&
يبدو ان المعركة الشرسة داخل ادارة جورج بوش حول سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتجه نحو الحسم. وتؤكد التقارير الواردة من واشنطن ان الرئيس بوش قد توصل الى فرض تسوية على الطرفين المتنازعين بعدما اعتمد على مبدأ (تقسيم الاختصاص) بينهما: سيعهد الى صقور وزارة الدفاع بقيادة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد, ومساعده الأكثر تطرفاً بول ولفوفيتز, بقيادة (الحرب العالمية ضد الارهاب), في حين سيكلف وزير الخارجية كولن باول بادارة الصراع العربي - الاسرائيلي.
لا يمكن تصنيف باول بين (الحمائم), اذ كان القائد العام لرؤساء أركان الجيوش المشتركة, وهو من مخضرمي الادارة الاميركية والملمين بخفايا تركيبها الداخلي, وله باع طويل في خوض المعارك البيروقراطية, ولكنه ينفرد, هو ومساعدوه المفتاحيون في وزارة الخارجية الاميركية, بالاتزان والانسانية, مقارنة (بالزملاء) في وزارة الدفاع. وكما يقول مسؤول كبير لا يخفي اعجابه بشخصية باول: (هذا الانسان يجسد القيم الاميركية التقليدية الجوهرية في العدالة والنزاهة...).
لقد فرض الرئيس بوش (تسويته) الخاصة بدعم الطرفين المتنازعين على طريقته: أظهر تحمسه لمتابعة (حربه ضد الارهاب), ولكنه أظهر ايضاً عزمه على التحرك الجاد لايجاد تسوية للصراع العربي - الاسرائيلي على أساس قيام دولتين تتعايشان في سلام وأمن جنباً الى جنب, وان بدا أكثر حذراً وتحفظاً حول هذه النقطة. لقد استجاب لنصيحة كولن باول, وكان أول رئيس اميركي يعترف علناً وتكراراً بضرور قيام دولة فلسطين, الى جانب اسرائيل.
&
مؤتمر دولي في تموز (يوليو) المقبل؟
تؤكد المصادر الاميركية في واشنطن ان مستشاري الرئيس بوش السياسيين وكتاب خطبه السياسية يعملون الآن على وضع اللمسات الأخيرة لخطاب عن الشرق الأوسط يعتزم الرئيس بوش القاءه في المستقبل القريب - وان كان بعض الاخبار يتحدث عن استمرار الاختصام حول مضمون الخطاب - وسيكون هذا (الحدث) في غاية الاهمية, لأنه سيرسم معالم الطريق وسيحدد السياسة الاميركية في الشرق الأوسط بالتفصيل, لتشمل كل شاردة وواردة, وسيعكس, في الوقت ذاته ميزان القوى داخل الادارة الاميركية.
ومن المنتظر ان يلقي الرئيس بوش خطابه المهم هذا, قبل انعقاد المؤتمر حول الشرق الأوسط في مطلع الصيف المقبل, وعلى الأرجح في شهر تموز. لم يتفق بعد على موعد انعقاد المؤتمر, ولا يزال مكان انعقاده عرضة للأخذ والرد, اذ كان من المقرر ان ينعقد في انقرة, ولكن الفراغ الذي أحدثه مرض رئيس وزراء تركيا بولنت أجاويد, قد يرجح نقله الى مكان آخر. وعلم ان رئيس وزراء ايطاليا سيلفيو بيرلوسكوني عرض ان يستضيف المؤتمر في ايطاليا, وقد يكون هذا العرض مناسباً.
أما مسألة من سيدعى الى المؤتمر, فلا تزال غامضة: بعض المصادر في واشنطن يشير الى ان المؤتمر سيعالج حصراً (الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي), وفي هذه الحال لن تدعى سورية ولا لبنان, وسيكون هذا الموقف تنازلاً لمصلحة اسرائيل التي تصر على انه لا يمكن معالجة مسارين معاً وفي وقت واحد, بشكل فعال وجدي, وحينئذ سيصار الى ارجاء بحث موضوع الصراع السوري - الاسرائيلي, ومواضيع اخرى متعلقة بالمسار اللبناني الى مؤتمر ثان ينعقد في موعد لاحق.
لقد أكد كولن باول في مقابلة اجرتها معه زميلتي في صحيفة (الحياة) راغدة درغام (12 حزيران/ يونيو) ان المؤتمر الذي سيترأسه هذا الصيف لن يكون المؤتمر الوحيد من نوعه, اذ ستعقد مؤتمرات عدة مماثلة تهدف كلها الى الخروج من المأزق والتقدم الى الأمام.
كما أعلن باول في المقابلة ذاتها ان الرئيس بوش لن يتراجع خطوة واحدة عن (رؤيته) التي كشف عنها في خطابه الذي ألقاه في 4 نيسان (ابريل), في الحديقة الوردية في البيت الأبيض, والتي تحدث فيها عن نهاية الاحتلال الاسرائيلي, ونهاية النشاط الاستيطاني, واقامة دولة جديدة هي دولة فلسطين.
وتحدث آري فيشر عن الموضوع ذاته, اذ اعلن هذا الناطق الرسمي للبيت الأبيض, هذا الاسبوع, ان خطاب الرابع من نيسان الماضي يبقى (حجر اساس) في سياسة بوش الشرق أوسطية. ولوحظ ان الرئيس بوش عاد الى الموضوع ذاته في أحاديثه ولقاءاته سواء مع الرئيس المصري حسني مبارك أو مع رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون .
وكان واضحاً ان شارون, المعروف بمعارضته الشديدة والمزمنة للحكم الذاتي الفلسطيني لم يكن سعيداً ولا راضياً, وأظهر انزعاجه أكثر من مرة, حين كرر الرئيس بوش ذكر الدولة الفلسطينية. وقد زعم - حسب مصادر اسرائيلية - ان شارون قال بصراحة لبوش ان دعم الولايات المتحدة لقيام الدولة الفلسطينية سيشيع عدم الاستقرار السياسي في اسرائيل, وانه قد يتسبب في سقوط حكومته, مما قد يستدعي اجراء انتخابات مبكرة وتجميد الأوضاع السياسية لمدة ستة اشهر على الأقل. ولعل شارون لم يدرك, على الأرجح, ان ابعاده عن المسرح قد يكون جزءاً من خطة بوش للتسوية النهائية في الشرق الأوسط.
&
النقاش حول العمليات الانتحارية
يعتقد الكثير من المراقبين السياسيين ان بوش كان (ودياً) مع شارون أكثر من اللازم. اذ تجنب ان ينتقد علناً التغلغل الاسرائيلي المتكرر داخل الاراضي الفلسطينية, ودافع عن حق اسرائيل في (الدفاع عن نفسها), رافضاً ان يحدد جدولاً زمنياً لقيام الدولة الفلسطينية, بل ان بعض المراقبين السياسيين زعم ان الرئيس بوش قد استسلم لشارون استسلاماً كاملاً. ولكن يبدو ان هذا الزعم غير دقيق, ولا يعكس واقع العلاقات الحقيقية بين اسرائيل والولايات المتحدة. ومن الملفت للنظر ان الرئيس بوش رفض طلب شارون بأن تتوقف الولايات المتحدة عن التعامل مع ياسر عرفات , كما رفض فكرة ضرورة عودة الأمن الى المنطقة قبل البدء بالمفاوضات السياسية.
لقد فسر كولن باول, في مقابلته مع (الحياة) ان وجهة النظر الاميركية لا تزال ترى ياسر عرفات زعيماً للشعب الفلسطيني. وان الإدارة الاميركية ستستمر في التعامل معه الى ان يقرر الشعب الفلسطيني التخلي عنه. واكد باول ايضاً ان المؤتمر حول الشرق الأوسط الذي سينعقد هذا الصيف سيعالج ثلاثة مواضيع بشكل متواز: موضوع الأمن, وموضوع احتياجات الشعب الفلسطيني الانسانية, وموضوع مستقبلهم السياسي.
تحتل القضية الأمنية الصدارة حالياً, كما تقر بذلك الولايات المتحدة من جهة, واللاعبان العربيان الرئيسيان مصر والسعودية من جهة اخرى, ومن هنا هذا الالحاح المتزايد على ضرورة اصلاح اجهزة الأمن والاستخبارات الفلسطينية وعقلنتها والإصرار على جعلها قادرة على ايقاف العمليات الانتحارية نهائياً, لأنها - كما يزعم - هي التي وحدت كل القوى السياسية الاسرائيلية وأرغمت كل الاحزاب على تأييد سياسة شارون القائمة على القمع العسكري والعصا الغليظة.
ويلعب اللواء عمر سليمان, رئيس جهاز الاستخبارات المصري دوراً رئيسياً في اعادة هيكلة الاجهزة الأمنية الفلسطينية, وهو يتمتع - كما يُزعم - بثقة الفلسطينيين والاسرائيليين, والمعتقد انه يحاول بكل جدية اختزال اجهزة ياسر عرفات الأمنية التي يبلغ عددها 12 جهازاً متنافسة ومتصارعة, وحصرها في أربعة اجهزة: جهاز الامن الداخلي (له فرعان, أحدهما في الضفة الغربية والآخر في غزة), وجهاز الأمن الخارجي, وقيادة الشرطة, والحرس الرئاسي.
وحجة الولايات المتحدة في اصرارها على اصلاح اجهزة الأمن هي ان العمليات الانتحارية الاستشهادية هي لمصلحة شارون في نهاية المطاف, اذ تساعد على اسكات معسكر السلام الاسرائيلي. وواقع الأمر ان كل عملية استشهادية تعطي شارون حجة جديدة للمضي قدماً في تصعيد ضرباته للفلسطينيين, واغتيال اتفاقات اوسلو لعام 1993, وتدمير السلطة الوطنية الفلسطينية ومحاصرة ياسر عرفات وعزله, وسجنه في ما تبقى له من مقر قيادته في رام الله.
هنا يكمن جوهر الموضوع. اذ لا يزال هناك فلسطينيون, من امثال عبدالعزيز الرنتيسي, زعيم حركة (حماس) في غزة, ممن يعتقدون ان العمليات الاستشهادية هي السلاح الوحيد الذي يملكه الفلسطينيون لتحرير أرضهم, وحجته ان العمليات الاستشهادية تنقل الحرب الى بيوت الاسرائيليين العاديين, وتشعرهم بفداحة سياسة حكومتهم, وقد ظهر جلياً ان اسرائيل بدأت تتضرر فعلياً: تقوّض السياحة, هروب الرساميل, هبوط قيمة الشيكل, سحب الاستثمارات الاجنبية, وفوق كل شيء آخر, سيطرة الرعب على المجتمع الاسرائيلي, وبروز (الخوف من الموت)!
على ان هناك فلسطينيين آخرين - وعددهم في تزايد مستمر - تولدت لديهم القناعة بأن العمليات الاستشهادية, مهما امتدح منفذوها, واحيطوا بالاعجاب والتبجيل, هي عديمة الفائدة, ولا تحقق النتائج المرجوة, انها, في الواقع, تجسد غباء استراتيجياً فادحاً, اذ انها تساند شارون وتضعف امكان ظهور بديل اسرائيلي آخر, وتضعف ايضاً قدرة الولايات المتحدة على الضغط على اسرائيل والمضي في مشاريعها السلمية. وكما قال مسؤول اميركي رفيع المستوى: (لا يمكن ان نلزم اسرائيل سياسياً إذا لم تتوقف العمليات الاستشهادية. هذا هو جوهر الموضوع...).
ولقد قال كولن باول في مقابلة مع (الحياة): (لو لم تكن هناك عمليات انتحارية, لو لم تكن هناك سيارات مفخخة, لو ان الارهاب توقف فوراً, لكان من الممكن تحقيق الكثير بسرعة, بسرعة...).
واشنطن عاصمة صعبة, وأصدقاء اسرائيل متغلغلون في الكونغرس, وفي مختلف اجهزة الادارة الاميركية, ولا يملك باول عصا سحرية يستخدمها لإقامة الدولة الفلسطينية المنتظرة, ولكنه يبقى هو الأمل بالنسبة للفلسطينيين وللعرب, انه السياسي الاميركي الوحيد الذي يملك الشجاعة ليقول أن الولايات المتحدة ملتزمة أمن اسرائيل وسلامتها ضمن حدودها, ولكنها ملتزمة ايضاً مساعدة الشعب الفلسطيني لاقامة دولته. لقد قال لـ(الحياة): (اننا معنيون بازدهار العائلة الفلسطينية بمقدار عنايتنا بالعائلة الاسرائيلية, ولا يوجد عندنا طفل أثمن من طفل آخر).
&
كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط. (الحياة اللندنية)