&
قاسم حمادي : تبعث اشعة شمس ربيع ايار دفئها النادر الى العاصمة استوكهولم فيدخل الى احد مقاهيها الشاب السويدي جوهانس فالستروم العائد للتو من فلسطين التي طردته منها اجهزة الامن الاسرائيلي لقيامه بنشاطات (تشكل خطراً على الامن القومي) ولأدخاله بضعة ارغفة من الخبز الى المحاصرين في كنيسة المهد. فعندما عجزت منظمة الامم المتحدة عن اقناع اسرائيل بارسال مراقبين دوليين الى المنطقة من اجل دارسة الاوضاع عن كثب, وعلى امل تقديم القليل من الحماية المعنوية للشعب الفلسطيني, وضبت مجموعة شبان من اوروبا واميركا حقائبهم وتوجهوا الى فلسطين ليشهدوا على ما يحصل ضد شعب فلسطين. الدرع الواقي الوحيد الذي يحملونه معهم في مواجهة الجيش الاسرائيلي شعرهم الاشقر ولون بشرتهم البيضاء. يفتح الشاب السويدي جوهانس فالستروم, الذي طرد من اسرائيل حديثاً, جهازه الكومبيوتر ليشرح لـ(الحياة) عن الصور التي التقطها في مخيم جنين ومدينة بيت لحم ومنطقة المقاطعة في رام الله, ويقول: (ألتقط هذه الصور لكي اؤرخ ما يحصل في المناطق الفلسطينية, ولأبرهن للمجتمع الدولي ان اسرائيل تنطلق من اسس عنصرية عندما تتعامل مع الفلسطينيين. فنحن الغربيين الذين وُجدنا في مناطق تعد عسكرية, تمكنا من ان نحمي انفسنا فقط من خلال اظهارنا شعرنا الاشقر ولون بشرتنا البيضاء. ونجحنا في ذلك لأننا فهمنا عقلية الجيش الاسرائيلي الذي يمكنه ان يقتل الفلسطيني بكل سهولة ولكنه لا يعرض الغربي الى الخطر خوفاً من ان تقع اسرائيل بمشكلات مع الغرب. أنا توجهت الى اسرائيل لأجري بحثاً جامعياً عن علاقة الناشطين الذين يتبرعون لتقديم العون المعنوي والمادي الى الشعب الفلسطيني, بوسائل الاعلام وطريقة تعاطي الاعلام معهم).
وجد جوهانس نفسه وسط حرب حقيقية عندما سافر الى الشرق الاوسط قبل ايام من اجتياح جنود الاحتلال الاسرائيلي مناطق السلطة الفلسطينية, ولكن علاقته ليست جديدة بفلسطين: (انها ليست المرة الاولى التي اسافر فيها الى اسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية, فأنا أمضيت مع اهلي بضع سنوات في مدينة يافا حيث كنت اشتري الخبز العربي من البائع الفلسطيني ورطل الحليب من التاجر اليهودي.
تلك الصورة السلمية رسخت في ذهني منذ ذلك الوقت ولا تزال ترافقني حتى ايامنا هذه. ولكن مع مرور الزمن ودراستي للأحداث وجدت ان هناك حقيقة مرَّة يجب الاّ نصمت عليها, الا وهي التنكيل الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني على ايدي العصابات الصهيونية). ويشرح جوهانس انه لم يكن يتوقع ان سفره هذا سيضعه في ظروف لم يمر فيها من قبل, وهي ظروف الحرب الحقيقية والخطر المميت الذي يمكن ان يصيب أي انسان في فلسطين. ويعود بالذاكرة الى الايام الاولى للاجتياح الاسرائيلي الذي حصل اخيراً, ويقول: (وصلت الى مدينة تل ابيب فوجدت اجواء الحرب تخيم عليها اكثر من أي وقت مضى. أعلام اسرائيلية ترفرف فوق كل المباني والاعمدة, وصور كبيرة ترمز الى الوحدة وحديث الناس يدور حول الحرب الانتقامية من الفلسطينيين, وفهمت ان الصهاينة نجحوا في تجييش الشارع الشعبي الاسرائيلي ضد الفلسطينيين. هذه الصورة الحربية لم تخف حركة الحياة العادية. كل المواطنين في اعمالهم كما ان الطرقات كانت تعج بالحركة). اثناء وجود جوهانس في تل ابيب وصل خبر اقتحام الجيش الاسرائيلي مخيم جنين وارتكاب مجزرة بحق السكان, فقرر جوهانس الذهاب على الفور الى هناك: توجه اولاً الى القدس ليلتقي رفاقاً له من منظمة التضامن الدولي: (في الاحوال العادية تأخذ الرحلة من القدس الى جنين نحو ساعة من الوقت ولكننا احتجنا الى اكثر من سبع ساعات للوصول الى المخيم. فنحن كنا على علم ان الجيش الاسرائيلي سيمنعنا من الدخول الى المخيم, لذا سلكنا طرقاً وعرة. وبعد سبع ساعات من المشي المتواصل دخلنا مخيم جنين. الصورة الاولى التي خطرت لي هي المقارنة بين تل ابيب ومخيم جنين. المنطقتان في حال حرب, ولكن تل ابيب تنعم بزحمة السير وحياة الناس شبه العادية والمقاهي والمطاعم المزدحمة بالرواد, وفي جنين مجموعة من الناس ينتشلون رأس فتاة لم تتجاوز السابعة من العمر تحطمت جثتها تحت الركام).
الشاب الذي اطلقت عليه اسم اندرش, تسلل الى المخيم مع اول مجموعة شبان من منظمة التضامن الدولي تمكنت من الوصول الى المخيم قبل رجال الاسعاف وقبل الاعلام المحلي والعالمي: (تمكنا من التسلل الى قلب المخيم عبر ازقة المدينة الضيقة وبمساعدة الاهالي هناك. رائحة الموت سبقت هواء الربيع الى روحنا, وشعرنا قبل عشرات الامتار ان هناك مجزرة حصلت. شعرنا بذلك لأنه لدينا خبرة في هذا الموضوع اذ اننا وجودنا في اماكن كثيرة حصلت فيها عمليات قتل جماعية. ومع دخولنا المخيم شاهدنا عشرات الجثث المنتشرة).
اندرش وجوهانس هما من الشبان السويديين الذين ترعرعوا في بلد لم يشهد أي حروب منذ اكثر من مئتي سنة, كما انهما يحصلان على كل ما يحلم به شاب: الامن, والطبابة, والدراسة, والحرية والسكن, والفرح. فلماذا يختاران المخاطرة والسفر الى جنين وبيت لحم? يشرح جوهانس (الانسان يعيش حالياً في زمن العولمة وبخاصة تلك التي تتعلق بعولمة الاعلام, اذ بإمكان الذي يعيش في استوكهولم او نيويورك ان يعرف ما الذي يحصل في جنين. وبهذا اصبح كل انسان على الكرة الارضية شاهداً. ومصطلح شاهد في لغة القانون يعني ان يروي الانسان بانحياز الى الحقيقية ما يجري. يعني, في حال كنت شاهداً على عملية اغتصاب فتاة, فمن واجبي ان اقف امام المحكمة واشهد انني شاهدت الرجل يغتصب الفتاة ولا يمكنني ان اجمّل صورة الاغتصاب. هذا ما يحصل اليوم في عالمنا. فنحن الذين نعيش في العالم الغني كلنا شهود على الجرائم الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني ومسؤوليتنا الانسانية والقانونية ان نشهد على ذلك. لذا اخاطر مثل بقية رفاقي وأسافر الى رام الله وجنين لأكون شاهداً وأبرئ نفسي وان اشهد في المستقبل انني كنت هناك وشاهدت ولم اكن صامتاً).
يشرح اندرش ان الاحداث التي وثقها في جنين سيستخدمها لنشر الحقيقية بين الشباب الاوروبي والاميركي: (فالشباب الغربي يمكنه ان يؤثر في الذي يحصل في فلسطين؟
تمكن اندرش من مغادرة اسرائيل من دون ان يتعرض له الامن الاسرائيلي. اما جوهانس فتم اعتقاله في عملية اقتحام كنيسة المهد التي قامت بها مجموعة من الشبان الغربيين, ويروي: (كان كل شيء على ما يرام. لا اطلاق نار ولا استفزازات, ولكن فوجئت باتصال هاتفي يقول ان الجيش الاسرائيلي يحضر لاقتحام الكنيسة. اجتمعنا مع نشطاء من منظمة التضامن وعدد آخر من جمعيات انسانية وقررنا ادخال مجموعة من 13 شخصاً الى داخل الكنيسة ومعهم طعام وادوية الى المحاصرين. شكلنا ثلاث مجموعات, كل واحدة تتألف من 13 شخصاً وانتشرت مجموعتان على الاطراف شكلت جدارين ودخلت المجموعة الثالثة من بينهما وتمكنت من الوصول الى داخل الكنيسة. انا كنت مع المجموعة التي شكلت احد الجدارين, ووجدت نفسي امام باب كنيسة المهد الا انني لم ادخلها لأنني لم اكن مكلفاً القيام بذلك فعدت ادراجي. وقبل ان نقطع المنطقة التي اعلنها الجيش الاسرائيلي عسكرية تم اعتقالنا بذريعة اننا موجودون في منطقة امنية ممنوع الدخول اليها وتم نقلنا الى سجن عسكري في مستعمرة في الخليل). يشرح جوهانس الذي يتمتع بخبرة واسعة في القوانين الاسرائيلية, ان نقلهم الى الخليل سببه تجنب الجيش ارسالهم الى مناطق الحكم الاسرائيلي حيث يعمل بالقوانين المدنية. وفي حال اعتقل الانسان وتم سجنه في منطقة محتلة لا تخضع لقوانين اسرائيل المدنية فيمكن الجيش ان يسجنه لسنوات من دون ان تصدر مذكرة توقيف بحقه(الحياة اللندنية)
التعليقات