&
برلين :& لو جرت الانتخابات النيابية العامة في المانيا هذه الايام لكانت الحكومة الاشتراكية الديموقراطية - الخضراء خسرتها في صورة واضحة امام المعارضة المسيحية والليبرالية (50 في المئة لمعسكر المعارضة مقابل 40 في المئة لمعسكر الحكومة ونحو 6 في المئة لحزب الاشتراكية الديموقراطية/ الشيوعي الاصلاحي).
لكن قبل نحو اربعة اشهر على موعد الانتخابات التي ستجري في 22 ايلول المقبل ورغم ان مختلف الاستفتاءات تظهر تقدم الاتحاد المسيحي على الحزب الاشتراكي الديموقراطي، والحزب الليبرالي على حزب الخضر يصعب على المراقبين السياسيين الاستنتاج منذ الآن بأن هذا الطرف او ذاك حسم الأمر لمصلحته. فحقل المفاجآت لا يزال واسعا، كما ان كل فريق لم يستخدم بعد كل اسلحته الموجودة في جعبته.
اضافة الى ذلك فإن المستشار الحالي غيرهارد شرودر لا يزال يتقدم في الاستفتاءات الجارية على منافسه المسيحي البافاري ادموند شتويبر (رئيس حكومة ولاية بافاريا) بنقاط عديدة، من ناحية مقارنة الناخبين بينهما، ويعتقد انه قادر على افادة حزبه من الشعبية التي يتمتع بها عندما تدق ساعة الحقيقة.
واذا كان الصراع الانتخابي في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية تركز حول قطبين كبيرين هما الحزب الديموقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديموقراطي اللذين كانا يرشحان وحدهما زعماءهما لمنصب المستشار قرر الحزب الديموقراطي الحر (الليبرالي) هذه المرة كسر الاحتكار السائد وترشيح رئيسه الشاب نسبيا غيدو فيسترفيلله رغم معرفته ان حظوظه في النجاح غير متوافرة عمليا. الا ان فيسترفيلله الذي ترشح رسميا اخيرا الى منصب المستشار طرح شعار الحصول على 18 في المئة من اصوات الناخبين، وهو رقم خيالي ايضا بالنسبة الى حزب صغير لم يتجاوز نسبة العشرة في المئة في كل مراحله السياسية باستثناء حالتين، كما ذاق طعما مرا في السنوات الماضية عندما تراجعت شعبيته الى حدود مأسوية.
وقصة صعود الحزب من جديد بدأت قبل عام تقريبا عندما فاز في الانتخابات المحلية في ولاية شمال رينانيا ووستفاليا الكبيرة (تضم 18 مليون نسمة) بحوالى 12 في المئة من الاصوات وسط مد عام ايجابي له منذ ان اصبح في المعارضة عام .1998 على الاثر طالب نائبه، رئيس الحزب في الولاية يورغم موللمان، من فيسترفيلله رفع شعار الـ18 في المئة من الاصوات واعلان ترشيحه لمنصب المستشار، لكن فيسترفيلله قبل حينها رفع شعار الـ18 في المئة كشعار دعائي تشجيعي للحزب ورفض الترشح لأنه اعتبر ان الامر سيكون اضحوكة لحزب صغير كاد يختفي عن الساحة السياسية قبل سنوات بعد خسارته المتوالية للانتخابات المحلية في 14 ولاية من اصل .16
ولكن عندما عاد حزبه في الاشهر الماضية الى برلماني ولايتي هامبورغ وبرلين بنسبة اصوات جيدة وفاز في الانتخابات المحلية الاخيرة في ولاية ساكسن - انهالت الشرقية بـ13.5 في المئة من الاصوات في صورة لم يتوقعها احد (وهي افضل نتيجة يسجلها في تاريخه) كان فيسترفيلله اول المسارعين الى اعلان ان النتيجة هذه اقنعته بما لم يقتنع به قبل عام من امكان جذب، ليس فقط 18 في المئة من اصوات الناخبين، بل وبوجود فرصة جيدة لديه لمواجهة المرشحيْن الآخريْن على منصب المستشار.
وباستثناء ان هذه هي المرة الاولى في تاريخ المانيا الحديث التي يتنافس فيها ثلاثة مرشحين على منصب المستشار فإن احدا هنا لم يأخذ ترشيح الليبرالي فيسترفيلله مأخذ الجد واجمع الكل على اعتباره "استعراضا اعلاميا ودعائيا"، خصوصا الاستفتاءات المنتظمة التي تجري كانت لا تعطي الحزب الليبرالي اكثر من 9 في المئة.
لكن في فترة الاسابيع القليلة الماضية، وبعد اتخاذ رئيس الحزب ونائبه موللمان موقفا انتقاديا صارما ضد اسرائيل ورئيس حكومتها ارييل شارون، الامرالذي اثار المجلس المركزي لليهود واحرج الحكومة والمعارضة واطلق اصواتا تتهم موللمان بتشجيع مشاعر اللاسامية في البلاد، اظهرت الاستفتاءات الاخيرة تزايدا في شعبية الحزب راوحت نسبته بين 12 و14 في المئة يقول المنتقدون انها جاءت من الفئات اليمينية المتطرفة.
وكان فيسترفيلله اعلن انه يريد جذب قسم غير قليل من ناخبي الحزب الشيوعي الاصلاحي واحزاب اليمين المتطرف الذين صوتوا سابقا لهما لا عن اقتناع وانما عن احتجاج على الوضع السياسي القائم. ويرى العديد من المراقبين انه اذا نجحت هذه الاستراتيجية فسيحقق الحزب نتيجة تاريخية لا سابق لها وسيكون قادرا هذه المرة، وعلى عكس الماضي، على تحديد ليس فقط الطرف الذي سيتحالف معه، بل واسس البرنامج الحكومي المقبل ايضا.
وبغض النظر عن ذلك يمكن القول ان الترشيح اضفى جوا جديدا على المعركة الانتخابية الجارية في البلاد بعدما اصبح فيسترفيلله يطالب بمعاملته على قدم المساواة مع شرودر وشتويبر وادخاله كطرف ثالث في المناظرتين التلفزيونيتين اللتين سيجريانها على الطريقة الاميركية. وفي الوقت الذي يشهد معسكر الحكومة الائتلافية التي تضم الاشتراكيين الديموقراطيين وحزب الخضر صعوبة متزايدة في اقناع الناخبين الذين اوصلوهم الى السلطة عام 1998 بالتجديد لهما اربع سنوات اخرى في الخريف المقبل تستفيد المعارضة المسيحية من جمود الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد لتطرح نفسها البديل الطبيعي للحكومة القائمة "التي وعدت الكثير ولم تحقق الا القليل" متناسية انها لم تحقق عندما كانت في الحكم، وعلى مدى العقد الماضي، شيئا يذكر من الاصلاحات المالية والاقتصاية والادارية والاجتماعية التي تطالب بها الآن.
ويرى مراقبون هنا ان حكومة المستشار شرودر حققت في الواقع العديد من الامور مثل قانون الجنسية الجديد، وخطة التقشف الهادفة حتى 2006 الى ازالة جبل الديون المتراكمة على الدولة، ورفع علاوات الاطفال، وتأمين اكثر من مليون وظيفة جديدة، والتخلي التدريجي عن الطاقة النووية، وضريبة البيئة وقانون الهجرة الاول من نوعه في البلاد، وغير ذلك من القوانين. الا ان الحزبين المتحالفين لم يتمكنا غالبا من كسب تفهم فئات الشعب، خصوصا فئات الوسط التي امنت نجاح شرودر وحزبه عام ،1998 للاصلاحات المرة المذاق والغير شعبية. انما الضرورية لاعادة ترتيب البنى الاقتصادية والمالية والصحية والاجتماعية في البلاد لمواجهة متطلبات العولمة المتزايدة والمنافسة القوية الناتجة عنها. وربما تسرع الحزبان في طريقة تنفيذ بعضها على حد ما يقوله عدد من المحللين.
مثال على ذلك خطة التقشف التي رغم ضرورتها القصوى انتجت بطالة في المؤسسات العامة ومنعت الدولة من الاستثمار في حقول عامة عديدة وكبلت يديها في ما يتعلق بالبرامج الانمائية. ولكنها في حال نجاحها ستزيل في 2006 اغلال الديون الكبيرة التي تكبل يدي المانيا للمرة الاولى منذ عقود عدة.
كذلك الامر بالنسبة الى ضريبة البيئة التي لم يفهمها الناس، خصوصا ان الخضر اخطأوا في اصرارهم منذ البداية على رفع ضريبة الوقود في صورة سريعة جدا ليصبح سعر ليتر البنزين اكثر من اثنين اورو (حوالى دولارين بعدما كان 80 سنتا) علما ان ناتج الضريبة هذه يستخدم لمنع زيادة نسبة المشاركة المالية للعمال والموظفين في صندوق التقاعد. يضاف الى ذلك عجز الحكومة عن تحقيق وعود اطلقتها قبل الانتخابات مثل خفض البطالة من 4.5 ملايين عاطل عن العمل الى النصف خلال اربع سنوات (لا تزال البطالة في حدود 4 ملايين شخص)، والوعود بتحقيق الازدهار الاقتصادي الذي لم يحصل بعد.
وتأمل الحكومة الالمانية الآن في ان يستعيد الاقتصاد عافيته ابتداء من النصف الثاني من العام الجاري وان ينعكس ذلك ايجابا عليها، خصوصا وزير العمل يتوقع ان تنخفض البطالة في الشهرين المقبلين للمرة الاولى هذه السنة الى ما تحت الملايين الاربعة. لكن العديد من المتتبعين للاوضاع يرون ان النمو الاقتصادي اذا حصل كما هو متوقع لن يفيد شرودر كثيرا لأن نتائجه المرتقبة لن تظهر بفاعلية الا بعد الانتخابات العامة.
وفي الوقت الذي لا يظهر فيه الحزب الاشتراكي الديموقراطي واضح الرؤية ومتلاحما وواثقا بنفسه كما كان قبل اربع سنوات يبدو الاتحاد المسيحي الذي يضم الحزب الديموقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي (البافاري) موحدا حول مرشحه البافاري شتويبر الذي يُعتبر اكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية من شرودر بسبب الازدهار الاقتصادي الذي تشهده بافاريا منذ سنوات عديدة حيث يبلغ معدل البطالة فيها نصف معدله الوسطي في البلاد.
وشكل شتويبر في الايام الماضية فريق عمل يشبه "حكومة ظل" ويشمل شخصيات لها وزنها واحترامها لدى الناس بينما يتمسك شرودر بحكومة تحتوي على وزراء اصبحوا عالة عليه، لكنه غير قادر على تنحيتهم الآن. ويبقى امام شرودر وحزبه امل يتمثل في شخصيته الكاريزمية التي لا تزال تسمح له بالتقدم على منافسه شتويبر في كل الاستفتاءات التي تجري وبفارق كبير حتى الآن.
ومع ذلك فإن قيادات عدة في حزبه تشكك في ما اذا كان من الممكن ربح الانتخابات فقط من طريق الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها المستشار، علما ان التصويت في المانيا يتم للأحزاب لا لقادتها السياسيين.
اما الامل الآخر فيتمثل في الحديث الجديد الذي طرأ على التحقيق الجاري مع تاجر الاسلحة البافاري كارل هاينتس شرايبر الذي اتهم شتويبر بقبض ملايين الماركات منه وادخالها في مالية الحزب دون الاعلان عنها رسميا. واذا تأكد هذا الاتهام، علما ان شرايبر لم يقدم اثباتات واضحة حتى الآن، يمكن ان ينعكس سلبا على حملة شتويبر الانتخابية ويعيد شبح الفضائح المالية الى الاتحاد المسيحي بعد فضيحة التبرعات المالية للمستشار السابق هلموت كول.
يقول البعض ان حزب شرودر يفتقد هذه المرة قائده السابق اوسكار لافونتين الذي كان يعتبر زعيم الجناح اليساري في الحزب والذي امن عملياً غطاء حزبيا قويا لشرودر لربح المعركة الانتخابية. ولكن لافونتين الذي غادر الحكومة والحزب في فورة غضب صاعقة قبل ثلاث سنوات متخليا عن كل مناصبه عاد اخيرا بكتاب ينتقد فيه بشدة اخفاقات حكومة رفيقه السابق شرودر. واليسار الذي كان يلتف حوله تفرق الى اكثر من جهة، وكان الحزب الشيوعي الاصلاحي المستفيد الاكبر.
ولكن قادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي يعتقدون انهم لا يزالون قادرين على استعادة المبادرة في الاسابيع الـ16 التي لا تزال تفصلهم عن الانتخابات واقناع الناخبين بانهم اذا ارادوا الاصلاحات الضرورية لوضع البلاد على سكة الازدهار الاقتصادي واذا ارادوا العدالة الاجتماعية فعليهم ان يصوتوا لهم مرة ثانية لاربع سنوات اخرى لا للمعارضة التي تقدم "وصفات" اثبتت فشلها عندما كانت في الحكم فترة 16 سنة. (النهار اللبنانية)