&
خلال الأيام القليلة التي سبقت الانتخابات الفرعية في المتن الشمالي، بدا النائب نسيب لحود كأنه المستهدف شبه الوحيد من الجبهة الأخرى، جبهة النائب ميشال المر وابنه الياس وزير الداخلية وسائر المتعاطفين مع ابنته المرشحة ميرنا. وزير الداخلية، مثلاً، تحاشى في معظم اطلالاته التلفزيونية غداة الحملة الانتخابية انتقاد الرئيس السابق امين الجميل وابنه النائب بيار، فيما هاجم بشدة النائب نسيب لحود ساعياً الى الفصل بينه وبين حلفائه ومحاولاً (دغدغة) الرئيس الجميل المعروف كثيراً بمناوراته السياسية. وتخوّف الكثيرون من انصار المعارضة من ان تتحول (الدغدغة) الى (مغازلة) توقع الرئيس الجميل في شباكها، خصوصاً ان قرار فصل امين الجميل من حزب الكتائب الذي يترأسه حالياً كريم بقرادوني كان قد جُـمّد قبل اسبوعين من المعركة المتنية.
بدا استهداف (السلطة) الممثلة في وزير الداخلية وأبيه وجماعتهما للنائب نسيب لحود وحيداً أو شبه وحيد، خير دليل على حجم الدور السياسي والانتخابي الذي راح لحود يؤديه، قالباً المعادلة المتنية ومفاجئاً أخصامه بـ(لعبة) سياسية ذكيّة لم يحسبوا حسابها سابقاً.
إنها المرة الأولى التي تنقسم فيها عائلة المر علانية ومن الداخل. بل إنها المرة الأولى التي يتحول فيها الانقسام الى معركة انتخابية حاسمة: ميشال المر وعائلته من جهة وشقيقه غبريال المر والمعارضة من جهة. وإن بدا غبريال اشبه بالمرشح - الرمز الذي يمثل المعارضة فهو ظل، في نظر شقيقه وابن شقيقه اللذين يمثلان السلطة، ابن بيت الياس المر، الأب والجد.
كان اختيار غبريال المر مرشحاً معارضاً بمثابة الضربة الأولى التي وجهها نسيب لحود ورفاقه الى ميشال المر وابنه. اما الضربة الثانية والأقوى فتمثلت في فوز غبريال كمرشح للمعارضة على ميرنا المر ابنة الوزير السابق والنائب الحالي وشقيقة وزير الداخلية. هذه الضربة القوية جعلت ميشال المر وابنه وابنته وجماعتهم في حال من (الاضطراب)، بحسب تعبير النائب وليد جنبلاط. فهم لم يستطيعوا ان يستوعبوا هذه (النكسة) التي لحقت بهم ولا (الانتصار) الذي حققه غرماؤهم وتحديداً نسيب لحود. وربما لن يستطيعوا استيعاب هذه الهزيمة إلا بعد اسابيع او أشهر. فالهزيمة ليست واحدة في نظر ميشال المر وابنه وجماعته، بل هي هزيمة مزدوجة إن لم تكن اكثر. إنها أولاً هزيمة حرب وليست هزيمة معركة. فالضربة ستنعكس لاحقاً سلباً على آل المر في الانتخابات المقبلة. وليس الانتصار انتصار الشقيق والعمّ غبريال بقدر ما هو انتصار لتيار نسيب لحود أولاً ثم للمعارضة ثانياً. غريم ميشال المر في المتن هو نسيب لحود أولاً. المعارضون الآخرون يحلّون في المرتبة الثانية. وبعضهم عرضة للوقوع في فخ التجاذبات إن وجدت. اما نسيب لحود قائد (المعركة) فهو المحارب الشرس الذي لا يهادن ولا يتراجع حتى وإن كان ترشح في انتخابات ما بعد الطائف التي قاطعها المسيحيون والمعارضون حينذاك عام 1992.
ولحود استطاع ان يصبح زعيماً متنياً بامتياز لا لدحره فقط مرشحة السلطة، بل لهدمه مفهوم (المتن - المزرعة) الذي عممته السلطة ممثلة بالنائب المر. ولم يكتف بهدم هذه المقولة بل عمد الى استبدالها بمقولة (المتن - الوطن). فهزيمة ميشال المر تعني هزيمة الزعامة المتسلطة على المواطنين، هزيمة سياسة الترغيب والترهيب، هزيمة الغطرسة العمياء التي تجعل صاحبها يخطئ مرة ومرتين وثلاثاً. إنها هزيمة سياسة (المحدلة) و(الزفت) والمصالح الشخصية والمنافع الخاصّة، هزيمة استغباء المواطنين وتهديدهم وتهديد لقمتهم وكرامتهم، هزيمة استخدام (المجنّسين) ومواطنيتهم وربط (لبننتهم) بأصواتهم الانتخابية.
استطاع نسيب لحود ان يقلب (مزرعة) ميشال المر رأساً على عقب، داعياً الى بناء (المتن - الوطن) على أنقاضها ومحرراً المواطنين المتنيين من الخوف والتردد ومن سياسة الاستغلال والقمع المبيّت والترهيب المضمر. كان ميشال المر وجماعته على ثقة تامة انهم سينتصرون. فالمفاتيح الانتخابية اعلنت ولاءها قبل اعوام والبلديات المتنية و(المختريات) كلها طوع ميشال المر، حزب الطاشناق حضّر لوائح المنتخبين الأرمن، المجنسون ينتظرون باصات المرشحة ميرنا المر ليُساقوا كما في الدورتين السابقتين كالنعاج الى صناديق الاقتراع، والسلطة جاهزة تمام الجهوز لدعم مرشحتها... كان ميشال المر مطمئناً كل الاطمئنان في معركته الفرعية، واطمئنانه بدا واضحاً على محيّاه وعبر ابتسامته العريضة التي غابت بعد نتائج الانتخابات وحل محلها تجهّم واكفهرار ذكّرا بإطلالتي المر السابقتين: الأولى عندما فاز نسيب لحود وحيداً في لائحة المعارضة عام 1996 والثانية عندما فاز نسيب وبيار الجميل عن المعارضة عام 2000.
وتجلّت غطرسة ميشال المر اكثر ما تجلّت في هذه الدورة عندما رفض جهاراً الدخول الى ما وراء الستارة العازلة وتصويته لابنته علناً امام مناصريه وأمام الكاميرات. وكان ابنه وزير الداخلية اصدر قبل يوم مذكرة تسمح للمواطنين عدم استخدام العازل. وبدا الهدف من تخطّي العازل ترهيب المقترعين الذين تسيطر عليهم جماعة ميشال المر عبر رؤساء البلديات والمخاتير وسواهم، لئلاً يبدّلوا ورقة ميرنا. وإن كان هذا الأسلوب اكســـب مرشـــحة الـــسلطة أصــواتاً كثيرة فهو أكسب المعارضة زخماً اضافياً أيضاً وحفّز الكثيرين على الإقبال على التصويت ضدها. ولم يكد يعلن فوز غبريال حتى انقلبت غطرسة ميشال الى غضب وكراهية وحقد وشعور بالانتقام. وهذه الانفعالات لاحظها اللبنانيون على وجهه وفي تصرفاته امام الكاميرات.
انتهت معركة المتن (أو حرب المتن بالأحرى) وفُضحت بالتالي (مهزلة) السلطة التي حاول ميشال المر، وابنه ان يلعباها لإنقاذ (ماء الوجه)، ونمّت عن هزيمة مزدوجة لميشال المر وجماعته وللسلطة متمثلة في وزير الداخلية، وهو لم يستطع إلا ان يكون طرفاً وطرفاً اساسياً في الحملة أولاً وفي (التمثيلية) التي جرت في قصر العدل (لجان القيد) ووزارة الداخلية.
كان يوم فوز المعارضة او يوم هزيمة ميشال المر يوماً حاسماً بل يوماً فاصلاً بين مرحلتين: ما قبله وما بعده. فبدءاً من الآن سيكتشف ميشال المر شيئاً فشيئاً اخطاءه التي حالت عنجهيته دون اكتشافها في الدورتين السابقتين اللتين جعلتا انتصاره نصف انتصار. سيتأمّل كثيراً في الأسباب التي دفعت الكثيرين من (أزلامه) وأزلام أزلامه من رؤساء بلديات ومخاتير وسواهم الى خيانته وإلى التصويت سراً لمصلحة غريمه وشقيقه. سيتأمل في مشهد المعركة التي خسرها والتي ستنعكس سلباً على زعامته المتنية وعلى معاركه ومعارك ابنه المقبلة، وهو سيعلم جيداً ان المقترعين الذين رجّحوا فوز المعارضة مارسوا مواطنيتهم الحقيقية وصوّتوا بالسر تصويتاً سياسياً مستعيدين حرّيتهم وكرامتهم وقائلين: لا للمزرعة ولا للتزلم ولا للترهيب ولا للزفت والمصالح الأنانية. فهؤلاء المواطنون صوّتوا ضد 7 آب، ضد ذلك اليوم الذي قمعت فيه السلطة المواطنين العزّل وانهالت قبضات رجالها وأقدامهم ضرباً ورفساً على الشبان والشابات الذين يطالبون بالحرية والخبز...
اما نسيب لحود قائد المعركة المتنية و(المايسترو) الذكي والهادئ والسياسي المعارض، فسيحوّل انتصاره وانتصار حلفائه الى قضية وطنية متخطياً تخوم المتن الذي استحق زعامته الحقيقية ومنفتحاً على سائر التيارات اللبنانية انطلاقاً من موقعه المعارض، سواء في التجمع الذي اسسه ام في تجمع قرنة شهوان. والمعركة التي خاضها مع انصاره يجب ان تستحيل نموذجاً للمعارك الأخرى التي تخوضها (وستخوضها) (المعارضات) الأخرى. وإن كان ميشال المر وابنه استهدفا نسيب لحود قبل الانتخابات فهما لم يلبثا بعد هزيمتهما، ان استهدفا جبهة المعارضة ككل بل الأحزاب كلها - كما عبر ميشال المر - من شمال لبنان الى جنوبه، اضافة الى التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية المحلولة. ولم يسمّ ميشال المر كل هذه التيارات إلا ليخفف من وطأة الضربة التي يعلم كل العلم ان الذي وجهها إليه هو النائب نسيب لحود. فالوزير السابق والوزير الحالي يعلمان كل العلم ايضاً ان العماد ميشال عون وحزب القوات لا يملكان اصواتاً كثيرة في المتن الشمالي، وكذلك اقطاب (قرنة شهوان). على ان نسيب لحود لم ينكر ان التيار الوطني وحزب القوات استطاعا ان يمهّدا السبيل امام الاقتراع الوطني الحقيقي وأمام المواطنين اللبنانيين الذين عبّروا عن وطنيتهم بأصواتهم. ونسيب لحود الذي يسطع نجمه الآن في المتن سيسطع نجمه ايضاً لبنانياً. فخطابه العلماني واللاطائفي والمعارض يعني اللبنانيين جميعاً، ودعوته الى الإصلاح السياسي والاقتصادي تمثل خيار المجتمع اللبناني ككلّ.& (عن "الحياة" اللندنية)
التعليقات