&
أجريت الانتخابات البرلمانية الجزائرية في الثلاثين من أيار (مايو) بدون اهتمام كبير، وسط تفاقم الأوضاع الفلسطينية التي تكاد تغطي علي كل ما سواها في المنطقة العربية. ولكن الانتخابات الجزائرية كانت حدثاً هاماً بلا شك، تنبع أهميته من حجم الجزائر ودورها المفترض، الدور الذي غاب نهائياً عن ساحة الأحداث العربية منذ مطلع التسعينات، وتنبع أهميته أيضاً من الدور الذي أخذت العملية الانتخابية والتعددية السياسية تلعبه في إبقاء الأوضاع العربية السياسية علي ما هي عليه. للوهلة الأولي، تنبئ نتائج الانتخابات الجزائرية بتغيير حقيقي وجوهري في الخارطة السياسية وبنية النظام الحاكم. فحزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي حصل في انتخابات 1997 علي 155 مقعداً بفضل عملية تزوير واسعة النطاق، تراجع إلي 48 مقعداً من مقاعد البرلمان البالغ عددها الإجمالي 389. ولكن المفاجأة كانت في النتائج التي حققها حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان يحتل 64 مقعداً في البرلمان السابق بينما استطاع الفوز بـ 199 مقعداً في الانتخابات الحالية. وفي حين توقع الكثيرون قبل إجراء الانتخابات تحسن حظوظ جبهة التحرير الوطني، فإن أحداً لم يتوقع أن الجبهة ستستطيع تحقيق أكثرية مطلقة في البرلمان تؤهلها، إن أرادت، الحكم بلا شركاء.
بيد أن الجبهة لم تكن الفائز الوحيد، فقد استطاعت حركة الإصلاح الوطني التي أسسها عبدالله جاب الله في 1999، بعد أن أزاحته مجموعة متحالفة مع نظام الحكم آنذاك عن قيادة حزب النهضة، استطاعت الفوز بـ 43 مقعداً، دافعة النهضة إلي الصحراء السياسية بمقعد واحد فقط، ومتفوقة علي حركة مجتمع السلم، القوة الإسلامية الرئيسية المصرح بها في البلاد والتي لم تحرز أكثر من 38 مقعداً. بذلك تكون حركة مجتمع السلم (حمس) التي يقودها السياسي الإسلامي البراغماتي وأحد أبرز المساندين للنظام العسكري الجزائري، محفوظ النحناح، قد خسرت 31 مقعداً من المقاعد التي احتلتها في البرلمان السابق. حزب العمال، ذو الجذور التروتسكية، الذي ترأسه السيدة لويزة حنون، قد صعد أيضاً صعوداً غير متوقع من أربعة مقاعد في البرلمان السابق إلي 21 مقعداً في البرلمان الجديد، بينما توزعت المقاعد البرلمانية المتبقية علي المستقلين وحفنة من الأحزاب الصغيرة. بشكل من الأشكال، تمثل هذه النتائج انقلاباً ديمقراطياً في الساحة السياسية الجزائرية، ولكن الحقيقة قد تكون شيئاً آخر تماماً.
وصلت نسبة المقترعين، طبقاً للبيانات الرسمية، إلي 46 في المئة ممن يتمتعون بحق الانتخاب، وهي نسبة تمثل تراجعاً كبيراً عن نسبة الـ 65 في المئة التي شهدتها انتخابات 1997. ولكن حتي هذه النسبة المتواضعة تعرضت للتشكيك من أوساط المعارضة التي أفاد أحد رجالها بأن العدد الحقيقي للناخبين لم يتجاوز العشرين بالمئة، وأن الرقم الرسمي أريد به إضفاء صبغة من الشرعية علي الحكم والعملية الانتخابية. الأرجح بالطبع أن الأرقام الرسمية هي أقرب للحقيقة، فلو أرادت السلطة تزييف نسبة المقترعين لرفعتها علي الأقل فوق حاجز الخمسين بالمئة النفسي. والأرجح أيضاً أن نسبة المقترعين في انتخابات 1997 هي التي زُيّفت، وأن عدد الجزائريين الذين لم يزل لديهم أمل في جدوي العملية الانتخابية لم يتغير منذ الانقلاب علي انتخابات 1991، وهو عدد يراوح بين 40 و45 في المئة من مجموع الناخبين. الرسالة الهامة لهذا الوضع أن أغلبية الشعب الجزائري ما زالت تشكك في شرعية النظام وتري أن من العبث التدافع السياسي علي أرضه وبشروطه.
واجهت الانتخابات من جهة أخري مقاطعة ساحقة في منطقة القبايل، وهي مقاطعة تؤشر علي أن أزمة النظام لا تقتصر علي مواجهة ظل جبهة الإنقاذ المخيم علي حياة البلاد السياسية، ولا علي مواجهة المجموعات الإسلامية المسلحة، بل أيضا علي التعامل مع الأزمة طويلة الأجل المتعلقة بمنطقة القبايل. بشكل ما، ربما كان النظام سعيداً بمقاطعة الأحزاب البربرية للانتخابات، فقد أتاح له غياب هذه الأحزاب هامشاً أوسع لضبط أنصبة الأحزاب المشاركة بدون أن تبدو النتائج متعسفة ومبالغاً فيها. ولكن جبهة القوي الاشتراكية بقيادة آية أحمد كانت خاسراً رئيسياً في هذه الانتخابات، ليس فقط لأن مقاطعتها الانتخابات ستحرمها من التمثيل البرلماني طوال السنوات القليلة الماضية، فالتمثيل البرلماني ليس شريكاً في صناعة المستقبل الجزائري علي أية حال، بل لأن الجبهة أكدت من جديد علي أنها مجرد حزب أقلوي وأن محاولاتها الجاهدة لتقديم نفسها باعتبارها حزباً قومياً يمثل كل الجزائريين قد ذهبت أدراج الرياح. في النهاية، خضع آية أحمد لابتزاز منافسيه في منطقة القبايل وقاطع الانتخابات معلناً بشكل ضمني أن قاعدته الانتخابية هي قاعدة قبايلية لا أكثر.
الخاسر الآخر، وربما الخاسر الأكبر، كان الزعيم الإسلامي محفوظ النحناح وحركته. كان تراجع حمس نسبياً أقل من تراجع التجمع الوطني الديمقراطي الذي مثل الكتلة الرئيسية في البرلمان السابق. ولكن الجميع يعرف أن التجمع كان أكذوبة مبالغاً فيها من أكاذيب النظام العسكري، وأنه ما كان سيحرز النتائج التي أحرزها في 1997 لولا عملية التزييف الهائلة التي أشرف عليها رئيس الوزراء ووزير داخليته، وباركتها قيادة الجيش. حمس هي شيء آخر تماماً، فجذورها تمتد عقوداً طويلة في نشاطات الحركة الإسلامية في الجزائر، وتتمتع ببنية تنظيمية حزبية واسعة ومتماسكة إن قورنت بأغلب الأحزاب السياسية الجزائرية الأخري، وتضم بين صفوفها كوادر إسلامية حزبية شديدة التمسك بانتمائها وأهدافها. ولكن المشكلة أن السيد محفوظ النحناح، الذي أرقه صعود جبهة الإنقاذ في نهاية الثمانينات، اختار الانحياز إلي جانب السلطة والانقلابيين العسكريين ضد الإرادة الشعبية. في حمي قلقه من صعود جبهة الإنقاذ، لم يميز النحناح بين الجبهة والشعب الجزائري.
علي مدي عقد التسعينات، ساهم النحناح وحزبه مساهمة كبيرة في توفير وهم الشرعية للنظام العسكري، مستفيداً من صبغته الإسلامية ومن ارتباطاته بالخارطة العربية الإسلامية الواسعة. وقد وصل تماهي النحناح مع المجموعة العسكرية إلي أن أصبح جزءاً من دائرتها الأمنية، تحميه كما تحمي ذاتها، ملوحة له بين الوقت والآخر بأمل الوصول إلي قصر الرئاسة. ولكن النظام لم يعد يحتاج النحناح حاجة الأخير للنظام. فقد نجحت رئاسة بوتفليقة نسبياً في إخراج مجموعات إسلامية رئيسية من الجبل ومن دائرة المعارضة المسلحة، وأخذت في ترميم العديد من جسور الجزائر العربية والأوروبية. وفي ظل شروط الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وجد الرئيس الجزائري أبواب واشنطن ذاتها قد فتحت أمامه. المقاعد التي حصل عليها النحناح تمثل حقيقة نفوذ حزبه، بل ربما كانت أكثر ما كان سيحصل عليه لو أن جبهة الإنقاذ لا زالت منافساً شرعيا في الساحة السياسية. لم يعد أنصار حمس يتعدون دائرة نفوذها السياسي المباشر، وما حصلت عليه من أصوات خارج نطاق هذه الدائرة خلال البرلمانات السابقة جاء لأنها بدت وكأنها الخيار الإسلامي الوحيد المتبقي بالنسبة للكثير من الجزائريين، أو بفعل التدخل الرسمي غير الشرعي. الجزائريون الذين شككوا دائماً في الدوافع الأخلاقية لسياسات النحناح، أعادوه إلي حجمه الحقيقي، في الوقت الذي رفض فيه النظام إلقاء طوق النجاة له. في الحسابات المباشرة لنظام بورقيبة، لا حاجة للنحناح سوي أن يظل متواجداً لاحتمالات توظيفه من جديد لإخافة الآخرين.
كان الفائزان البارزان بلا شك هما حركة الإصلاح الوطني برئاسة جاب الله وحزب جبهة التحرير الوطني برئاسة رئيس الوزراء الحالي علي بن فليس. أسست حركة الإصلاح الوطني حديثاً ولكن جاب الله، أحد الشخصيات الإسلامية المعتدلة والمثابرة، هو نشط إسلامي معروف داخل الجزائر وخارجها منذ بدأ عهد التعددية السياسية في نهاية الثمانينات. عزز من وضع جاب الله تصميمه وصموده في مواجهة التحديات، التحديات التي وصلت إلي إطاحته نهائياً من قيادة الحزب الذي أوجده. وقد أثار جاب الله إعجاب الكثيرين عندما بدأ من جديد في 1999، بعد عام واحد من خسارته قيادة حركة النهضة. كان جاب الله أحد منافسي بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية، ورغم الاضطراب والغموض الذي أحاط بحقيقة تلك الانتخابات فقد أحرز جاب الله نسبة معتبرة من الأصوات. ولكن الواضح أن حركة الإصلاح الوطني قد استفادت فائدة كبيرة هذه المرة من ارتباط مجموعة النهضة بالحكم السابق وانهيارها معه، كما استفادت من تراجع النحناح بعد أن رفع النظام جزءاً من غطائه له. وليس من المستبعد أن حركة الإصلاح قد استفادت أيضاً من دعم أو تسامح مجموعة بوتفليقة التي تريد إيجاد توازن بين طرفي المعسكر الإسلامي وتأمل في أن تستطيع زعامة جاب الله الكارزمية المساعدة في وضع نهاية لميراث جبهة الإنقاذ، وهو الدور الذي فشل فيه النحناح وحزبه فشلاً ذريعاً.
بخمسة وثلاثين بالمئة من أصوات المقترعين (أقل من 15 بالمئة ممن يحق لهم التصويت)، عادت جبهة التحرير الوطني لتصبح حزب الأغلبية في البرلمان الجزائري. وبالرغم من أن الجبهة ضاعفت من حجم الأصوات المؤيدة لها منذ انتخابات 1997، إلا أن هذا النجاح الانتخابي الساحق بهذه النسبة من الأصوات لابد أن تعتبر حدثاً بارزاً في تاريخ الديمقراطية البرلمانية في العالم منذ الثورة الفرنسية. هذا النجاح المبني علي أرقام هزيلة، والذي ربما لم يكن في حساب مهندسي النتائج الانتخابية، هو ما يجب أن يثير الشكوك والأسئلة حول نزاهة هذه الجولة من الانتخابات البرلمانية الجزائرية. مهما كان الأمر علي أية حال، فقد عادت الجزائر إلي أحضان جبهة التحرير، بعد أقل من اثني عشر عاماً فقط علي نهاية حكم الحزب الواحد. لم يكن لهذا التحول الانتخابي ما يسوغه في اعتبارات الرأي العام الجزائري، مسوغه الرئيسي هو متطلبات النظام في نسخته البوتفليقية.
ورث بوتفليقة البرلمان السابق من الرئيس زروال، ولا يخفي أن بوتفليقة لم يكن يتمتع بدعم واسع في برلمان يحتله نواب لا يدينون له. ولكن بوتفليقة من الذكاء بحيث لم يلجأ إلي الأسلوب الفج بتأسيس حزب جديد له ودفعه إلي إحراز الأغلبية البرلمانية، كما حدث في حالة التجمع الوطني الديمقراطي خلال انتخابات 1997. يدرك بوتفليقة أن جبهة التحرير هي قوة أصيلة، عميقة الجذور، وأن بالإمكان إعادتها للسيطرة علي مقاليد الأمور السياسية بدون مخاطرة كبيرة علي مستوي مصداقية النظام، أو علي مستوي مستقبله، طالما أن الجبهة نفسها في أيد أمينة. بشكل من الأشكال، تمثل عودة جبهة التحرير الوطني حلاً وسطاً لمشكلة عجز بوتفليقة عن تحرير السلطة بالكامل من يد المجموعة العسكرية، سعيه لإعادة البلاد إلي الوضع الطبيعي، والتهديد الذي يواجهه النظام. بهذا الحل، يحقق بوتفليقة تراجعاً جزئياً في سيطرة الجنرالات علي النظام والدولة مقابل إعادة البلاد إلي حقبة ما قبل 1988، ولكن باسم التعددية والديمقراطية هذه المرة. بهذا أصبحت التعددية السياسية والانتخابات البرلمانية وسيلة فريدة في الحفاظ علي دولة منهكة ومفككة ونظام يفتقد الشرعية، وتبقي الجزائر هي الخاسر الأكبر.(القدس العربي اللندنية)