين صححوا لي خطأي، ثم أغلقوا الباب وطردوني.
كل مساء أعود قرب البيت ـ بيتنا ـ عسى وأسمع ما ينبئ بتغير شيء، فأعود وأستريح. لكن لا شيء من ذلك يحصل. كلمات الأشياء غير المحددة تتقافز بحرية، و"أونن" تتلاقفها ريح الشوارع وآذان الناس المفتوحة باتساع أفواهها. فأعود بعربتي متجولاً من حي لآخر.
& أمضيت الأيام بحثاً عن ملجأ، حفرة، أو وكر كي أخبئ صوت داخل حسن دون جدوى. اكتشفت أن الجميع عندهم ذاك "الونين" ويبحثون عن طريقة ليتخلصوا منه، فيبعثون بأبنائهم محملين بعربات مثلي كي يطمروا صوته. بعضهم عاد دون توضيح لمهمته. آخرون اختفوا مع التسجيلات. حدثني البعض عن موت أبنائهم ما أن رجعوا ليلة التخلص من الصوت.
احترت بين رغبتي باللجوء إلى الفراش والراحة، وبين غضب أبي. لم أعرف شيئاً عما يدور في البيت وكيف مضت أيام أمي دون "أونن".
& في ليلة تجوالي قرب أهوار القصب بلا ماء لمحت ما يقرب لحظة الخلاص. حملت العربة بأكملها حتى تلال الآلهة النائمة. غافلت خالي المحاط برؤوسه الحجرية ودخلت بوابتها الكبيرة. قلت: الصوت يعود لأهله. تركت الونين برفقة أحجار وعيون وطين منحوت، وركضت دون تفكير بحل آخر.
دخلت البيت ولم أنطق بحرف واحد. هز الأب رأسه ولم يسألني. لمحت الإرتياح على وجهه أو هذا ما بدا لي. لم أتعب نفسي بالبحث عن أمي.
جربت أن أنام!
& عندما صحوت بدت لي الأصوات أكثر غموضاً. ولم أحظ بحضورها. وهي أمي.
& فتشت عن صوتها في البيت فسمعته ولكني لم أعثر عليها، أعني لم أجدها حاضرة باتكاء الحنك على اليد وهزة رأسها بمثابة استدعاء تام للأنين. لم تكن. ظننت أول الأمر أنها حاضرة لأنني أستمع للأنين يخترق البيت من كل جهة.
& الأب والأخت ـ الأخوة أيضاً لا بد منهم هنا وإن لم يذكروا كممثلين ثانويين ـ وناس الجيران وكل من يأتي ليطل برأسه من الباب ليرى من تئن في كل ساعات اليوم، أكدوا لي أنها موجودة في البيت وإن لم أرها. هم يتحدثون إليها وتشاركهم الجلوس والخروج بحثاً عن أصوات تشبهها فتجتمع بهم وتحادثهم عن الأشياء التي بلا مسمى ولا تعريف لأنها تحير بتحديده فتقول برفقتهم: أونن.
& أصبح سؤالي عنها بمرور الأيام نوعاً من الغباء أو المماطلة، ذلك أنهم في المرات الأخيرة لم يكونوا يجيبونني بكلمة واحدة. الأب يزيد كمية القطن في أذنيه ويحدثني عن تكاثر الأصوات في رأسه، يحشو الأذنين بلا طائل فالكل مرده للعين، أقول له وهل نطفئ العين أيضاً، يقول: أنت لا تدرك ما أرمي إليه، أقصد العين الأخرى..الرأس.. العين من الداخل، هل تفهم؟
& سلوة أبي الوحيدة بعد حشو الأذنين بالقطن والحديث بلا حديث، كان نبش تربة الحديقة. في كل مرة يطلب مني أن أنقب بدلاً عنه بينما يجلس تحت ظل النخلة لا يلتفت لي ولا يريد مشاركتي ولكنني ما أن أقف حتى أراه يستعجلني. أعرف أنه يستعجلني لاستخراج ما دفنه بنفسه قبل أعوام بعيدة. يدلني على المكان بسهولة وما أن أسرع باستخراج مجموعة الصواني النحاسية حتى يقترب مندهشاً ويبتدئ سرد حكايتها؛ حكايته:
&& لم أتخلص منها، لم أستطع لأنها كانت لأمك. كل صينية نحاسية ذكرى ولادة لأبن. هذه صينية الملك، والأخرى للوصي، الوجوه لا ترى بوضوح اليوم، وهذا شارب الزعيم، هو كل ما تبقى منه على هذه الصينية..لم لا تحفر أكثر وتستخرج أخريات غيرها.. أقول له ألا يكفي أننا نعيش بوجوههم كل حياتنا يا أبي. يقول أحفر أكثر متعذراً بحشوة القطن وأنه لا يسمعني، ولأنه لا يريد للونين من الغرفة الأخرى أن يصله. وهو ممتن لي لأنني أساعده بأن لا تضيع ثروته.. ولكن يا بني لا تحدث أحداً عنها، لأنهم طلبوا أن نتخلص منها أو نتبرع بها للمتاحف.. لم أرد ذلك إذ لكل صينية طرف حكاية، شتلة جديدة، أبن، ولادة وتعب ورحيل.. أنت تفهمني حقاً.. لقد تنازلت عن الخناجر والسيوف والأسلحة..بل حتى الحصان المسروق من حظيرة لم يعد يخطر على بالي لولا أنه يبرز تبعاً لرجاء من أمك، و..أيضاً.. مسدس صغير يذكرني بها، لأنني كنت أحمله معي في نهار وقوع نظري عليها قبل أن تقع أرضاً فأقع في حبها.. أمك هي نفسها التي أبتسمت، أو لا أعرف هل ابتسمت حقاً لأني لم أعد أعرف للبسمة أثراً على وجهها، وأهزها كل يوم عسى تنسى أو تصمت، لكنها أمك.. أنت أعرف..أنها أمك.
&&&& لكنها هي متناسياً للحظة حكاية أخرى يرددها أبي على الجميع إلا معي، عن حصان وسرقة، و موافقتها على الزواج بشرط ارتداءها للأسود، فاتحة الأنين آنذاك نظراً لموت ناقة؛ وناقة هنا عمة أمي وليست أنثى الجمل بالتحديد.. هي نفسها التي يكلمني عنها أبي أو لا يكلمني عنها بحديثه للآخرين..هي أمي التي أبحث عنها في غرف البيت منذ تخلصي من عربة تسجيلات داخل حسن، ولا أجد لها أثراً. لا أحدد لها شكلاً. أريد أن أطمئن وحسب أنها هنا. الأب يهز الرأس المحشو بالقطن ويقنعني بوجودها:"هناك في غرفتها تنوح". والأخت التي أتتبع خطوها من غرفة لأخرى، &تشير لي أنها الآن هنا؛ خرجت منذ ساعة؛ ستحضر مجلساً؛ ولن تعود حتى الغد..أو شيء من هذا " تعال معي وستراها في وسطهن تئن..". لذا أتبع حركاتها ـ هي الأخت ـ عسى وأصل لرؤية أمي وأخبرها عن عربة التسجيلات. التتبع له أثره أيضاً، لأنك تضل في كل خطوة فتظن أنك مازلت تراوح في مكانك مثل عقاب الجندي. لكن الحال ليس هو فعندما تمضي الأخت وأكون خلفها عسى وأرى أمي، تحملني بمتاعها. مثل حقيبة، كيس كتب أو ما بدا لي آنذاك، وتأمرني أن أسكت: "لا أحد يرتضي دخولك، تشبث بثوبي ولن يطردوك". تدخل البيوت بيتاً بيتاً، أجلس بالخلف منها، وما أن أنتبه لها حتى تكون قد تململت وهزت الرأس فسقط الحنك على اليد وجمعت تدويرة الفم ونطقت: أونن.
رأيتها تميل مثل أمي. فيميل الناس حولها وهي تفرش الكتيبات في حضنها وتختار ما تراه يساعد على اهتزاز الأجساد وصراخ اللسان. أمضي خلفها متمسكاً بكوب الدارسين ـ تسمى أيضاً قرفة، أو هي الأصح ربما بعرف عارفي الأعشاب ـ حتى لا ينسكب أرضاً من تأثير الدربكات وتلاطم الأقدام على وقع صوت الأخت. أتمسك بكوب الدارسين ولا يهمني غيره (تقول لي كل مرة: ألا يكفيك طفولة؟) لأن الدارسين يحيل الأجساد كلها وصوت النعي والدربكة إلى تناغم آخر يجعلني أصبر على مرافقة الشقيقة( أقول لها: ولكنني أنا الطفل وأرافقك) وهي المصاحبة التي لو تمت اللحظة؛ الآن؛ لما شاركت بغير التمسك بكوب الدارسين. حقيقة لا غير. وهي منصفة أو مهضومة أو معتبرة أو ثاقبة البعد إلا أنها الحقيقة التي أمضي ورائها وأنا أتشبث بثوب شقيقتي حتى لا تطردني النسوة من مجالس أنينهن، والتي أجد شقيقتي تتوسطهن وتعلمهن رقة الغفوة و الانحناء والميوعة حتى النشيج الذي لا يبتدئ ولا ينتهي لأنه لصيق و أزلي و مرافق.
& نطوف البيوت، وهي متشابهة حقاً، إلا من طعم الدارسين بين بيت وآخر. تقول الشقيقة آنذاك (آنذاك ليست من الحاضر وهي صيغة استحضار للماضي، أو ما أعتقده أو أظن بأنني أريده لولا عدم ثقتي بكل تعبير معين) بأنني ما أن أصغي إلى درجة الغفوة حتى يصبح طعم الدارسين ليس دارسينا وتنحني رقبتك وتتذكر البياض؛ و "لكنك ما زلت مشدوداً لكوب الشراب الساخن وحسب؛ و.. يا ويلي لو تراك أمي".
&& في المرات العديدة للطواف تحدثني الشقيقة عن حقيبة كتيباتها التي أحملها لها بمثابة دولاب متنقل، وتقاطع تساؤلاتي وأنا أستعلم عن الأم؛ تقول لي بأنني كائن متحرك لا يهمه سوى السوائل المنشطة لأنني لو نظرت للحظة فسأجد أمي بقربي.. ولكنني أبحث عنها منذ... لا تنطق بكلمة.. أنت لا تهتم بالبياض. ثم تتابع سيرها،أنا خلفها، وتتابع ونينها الذي لا يشبه الآن سوى صوتها الذي أعرفه:...أنت لأنك لم تتبع الخطوات المعروفة بترويج عربة الكاسيتات. لو تعبت قليلاً لوجدت من يريدها. ناس كثر من لا يحفل ولكن لو حدثته عن تهدل الحنك حتى اليد ولمحة بياض العين لراق له بضاعتك.. أنت لأنك وجدت في مخبأ تماثيل الخال ورؤوسه ما سيخلصك من سؤال الأب.. الأب لو تمعنت بنفسك لعرفت أنه رغب أن تحمل الكاسيتات لأنه مشدود لها أكثر من أمي.. ليتك فكرت بالبياض.. مثلي.. أو مثل الأخوات الأخريات، أو مثل الأخ الأكبر عندما مضى خلف بياض رائق وما زال يجوب بعربته متون الجبال( "آه يا ماوت" يسمونه؛ أو موت يا آه أسميه) لذا& تتعجب الأم أنك لا تعرف أين تكون ولا تتضح لك هيئتها في غرفتها؛ ثم أنها تختبر هدوئك لأنها تظنك الأخ الأكبر وقد عاد.. تتخفى عن نظرك فلا تراها، مثلما لا تراني في حلقة البياض لأنك مهموم بكوب الدارسين.
أقول: ولكن... تقول أصمت ولو لسماع صوتك!
& الصوت مثل نقر العصفور، ليس عصفور الشاعر حتماً، مثل أي عصفور فوق شجرة في فراغ يسمى سماء هي ملك الآخر الذي له تسميات عديدة وكلها واحد. النقر يتبعني لذا لا أميز الهدوء عن التحرك. تسميني شقيقتي كائناً متحركاً وهي قد تعني ساقيّ الطويلتين، وربما ليس التأكيد عن طول أو قصر بقدر ثبات العجيزة عند زاوية وفتح الأذنين لسماع همسة تمر، تمرق متغافلة عن أنك قد تحضى بنقر وقعها..مثل..مثل العصفور.
& جربت أن أنصت حقاً ولكن ما سمعته وحسب ( لنقل أنني تنبهت له أو أنتظرته أن يحدث) هو حديث الشقيقة للشقيقة. أقصد حديثها لنفسها. أنسكب سائلي وانسحبت باتجاه غرفتها؛ سائلي يجرني رغماً عني ما أن تهمس شقيقتي لأن غرفتها مثل حقل لا أفرق بدايته من نهايته فأفضل ما تفضله القدم... يقول لي تقدم فأتقدم، ثم يصم أذني وتغلق عيني ويقول هل تر وتحس وتسمع فتبرق جدحة الرأس وأعلم بما يدور رغم أنني لا أسمع ولا أرى ولا أشعر؛ أعلم وحسب، ولأنني مطرود من كل هذا فأعجز عن أن أخبركم بما يمكنني من إتمام القصة. لذا يقودني الذي قال تقدم وقدم لي ما يشبه كرسياً و وسمني بالعجز؛ أنا أعجز حقاً عن اضافة أية كلمة للحدث فلا عذر لي بعد حين أن تقرأوا نصي ناقصاً ولن يسمى بعدها بأي تسمية محددة وفق تسميات السادة النقاد.. لذا أوافق ولو مضطراً... أرى الأخت تتقدم وتسجل بيدها ما يدور عنها ولو أنها تستخدم صيغة الـ هو، الآخر، ( هنا الـ هي). أتركها لطالما أتمتها أحسن مني فأنا لم أعد أكتب قصصاً منذ أن كتبت هذا النص قبل أكثر من عشرة أعوام أو هذا ما خطر لي أو أخبرتكم به في البداية حتى أتهرب من وقع ألسنتكم ولأن القصص متعبة يوماً بعد آخر كما أنني لم أعد أعرف تعريفاً ممكناً لها ولا أدري هل قصص الآخرين قصصاً أم ما أكتبه أم كلاهما أم لا شيء منها ( تذكر يا موس.. وأنا أؤكد لا غير.. أننا لا نحيد عن السؤال نفسه ونضحك ملء أرواحنا لأننا نضحك من محيط الرأس حتى خليج القدم ومع هذا سيأتي من يسأل ما معنى موس هذا ـ سيرجعونه إلى أثر الحلاقة ـ وليس غيرنا أو أحد آخر يعرف معناه) .. و أنتم تقولون .. أم هي التي تقول لي؛ الآن: أنتَ أعلم بها.
&& كانت هناك عينات من كل شيء في الغرفة.
&& عينات جمعتها برحلة الدوار خلف اتكاء حنك الأم بمثابة منبه للونين بعد حين. كيف اختارتها الأم وهي التي تعلم بأن شغف البنت ليس أكبر من شغف أخريات. تجميع صور حسين فهمي ـ لأنه أكثر وسامة آنذاك مثل إنكليزي مجازاً ـ وكتابة رسائل غرامية حتى لو كانت لشخص وهمي، بديباجة تبدأها بـ:" راية غرامي التي ترفرف في الروح" وتنهيها ـ " أذكروني كلما هب النسيم وأحبوني كلما غنى عبدالحليم". ولكن الأذن تسمع أشياء أخرى فجرتها الأم بشدة وحزم.
&& التنقل من كتيب لآخر حتى تتحول العين من انتباهة " تذكروني كلما غنى عبدالحليم" إلى " أنه شعندي بعد ويه الليالي". العين أولاً ومثل نفضة على الظهر تنعدل الصورة وتتشابه الأصوات. لا أريد أن أقول بأن المران أمتد أعواماً. أعوام شبيهة بالتي تجر الآن (صغير هو الأخ) وتطالبه بأن ينتبه للبياض. الأم حملت وعاء البياض كله وفرغته دفعة واحدة في أذني البنت.. هي البنت نفسها والتي لم تعد هي. في المرات التي تلت قالت الأم لا داعي لأن تنزلين الحنك، داخل حسن لم يعد له من وقع آخر، لقد تشربت ببحة البحث عن " الذئب الذي يعوي" فتعوي الأرواح خلفك، وها أنا أتركك مكاني يا أبنتي لأنك قادرة على حمل جبل كلمات الكتيبات حتى وأنت الخفيفة مثل فراشة.. مثل قشة في مهب ريح. والريح لا تستطيع سوى أن تساعدك على المرور.. لتمري بلا خوف، وانقري رقاب منْ لم يحظ برفقة البياض.
& تستمع لصوت أبو كاظم ـ هي أيضاً مثل الأم تفضل ذلك ـ وتقول للآخرين الآن يخرج العصفور من الفم.. فتخرج ولا تعود دون أن تمر على البيوت بيتاً بيتاً مرددة تقدير الدرجة الأولى بزحزحة أوتار البحة، تجمع الجسد كله وتقول: أونن.
&& بدل الرسائل اليوم كتيبات بأحجام مختلفة..كتيبات تقول.. لأنها ليست بحاجة للصوت لأنه موجود( إذن لماذا علي أن أمضي بعربة تسجيلات داخل حسن وأرمي بها بعيداً؟)؛ تقول لأنك لا تعرف الفرق بين المران وبين الرؤية نفسها.
& أفترض الآن.. هو إفتراض قد يجدر بقبولكم أم لا، ولكنني أضعه مثل لطخة وسط النص، وسط المشهد؛ الرؤية كما تريد. وأراقب مثلها وهي تسطر كلماتها عنها. في البداية ظننت به شبحاً لأنني رأيته لحظة سماع الهمس. أقول الهمس وليس الصراخ لأنها كلمة مهذبة وما سمعته عن لسان الأخت ما حملني على تقدير الكلمة بمقدار رهافتها وهي التي كقشة في ريح كما تردد الأم.
&&& دخلتُ أكثر في مدارات غرفتها ورأيتني أزوغ طالما حاولت الأقتراب ولم ألمح سوى البياض. هذا ما بدا لي وعندما تصادم نظري بعيني الشقيقة ورأتني حتى أدارت وجهها وأختفت. نسيت أن أذكر أنني سمعت الصرخة في آن واحد مع إلتفاتة رقبتها ورؤيتها لي وكأنها أرادت أن تخبرني: ليس الآن وقت معاينة.
&& البياض صعد ببطء، الثوب الأبيض أو الشبح الأبيض ملتفاً على جسدها ولم تلتفت مرة أخرى. طارت أو ما خمنته لكنه ليست شبيهاً باختفاء ريميديوس في مائة عام من العزلة لأنها لم تبرح غرفتها بعد ولم يصدق أحد في البيت ما أسرده عليكم الآن. الأب يؤكد لي أنها هناك مع أمها تنوحان.." ثم ألا تسمع..ما لك تزوغ كثيراً..أليس الأجدر بك أن تساعدني بالحفر".. ويوسع حفرتي الأذنين بمزيد من القطن.
&& لأن الجميع يؤكد، فالافتراض أنها ما تزال في غرفتها، مثلما الأم هي أيضاً تنوح وتتذكر أبو كاظم فلا أراها ولكنني أسمعها بين الحين والآخر تئن لوحدها، أو منذ طيران البياض في غرفة الأخت، تتجادلان وتشتكيان وتسندان الواحدة حنك الأخرى وتميلان حتى ملامسة الأرض.
الآن لا أستمع للأنين. قبل ذلك أتجول في الغرف ولا أثر. أستمع لمن ينادي خلفي ويقول الأهم كوب الدارسين. لا أفهم. أتعثر بالكتيبات وتؤرقني حروف كلماتها وأنا الذي لا يستطيع أن يهزها مثل الشقيقة. أجلس أياماً في الغرفة وأراقب البياض. ولكن البياض الذي يحضرني لم يكن غير هيئة الرداء وكأنه يطير برفرفة تحد منها ملاقط تشبكه وكأنه منشور على حبل غسيل. الأخت تكرر بعد حين: ليس الوقت وقت معاينة. النساء تطردني من بيوتها لأنني لا أتشبث الآن بثوب شقيقتي، أو أمي، أي ثوب، ولأنه لم يبق بعد ثوب منذ لحظة الرفرفة في الغرفة.. لم أتذوق الدارسين (الذي يسمونه قرفة) فالبيوت لم تعد مختلفة ومتعددة ولها أبواب.
&& في رؤيتي شك (من يستطيع أن يذكرني بمعنى الكلمة؟) لذا أخرج من البيت ـ لا أعني بيتنا تحديداً ـ حتى دون تهديد من الأب أو أي تذكير.
& أعود حتى تلال الآلهة، هناك حيث الخال مازال يلتهم التبغ ويعدل رؤوساً بأحجامها الطبيعية. أصعد فوق الركام وأبحث عن البوابة. أقرر أن أعود بتسجيلات داخل حسن و لو من أجل أن أصدق ما يردده الآخرون بوجود أمي وشقيقتي في البيت. أصل قرب الجناح المثلوم لرجل برأس عملاق ولحية ممشطة حيث تركت عربة التسجيلات فلا أعثر على شيء. أنقب هنا وهناك بين الأحجار ولكن لا أثر.
صعدت وسألت خالي رغم أنه لا يدرك من سؤالي شيئاً فلا يتحرك له لسان، وأسمعه يردد كذلك: ألم أقل لك دعهم يحملون ما يريدون.. ولكن يا خالي نحن في موضع مختلف الآن، لأنني في انتحال مختلف، وأنا أبحث عن شيء آخر ،.. يقول آه هذا الذي يبدو لك فحسب.. لو تعلم أننا نبحث عن شيء واحد لا غير طوال رحلتنا هذه..ثم ألم أحذرك أن لا تتحدث بلسانين، تتكلم وتئن بآن واحد.
صوت يئن من التل. التل كله يئن ولا أفكر كيف.
لن أعود حتى أعثر على العربة.
أتساءل وأنا أعلى التل. فلا معنى للرجوع مثلما لا معنى لغياب أول.
&& الغفوة بعد حين مثل منشفة منقعة بعشب مخدر. ثم بما يشبه كلابتين ضخمتين أحس بأحدهم يقترب و يقرصني بإبرة دبور ثم يمط فمي وكأنه يؤكد على سمة الابتسام. الفم ينفطر دون صعوبة، ينفتح، تتراخى عضلاته كلها وفي اللحظة التي أشق النظر عبر طرف العين المسهدة أثر ونين متواصل حتى لو سددت السمع بالقطن مثل الأب، ألمحه يخرج من تدويرة الفم.
&يخرج برفرفة. تصافق جناحين يذكراني بما يشبه العصفور ذاك عندما سيختفي في الصمت بعد حين.
&
مهداة ... إلى سامية بمناسبات زينب الدائمة.
&
التعليقات