&
من عادتنا ان نسمع الآية القرآنية "اذا زلزلت الارض زلزالها" نسمعها ونقول قول أهل التقوى والايمان "ان الزلزال من المفردات الجيولوجية. المحملة بالمعاني القدرية". لكن، الزلزال في هذه الايام (وربما من قديم الزمان) صارت له اسباب قضائية، والقصد ان ترى زلزالا من فعل "الانسان"، وهذا في مضماره ليس بجديد، لكن درجة كلمة زلزال في الاعلام في الفترة الاخيرة بدت ملفتة حقا، وتبين ان "الصقور" في السياسة هم صناع زلازل بامتياز، ومحترفون في هذه الصناعة.
والحق انه في غمرة الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على "الارهاب" في افغانستان، كان علينا ان نتخيل من خلال المشاهد التلفزيونية المتوفرة عن هذه البلاد، ان الدمار الرهيب الحاصل جراء القصف الاميركي، هو من فعل "زلزال" (قضائي وليس قدريا)، ذلك ان العديد من القرى الافغانية المعروفة ببيوتها الطينية الهشة البناء والتي تعرضت للقصف، لم يصمد منها جدار، وكان على أميركا ان تقوم بأفعالها هذه ردا على "الزلزال" الذي أحدثه "صقور" الاصولية الاسلاميّة في هجومهم الانتحاري على مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك.
وفي منحى آخر، غداة عملية رئيس وزراء اسرائيل أرييل شارون المسماة "الجدار الواقي" والتي كان من نتائجها مجزرة مخيم جنين، وحين دخل الصحافيون هذا المخيم وصفوا الدمار الحاصل من القصف الشاروني بأنه "كفعل زلزال" لكن شارون يبدو أشد وقاحة من الاميركيين، فهو لم يتردد في القول بأن ما فعلته قواته "كان حربا على البنية التحتية للارهاب".
وبعد الدورة الاولى من الانتخابات الفرنسية وفوز زعيم الجبهة القومية الفرنسية جان ماري لوبن الى الدورة الثانية، وفي رد فعل ذي دلالة مميزة، وصف الفرنسيون "صعقة" نجاح لوبن، بأنها "زلزال"، كلام يوحي بأن ما يحدث على أرضهم، قدري، وليس من صنيعتهم، علما بأن واحدا من بين كل اربعة فرنسيين كان قد اقترع لليمين المتطرف، لكن "الزلزال" الفرنسي المذكور لم يسفر عن سقوط قتلى وأضرار مادية مباشرة (بتعبير أحد الشعراء)، لكنه أسفر بالتأكيد عن صفعة للجمهورية الخامسة والاتحاد الاوروبي والديموقراطية.
قد يكون السؤال من أين تقرأ تداعيات الزلازل المذكورة اعلاه؟! لا شك في ان هذه الزلازل لا تنفصل عن أحداث الحادي عشر من ايلول، فازاء هذه الاحداث سيطر "صقور" اليمين المتشدد في الولايات المتحدة على زمام الامور السياسية، وهم مهووسون بالامن القومي ويحتلون أهم المراكز في واشنطن، يصنعون سياسة الادارة الاميركية الخارجية، وخيارهم منذ 11 ايلول هو الخيار العسكري والحرب المفترضة على الارهاب، وهذه الحرب هي اساس الشعبية الفائقة التي يحظى بها جورج (دبليو) بوش على غرار ما ازدادت شعبية أرييل شارون بعد عملية "الجدار الواقي"، واذا كان الصعود البوشي يشير الى ان الاصوليين الاميركيين واليهود المتطرفين يحاصرون البيت الابيض، فالصعود الشاروني يؤشر الى ارتداد المجتمع الاسرائيلي الى ايديولوجية يمينية أصولية متشددة كالتي جسدها جابوتنسكي وحزبه التصحيحي في العشرينات وهي ايديولوجية تجمع بين التوراة والمسدس وتكلف المسدس تحقيق وعد التوراة بـ"أرض اسرائيل" وتمارس السياسة بوصفها "فن القوة"، وهذا ما أظهرته مجزرة "زلزال" جنين وقبلها صبرا وشاتيلا وسواها.
على ان احداث الحادي عشر من ايلول كان لها الدور الكبير في التحالف الجذري بين بوش وشارون، الا اننا لا ندري مقدار الاثر الذي تركته الهجمات وما تلاها على صوغ مختلف البرامج السياسية للقوى الرئيسية في فرنسا، لكن المؤكد ان تصاعد لهجة الخطاب المحذر من تفاقم الوضع الامني والعنف في الضواحي قد لعب دورا بارزا في "ضخ" اليمين المتطرف، واذا كان شيراك وجوسبان قد اتفقا على تسمية الوضع القائم بـ"التدهور الامني"، فهذا يعني ان هناك مشكلة مزمنة في الضواحي التي هي في مثابة قنابل موقوتة داخل الجسم الفرنسي، وتفيض منذ مدة عنفا وسرقة، مما شكل "الثغرة" التي استطاع من خلالها زعيم الجبهة القومية، ان يزيد من شعبيته، اذ افادت دراسة دقيقة لطبيعة ناخبي لوبن، ان 74 في المئة منهم وضعوا في مقدم اهتمامهم غياب الامن في مختلف مناطق البلاد، وعلى هذا يلتقي الصقور الثلاثة، بوش، شارون، لوبن، الاول يطارد "الارهاب" لدواعي الامن القومي الاميركي، والثاني حليفه الشرق الاوسطي، اما الثالث فيتوخى امن اسطورة الامة الفرنسية النقية ويريد "ترانسفيرا" ضد الاجانب فهو يعزو الاخلال بالامن الى الابواب المشرعة على العالم، ويريد فرنسا معزولة ومنافية لتقليدها المتبع كأرض لجوء وبلد حقوق الانسان، وهو لا يحتمل سمرة المهاجرين ويقر بأنه لا يستطيع ان يحبهم الا حين يكونون في اوطانهم، ولا يطيق الشراكة الاوروبية.
ما نستنتجه من "زلزال" لوبن هو ان المواطن الفرنسي لم يعد يعرف كيف يفرق بين شيراك وجوسبان، اصبح الناس يقولون بأن التصويت لشيراك او لجوسبان هو الشيء نفسه، وبدا ان الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية، اي احزاب بلير، وشرودر، وجوسبان، استقالت من سياستها الاشتراكية الديموقراطية، وتحولت الى نسخة منقحة عن الرأسمالية، ولا ندري ما ستكون الافكار الجديدة لهذه الاحزاب، وما هي البرامج التي ستطرحها.
الامر الثاني الملاحظ في ظاهرة لوبن، هو تدهور ملحوظ في شعبية الحزب الشيوعي الفرنسي، مثلا، الذي بقي، لخمسين عاما (بين العشرينات والسبعينات) القوة الرئيسية في الحياة السياسية الفرنسية، فيما تنشط التجمعات المدنية التي تضم شتاتا من البيئويين والنسويين والمثليين وانصار حقوق الانسان ومناهضي العولمة، فضلا عن تضخم في عدد الجمعيات الناشطة في حقول هامشية وجزئية، وهذه الجمعيات بلغ تعدادها في فرنسا بحسب ما يذكر جورج طرابيشي 900 جمعية، مما يعني ان واحداً من كل ستة فرنسيين بات ينتظم - بصورة طوعية - في اطارها.
الامر الثالث والاساسي في ظاهرة لوبن، هو عودة الخطابة الوطنية الى الربوع الاوروبية، والحال ان الدول الوطنية التي دأب المحللون والكتاب على دفنها وخصوصا في ظل العولمة، استعادت الكثير من ملامحها خلال الاونة الاخيرة، والارجح ان السبب في ذلك هو المصاعب والازمات الاقتصادية الناتجة من الاخذ بالليبيرالية الاقتصادية المفرطة، التي تعتبر ركنا اساسيا من اركان العولمة وشرطا من شروط البنك الدولي. يبقى القول ان "زلزال" لوبن السلمي (واللاقدري) هو "صعقة" للفرنسيين، لكنه في وجه آخر درس، ويشكل احتجاجا على اضمحلال السياسة وانحصار الشأن العام، في التكتلين اليمين (الديغولي) واليسار (الاشتراكي).(النهار اللبنانية)
والحق انه في غمرة الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على "الارهاب" في افغانستان، كان علينا ان نتخيل من خلال المشاهد التلفزيونية المتوفرة عن هذه البلاد، ان الدمار الرهيب الحاصل جراء القصف الاميركي، هو من فعل "زلزال" (قضائي وليس قدريا)، ذلك ان العديد من القرى الافغانية المعروفة ببيوتها الطينية الهشة البناء والتي تعرضت للقصف، لم يصمد منها جدار، وكان على أميركا ان تقوم بأفعالها هذه ردا على "الزلزال" الذي أحدثه "صقور" الاصولية الاسلاميّة في هجومهم الانتحاري على مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك.
وفي منحى آخر، غداة عملية رئيس وزراء اسرائيل أرييل شارون المسماة "الجدار الواقي" والتي كان من نتائجها مجزرة مخيم جنين، وحين دخل الصحافيون هذا المخيم وصفوا الدمار الحاصل من القصف الشاروني بأنه "كفعل زلزال" لكن شارون يبدو أشد وقاحة من الاميركيين، فهو لم يتردد في القول بأن ما فعلته قواته "كان حربا على البنية التحتية للارهاب".
وبعد الدورة الاولى من الانتخابات الفرنسية وفوز زعيم الجبهة القومية الفرنسية جان ماري لوبن الى الدورة الثانية، وفي رد فعل ذي دلالة مميزة، وصف الفرنسيون "صعقة" نجاح لوبن، بأنها "زلزال"، كلام يوحي بأن ما يحدث على أرضهم، قدري، وليس من صنيعتهم، علما بأن واحدا من بين كل اربعة فرنسيين كان قد اقترع لليمين المتطرف، لكن "الزلزال" الفرنسي المذكور لم يسفر عن سقوط قتلى وأضرار مادية مباشرة (بتعبير أحد الشعراء)، لكنه أسفر بالتأكيد عن صفعة للجمهورية الخامسة والاتحاد الاوروبي والديموقراطية.
قد يكون السؤال من أين تقرأ تداعيات الزلازل المذكورة اعلاه؟! لا شك في ان هذه الزلازل لا تنفصل عن أحداث الحادي عشر من ايلول، فازاء هذه الاحداث سيطر "صقور" اليمين المتشدد في الولايات المتحدة على زمام الامور السياسية، وهم مهووسون بالامن القومي ويحتلون أهم المراكز في واشنطن، يصنعون سياسة الادارة الاميركية الخارجية، وخيارهم منذ 11 ايلول هو الخيار العسكري والحرب المفترضة على الارهاب، وهذه الحرب هي اساس الشعبية الفائقة التي يحظى بها جورج (دبليو) بوش على غرار ما ازدادت شعبية أرييل شارون بعد عملية "الجدار الواقي"، واذا كان الصعود البوشي يشير الى ان الاصوليين الاميركيين واليهود المتطرفين يحاصرون البيت الابيض، فالصعود الشاروني يؤشر الى ارتداد المجتمع الاسرائيلي الى ايديولوجية يمينية أصولية متشددة كالتي جسدها جابوتنسكي وحزبه التصحيحي في العشرينات وهي ايديولوجية تجمع بين التوراة والمسدس وتكلف المسدس تحقيق وعد التوراة بـ"أرض اسرائيل" وتمارس السياسة بوصفها "فن القوة"، وهذا ما أظهرته مجزرة "زلزال" جنين وقبلها صبرا وشاتيلا وسواها.
على ان احداث الحادي عشر من ايلول كان لها الدور الكبير في التحالف الجذري بين بوش وشارون، الا اننا لا ندري مقدار الاثر الذي تركته الهجمات وما تلاها على صوغ مختلف البرامج السياسية للقوى الرئيسية في فرنسا، لكن المؤكد ان تصاعد لهجة الخطاب المحذر من تفاقم الوضع الامني والعنف في الضواحي قد لعب دورا بارزا في "ضخ" اليمين المتطرف، واذا كان شيراك وجوسبان قد اتفقا على تسمية الوضع القائم بـ"التدهور الامني"، فهذا يعني ان هناك مشكلة مزمنة في الضواحي التي هي في مثابة قنابل موقوتة داخل الجسم الفرنسي، وتفيض منذ مدة عنفا وسرقة، مما شكل "الثغرة" التي استطاع من خلالها زعيم الجبهة القومية، ان يزيد من شعبيته، اذ افادت دراسة دقيقة لطبيعة ناخبي لوبن، ان 74 في المئة منهم وضعوا في مقدم اهتمامهم غياب الامن في مختلف مناطق البلاد، وعلى هذا يلتقي الصقور الثلاثة، بوش، شارون، لوبن، الاول يطارد "الارهاب" لدواعي الامن القومي الاميركي، والثاني حليفه الشرق الاوسطي، اما الثالث فيتوخى امن اسطورة الامة الفرنسية النقية ويريد "ترانسفيرا" ضد الاجانب فهو يعزو الاخلال بالامن الى الابواب المشرعة على العالم، ويريد فرنسا معزولة ومنافية لتقليدها المتبع كأرض لجوء وبلد حقوق الانسان، وهو لا يحتمل سمرة المهاجرين ويقر بأنه لا يستطيع ان يحبهم الا حين يكونون في اوطانهم، ولا يطيق الشراكة الاوروبية.
ما نستنتجه من "زلزال" لوبن هو ان المواطن الفرنسي لم يعد يعرف كيف يفرق بين شيراك وجوسبان، اصبح الناس يقولون بأن التصويت لشيراك او لجوسبان هو الشيء نفسه، وبدا ان الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية، اي احزاب بلير، وشرودر، وجوسبان، استقالت من سياستها الاشتراكية الديموقراطية، وتحولت الى نسخة منقحة عن الرأسمالية، ولا ندري ما ستكون الافكار الجديدة لهذه الاحزاب، وما هي البرامج التي ستطرحها.
الامر الثاني الملاحظ في ظاهرة لوبن، هو تدهور ملحوظ في شعبية الحزب الشيوعي الفرنسي، مثلا، الذي بقي، لخمسين عاما (بين العشرينات والسبعينات) القوة الرئيسية في الحياة السياسية الفرنسية، فيما تنشط التجمعات المدنية التي تضم شتاتا من البيئويين والنسويين والمثليين وانصار حقوق الانسان ومناهضي العولمة، فضلا عن تضخم في عدد الجمعيات الناشطة في حقول هامشية وجزئية، وهذه الجمعيات بلغ تعدادها في فرنسا بحسب ما يذكر جورج طرابيشي 900 جمعية، مما يعني ان واحداً من كل ستة فرنسيين بات ينتظم - بصورة طوعية - في اطارها.
الامر الثالث والاساسي في ظاهرة لوبن، هو عودة الخطابة الوطنية الى الربوع الاوروبية، والحال ان الدول الوطنية التي دأب المحللون والكتاب على دفنها وخصوصا في ظل العولمة، استعادت الكثير من ملامحها خلال الاونة الاخيرة، والارجح ان السبب في ذلك هو المصاعب والازمات الاقتصادية الناتجة من الاخذ بالليبيرالية الاقتصادية المفرطة، التي تعتبر ركنا اساسيا من اركان العولمة وشرطا من شروط البنك الدولي. يبقى القول ان "زلزال" لوبن السلمي (واللاقدري) هو "صعقة" للفرنسيين، لكنه في وجه آخر درس، ويشكل احتجاجا على اضمحلال السياسة وانحصار الشأن العام، في التكتلين اليمين (الديغولي) واليسار (الاشتراكي).(النهار اللبنانية)
التعليقات