غيّب الموت مساء أول من أمس الشاعر البحريني&ابراهيم العريض الذي يعد واحداً من أبرز الشعراء البحرينيين في العصر الحديث عن 94 عاماً.
وكان العريض الذي ترأس في العام 1972 المجلس التأسيسي الذي وضع أول دستور للبحرين بعد الاستقلال, ولد في مدينة بومباي في الهند في العام 1908 حيث كان يقيم والده وهو تاجر لؤلؤ, وجاء الى البحرين للمرة الأولى في العام 1922 وهو في الرابعة عشرة من عمره ولم يكن يتقن العربية وقتذاك.
وكان العريض الذي يكتب الشعر باللغة العربية والأوردية والفارسية والانكليزية, بدأ حياته العملية مدرساً للغة الانكليزية في مدرسة الهداية الخليفية في المنامة عام 1927 وفي المدرسة الجعفرية في العام 1930, وانتقل الى وظائف عدة في دائرة الجمارك واذاعة البحرين واذاعة دلهي في العام 1943.
وعشية الاستقلال في العام 1971, انتخب العريض في العام التالي 1972 رئيساً للمجلس التأسيسي وعين في العام 1974 سفيراً متجولاً ثم سفيراً مفوضاً فوق العادة في وزارة الخارجية وفق ما أعلنته وكالة أنباء البحرين.
وأصدر العريض أول دواوينه تحت عنوان (الذكرى) في العام 1931 وقد طبع في بغداد, ثم أصدر مجموعة من المسرحيات الشعرية أبرزها (وامعتصماه) و(ديوان) و(شموع) و(أرض الشهداء) وهي ملحمة شعرية عن فلسطين و(قبلتان) وهي قصة شعرية أندلسية, وترجم (رباعيات الخيام) وعدت ترجمته أفضل ترجمة بعد ترجمة أحمد الصافي النجفي.
وكرمت البحرين العريض قبل شهور عندما منحه ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة وسام الشيخ عيسى بن سلمان من الدرجة الأولى, وأصدر أمراً في شباط (فبراير) الماضي بإطلاق اسمه على أحد الشوارع الرئيسة في العاصمة المنامة.
جاء الفتى الصغير ابراهيم عائداً من بومبي لا يعرف العربية, ولكن في عروقه شرق عريض, يمتد على طول البحر من شواطئ بومبي الى شواطئ المنامة, ويمر في بحر العرب وسواحل جزيرة العرب, وفي مروره على المواقع عائداً من سحر الهند الى شمس العرب كان يتهجى ذاكرة غريبة عليه, غريبة الوجه واليد واللسان, غير انها على نقيض غربة المتنبي في الوجه واليد واللسان, حيث غرابة ما يرى الفتى ابراهيم هي وجه آخر للذاكرة يشعر وهو الصغير انه يراه, وان كان يجهله.
انه ابراهيم الذي يعود الى ذاكرة كانت له ولم يحصل عليها بعد, ولكنه لن يحصل عليها في عودته هذه, فحسب, بل انه سيشارك في اثرائها وفي صناعتها وفي تعميم صوتها وتعميق روحها.
عاد ابراهيم العريـض من الهند الى البحرين وكان من الممكن أن يحط الرحال في أي شاطئ عربي منذ ان دارت به السفينة من بحر العرب الى خليج العرب, غير انه كان مسوقاً الى البحرين, حيث مهبط الذاكرة, ومن هناك استعاد الفتى لغته وكان له الخيار في أن ينتقي من هذه اللغة ما شاء, لقد فتحت له اللغة صدرها وقالت له يا بني ارضع, وان فاتك زمن الحضانة الأول فلك ان تأخذ حضانة مفتوحة, لا تقف عند حد, كما هي حضانات الآخرين.
أخذت اللغة ترضعه وأخذ هو يرضع منها, وهي تعطي وهو لا يشبع, ولذا مالت نفسه للرومانسية فقال فيها وكتب عنها وظل بها يحلم ويرضع من عميق أعماق روحها ونسغها, ووصى ثريا, حينما جاءت وقال لها هذه حاضنتي ولتكن حاضنة لك أيضاً, واختلطت هنا الأنفاس, ومن كانت اللغة حاضنته ومرضعته فسيظل المدلل والمعشوق, وهذا شأن ابراهيم العريض, الذي ظل مرتفع الهامة حتى وقد هرم وممتد الصوت حتى وقد فرغ من القول, وعميق الحضور في النفوس حتى وان كل عن النشر.
لابراهيم العريض موقع رمزي خاص جداً في نفوسنا كلنا, لأن شفيعته الينا هي اللغة التي هاجر اليها وفرح بحضانتها له من الهند الى اللحد.
وإذ يذهب العريض اليوم الى لحده وحضنه المنتظر فإنه لا يذهب حزيناً ولا خاسراً لأنه كسب الرهان منذ أن راهن على أجمل ما في ذاكرة بشر, وهو كنز الحب الذي كان ينهل منه وقد تركه الآن لنا لنذكره به ونذكره له.
كان رائداً وكان صادقاً, ولا بد ان نعود اليوم لنشيد بريادته وصدق هذه الريادة, ورحمه الله فقد كان وجهاً مشرقاً لثقافة عربية مثل هو مشرقها الأقصى ليصل الى مغربها الأقصى وليكون صوتاً شعرياً متصل الرنين, من الهند الى اللحد. (عن "الحياة" اللندنية)