&
في الأسبوع الماضي بثت إحدي محطات التلفزة العربية برنامجا من الخرطوم عرضت فيه صورة مغرقة في التفاؤل لمجري محادثات السلام الجارية حاليا في نيروبي بين الحكومة السودانية وحركة التمرد الجنوبية. ولسبب ما اتصل بي مقدم ذلك البرنامج وطلب مني ان أشاركه تفاؤله، ولكنني خيبت ظنه لأنني أثبت جهلاً كاملا بالمستجدات التي بدا انها كانت مبعث تفاؤله. فلم يكن لدي علم بما زعمه من ان الطرفين توصلا الي صيغة تحسم الخلاف حول مسألة الدين والدولة، اما القول بأن المتمردين وافقوا علي وحدة السودان فلا جديد فيه، لان العقيد جون قرنق كان دائما يفضل السودان موحدا بشرط ان يكون تحت قيادته، وفي نهاية الحوار قرر محاوري ان يقحمني بحجة دامغة، حيث نبهني الي ان الولايات المتحدة ألقت بثقلها خلف عملية السلام وأيدت وحدة السودان، ولم يسعني الا ان أوافق صاحبنا علي ان الولايات المتحدة تسعي لسودان مسالم موحد، ولكنها مثل قرنق تفضله تحت حكومة اخري. وهي تسعي لتفكيك الحكومة الحالية بدفعها الي اجراء انتخابات ستخسرها حتما.
الأوساط الرسمية في الخرطوم تجتهد هذه الايام في تسويق النظرة المتفائلة لمستقبل الحكم والبلاد، وهو تفاؤل يقوم علي ركنين: التبشير بقرب عقد اتفاقية سلام مع المتمردين، وبتقارب ومودة مع الادارة الامريكية، وهذه مفارقة ذات دلالة عميقة، كون ثورة الانقاذ جاءت للحكم بازاحة حكومة عقدت صفقة صلح مبدئي مع التمرد وكانت علي علاقة حميمة مع الولايات المتحدة. وقد نددت حكومة الانقاذ بكلتا الصفتين، وتوعدت المتمردين بالاستئصال، وامريكا بالهزيمة ودنو العذاب، ولكن القبول عند حركة التمرد والحظوة عند امريكا اصبحتا اليوم غاية الأمل عند الحكومة السودانية، وعنوان النجاح ومناط الاحتفال.
في خطابه الذي ألقاه بمناسبة احتفال عهد الانقاذ بانقضاء عامه الثالث عشر سعي الفريق عمر حسن أحمد البشير رئيس الجمهورية الي الترويج للتفاؤل بقرب حلول السلام، وبشر بقرارات وشيكة توسع هامش الحريات وتعزز الوفاق الوطني وتكرس الاصلاح الدستوري والوحدة الوطنية وتطلق مشاريع تنموية جديدة. وافتخر الرئيس ايضا بفشل محاولة عزل السودان دوليا وحصاره دبلوماسيا واقتصاديا، ونوه بعودة السودان الي مكانه الطبيعي في المحافل الدولية والاقليمية.
هناك بالقطع اشارات كثيرة الي ان الحكم في السودان لديه هذه المرة ما يحق له الاحتفال به اكثر من اي وقت مضي منذ انقلاب حزيران (يونيو) عام 1989. فقبل أيام قليلة اختتم في الخرطوم الاجتماع الدوري لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الاسلامي في دورة ناجحة نسبياً. ويعتبر مجرد عقد مثل هذا المؤتمر نصراً للخرطوم، خاصة وان عقده تأخر اكثر من خمس سنوات بسبب معارضة دول متنفذة في المنظمة حالت دون ذلك في الماضي. ولم تكن منظمة المؤتمر الاسلامي وحدها التي كانت تتجنب السودان تجنب البعير الأجرب، اذ ان السودان اضطر في عام 1997 للتخلي طوعا عن حقه في استضافة قمة دول الايقاد لتجنب انهيار المنظمة. ولكن السودان استضاف قمة الايقاد لعامين علي التوالي منذ مطلع عام 2001.
وفي بادرة تشير الي تحول المناخ في واشنطون لصالح السودان نشرت الواشنطن بوست الاسبوع الماضي مقالة تضمنت اتهامات من السفير الامريكي السابق في الخرطوم تيموثي كارني لوكالة المخابرات الامريكية بأنها كانت وراء حملة خاسرة ضد الخرطوم لعلها كانت السبب الرئيسي في فشل الوكالة في الكشف عن مخطط الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). وبحسب كارني فان الوكالة اعتمدت علي معلومات مضللة من احد عملائها في اصدار تحذير ادي الي اخلاء السفارة في الخرطوم وتسميم العلاقات مع الحكومة السودانية. وبالطبع لم يكشف كارني عن هوية العميل المزعوم (ولعله مسؤول كبير في الحكومة ما يزال في موقعه) ولكنه كان علي ما يبدو ايضا وراء المعلومات الخاطئة التي ادت الي قصف مصنع الشفاء للادوية في عام 1998، واضطرت الوكالة فيما بعد الي سحب اكثر من مئة تقرير جاء بها ذلك العميل الهمام واتضح انها كلها كانت مضللة.
كارني برأ حكومة الخرطوم من الاتهامات ضدها، وذكر انها كانت جادة في التعاون المخابراتي مع امريكا، وهو تعاون كان كفيلا بأن يساعد في تجنب الهجمات الارهابية التي جاءت بعد ذلك. وبالطبع فانه من الصعب فهم غباء مسؤولي وكالة المخابرات الامريكية الذين يصرفون الأموال علي عملاء غير موثوقين في حين ان الحكومة نفسها كانت علي استعداد للتطوع مجانا بكل المعلومات التي كانت الادارة تريدها وزيادة، وفي الأشهر الماضية ظل كبار المسؤولين الامنيين السودانيين، وعلي رأسهم رئيس جهاز الأمن السابق، يشكون لطوب الارض ولكل صحافي يقبل بالاستماع لهم من جفاء امريكا وصدها لتوسلاتهم لمدها بالمعلومات المخابراتية المفيدة!
وقد يثير هذا الوضع تساؤلا مهما حول السبب الذي من اجله كان المسؤولون السودانيون يجاهرون فيه بالعداء لامريكا، ويرمونها وحلفاء في المنطقة بكل كبيرة، مع هذا التلهف الذي ظهر لارضائها بكل وسيلة. ولكن هذا موضوع آخر، اما المهم فان هذه الامنية الغالية قد تحققت، وها هي امريكا تتنازل وتتواضع وتقبل من الحكومة خدماتها الأمنية وفروض الولاء والطاعة الاخري بعد طول تمنع، وهو سبب كاف لسعادة من كانت هذه امنيتهم، ومبرر للاحتفال والتفاؤل.
لدي الحكومة كذلك اسباب اضافية للتفاؤل والاحتفال. فخلال العامين الماضيين تدفق النفط من حقوله في الجنوب، وأعطي هذا دفعة قوية لاقتصاد البلاد الذي انهكته الحرب والأزمات المزمنة. وفي نفس الوقت حققت البلاد تقدماً في مجالات اخري، مثل الصناعات العسكرية، حيث شهد العرض العسكري الذي اقيم الأحد لأول مرة ظهور مركبات مدرعة من صنع محلي. وفي نفس يوم الاحتفال اعلنت القوات المسلحة عن استرداد مدينة قوقريال في اقليم بحر الغزال، وهي مدينة كانت قوات التمرد انتزعتها من الحكومة قبل عامين.
الحكومة اذن يحق لها ان تفتخر بانجازات داخلية وخارجية، ابرزها انحسار العداء لها دولياً، وانعدام المعارضة الفاعلة لها داخليا. فهل يعني هذا ان الحكومة ومعها البلاد، وصلت الي بر الأمان، وان السودان سيشهد مستقبلا يسوده الاستقرار؟
الدلائل فيما يبدو لا تبشر بذلك. في خطابه دعا البشير المتمردين الي القاء السلاح والانضمام الي مسيرة الوفاق والحوار السلمي، واشاد في هذا السياق بتلك الاحزاب التي نبذت العنف ورجحت الخيار السلمي، ولكن مصير هذه الاحزاب التي اشاد بها الرئيس لا يبدو مشجعاً. ففصائل التمرد التي عقدت مع الحكومة اتفاق سلام في عام 1997، والاحزاب الشمالية التي جنحت للسلم معها، وعلي رأسها الحزب الاتحادي الديمقراطي (جناح الهندي) وحزب الامة بزعامة الصادق المهدي لم تحقق اي مكاسب سياسية من هذا التوجه، بل بالعكس عانت الخيبة وواجهت التفكك الداخلي لأن الحكومة فشلت في اعطائها الحد الادني من المشاركة السياسية، بل ان الحزب الحاكم نفسه تفتت وتعرض للانشقاق تحديدا لعدم وجود آليات فاعلة للمشاركة في السلطة.
احزاب المعارضة التي رفضت دعوة الرئيس للمشاركة والحوار محقة في تشككها في جدوي عروض الحكومة للمشاركة فالحكومة لا تتحاور جديا الآن الا مع متمردي الجيش الشعبي الذين يحملون السلاح، وذلك بسبب الضغط العسكري والضغوط الاجنبية، اما الذين سالموا الحكومة من المعارضة او حتي من انصارها فان مصيرهم كان الاهمال والتجاهل.
وهذا بالطبع لا يجعل الحكومة السودانية بدعا من الحكومات العربية او الافريقية التي تحكم بمزيج من القهر والتسلط والاغراء والتلاعب والمناورة وشيء من الدعم الاجنبي. ومثل تلك الحكومات فان عمر هذه الحكومة قد يطول او يقصر بحسب الظروف المحيطة والحظ ومهارات اللاعبين. ولكن حظها قد يكون أسوأ من غيرها نوعا بسبب شح موارد السودان، وقوة المعارضة، ووجود قوي اجنبية متنفذة علي رأسها الولايات المتحدة لن تسمح لها بالانفراد بالأمر الداخلي في البلاد. ولكن حتي بافتراض انها عمرت طويلا شأن سوهارتو في اندونيسيا او موبوتو في زائير فان التاريخ يثبت ان تراث مثل هذه الحكومات يندثر تماما بعد زوالها ولا يبقي منه اثر الا الآثار السلبية، كالتفتت الذي تشهده الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا) اليوم، وتخشي عواقبه اندونيسيا، ويعتبر عمر مثل هذه الحكومات من قبيل الوقت الضائع في عمر الشعوب، يخلو من كل تقدم الي الامام، ويحفل بكل تراجع الي الخلف.
حكومة الانقاذ وفرت علي خصومها كثيرا من الجهد حين انتهجت بنفسها نهج الرئيس الراحل السادات مع تراث ثورة تموز (يوليو) الذي آل اليه، حيث مشي علي طريق عبد الناصر بالاستيكة كما تقول النكتة المصرية، فحول الاشتراكية الي رأسمالية، والكفاح ضد الامبريالية والصهيونية الي وقوع في احضانها والاوتوقراطية الراديكالية بأخري يمينية. حكومة الخرطوم قلبت ايضا كل اولوياتها، واصبح استرضاء امريكا هو الهدف الاكبر بدلا من مقاومتها، والتوسل الي المتمردين البديل لاستئصالهم، والبراغماتية الميكافيلية بديلا من التشدد الاسلامي، والحرب علي الاسلاميين و ارهابهم هو اولويتها بدل الحرب علي العلمانيين والملاحدة.
والنتيجة ان هناك احتفالا كبيرا يقام بانتصار هو بالهزيمة اشبه. فالحكومة باقية، ولكنها حكومة تحارب اكثر المبادئ التي حاربت الجميع واستعدت العالم من أجلها. ولو انها سقطت اليوم وامسك خصومها بالسلطة لما فعلوا غير ما تفعل اليوم، ولعلهم كانوا يتحفظون قليلا ولا يجتهدون اجتهادها في سجن وتشريد ومطاردة انصارها السابقين الذين اصبحوا اليوم اعدي الاعداء.
وهكذا يقام الفرح والعروس المحتفي بها (الدولة الاسلامية المزعومة) قد قبرت واصبح حرياً ان يقام لها المأتم، اما أهل العروس من انصار التوجه الاسلامي فهم ـ اذا لم يكن الله انعم عليهم بعاجل الشهادة ـ بين سجين ومشرد وناقم وحزين وصامت، او بائع دينه بمكسب عاجل، يري السلامة والأمن في مائدة معاوية ويؤجل الصلاة مع علي الي أجل غير مسمي.(القدس العربي اللندنية)
الأوساط الرسمية في الخرطوم تجتهد هذه الايام في تسويق النظرة المتفائلة لمستقبل الحكم والبلاد، وهو تفاؤل يقوم علي ركنين: التبشير بقرب عقد اتفاقية سلام مع المتمردين، وبتقارب ومودة مع الادارة الامريكية، وهذه مفارقة ذات دلالة عميقة، كون ثورة الانقاذ جاءت للحكم بازاحة حكومة عقدت صفقة صلح مبدئي مع التمرد وكانت علي علاقة حميمة مع الولايات المتحدة. وقد نددت حكومة الانقاذ بكلتا الصفتين، وتوعدت المتمردين بالاستئصال، وامريكا بالهزيمة ودنو العذاب، ولكن القبول عند حركة التمرد والحظوة عند امريكا اصبحتا اليوم غاية الأمل عند الحكومة السودانية، وعنوان النجاح ومناط الاحتفال.
في خطابه الذي ألقاه بمناسبة احتفال عهد الانقاذ بانقضاء عامه الثالث عشر سعي الفريق عمر حسن أحمد البشير رئيس الجمهورية الي الترويج للتفاؤل بقرب حلول السلام، وبشر بقرارات وشيكة توسع هامش الحريات وتعزز الوفاق الوطني وتكرس الاصلاح الدستوري والوحدة الوطنية وتطلق مشاريع تنموية جديدة. وافتخر الرئيس ايضا بفشل محاولة عزل السودان دوليا وحصاره دبلوماسيا واقتصاديا، ونوه بعودة السودان الي مكانه الطبيعي في المحافل الدولية والاقليمية.
هناك بالقطع اشارات كثيرة الي ان الحكم في السودان لديه هذه المرة ما يحق له الاحتفال به اكثر من اي وقت مضي منذ انقلاب حزيران (يونيو) عام 1989. فقبل أيام قليلة اختتم في الخرطوم الاجتماع الدوري لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الاسلامي في دورة ناجحة نسبياً. ويعتبر مجرد عقد مثل هذا المؤتمر نصراً للخرطوم، خاصة وان عقده تأخر اكثر من خمس سنوات بسبب معارضة دول متنفذة في المنظمة حالت دون ذلك في الماضي. ولم تكن منظمة المؤتمر الاسلامي وحدها التي كانت تتجنب السودان تجنب البعير الأجرب، اذ ان السودان اضطر في عام 1997 للتخلي طوعا عن حقه في استضافة قمة دول الايقاد لتجنب انهيار المنظمة. ولكن السودان استضاف قمة الايقاد لعامين علي التوالي منذ مطلع عام 2001.
وفي بادرة تشير الي تحول المناخ في واشنطون لصالح السودان نشرت الواشنطن بوست الاسبوع الماضي مقالة تضمنت اتهامات من السفير الامريكي السابق في الخرطوم تيموثي كارني لوكالة المخابرات الامريكية بأنها كانت وراء حملة خاسرة ضد الخرطوم لعلها كانت السبب الرئيسي في فشل الوكالة في الكشف عن مخطط الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). وبحسب كارني فان الوكالة اعتمدت علي معلومات مضللة من احد عملائها في اصدار تحذير ادي الي اخلاء السفارة في الخرطوم وتسميم العلاقات مع الحكومة السودانية. وبالطبع لم يكشف كارني عن هوية العميل المزعوم (ولعله مسؤول كبير في الحكومة ما يزال في موقعه) ولكنه كان علي ما يبدو ايضا وراء المعلومات الخاطئة التي ادت الي قصف مصنع الشفاء للادوية في عام 1998، واضطرت الوكالة فيما بعد الي سحب اكثر من مئة تقرير جاء بها ذلك العميل الهمام واتضح انها كلها كانت مضللة.
كارني برأ حكومة الخرطوم من الاتهامات ضدها، وذكر انها كانت جادة في التعاون المخابراتي مع امريكا، وهو تعاون كان كفيلا بأن يساعد في تجنب الهجمات الارهابية التي جاءت بعد ذلك. وبالطبع فانه من الصعب فهم غباء مسؤولي وكالة المخابرات الامريكية الذين يصرفون الأموال علي عملاء غير موثوقين في حين ان الحكومة نفسها كانت علي استعداد للتطوع مجانا بكل المعلومات التي كانت الادارة تريدها وزيادة، وفي الأشهر الماضية ظل كبار المسؤولين الامنيين السودانيين، وعلي رأسهم رئيس جهاز الأمن السابق، يشكون لطوب الارض ولكل صحافي يقبل بالاستماع لهم من جفاء امريكا وصدها لتوسلاتهم لمدها بالمعلومات المخابراتية المفيدة!
وقد يثير هذا الوضع تساؤلا مهما حول السبب الذي من اجله كان المسؤولون السودانيون يجاهرون فيه بالعداء لامريكا، ويرمونها وحلفاء في المنطقة بكل كبيرة، مع هذا التلهف الذي ظهر لارضائها بكل وسيلة. ولكن هذا موضوع آخر، اما المهم فان هذه الامنية الغالية قد تحققت، وها هي امريكا تتنازل وتتواضع وتقبل من الحكومة خدماتها الأمنية وفروض الولاء والطاعة الاخري بعد طول تمنع، وهو سبب كاف لسعادة من كانت هذه امنيتهم، ومبرر للاحتفال والتفاؤل.
لدي الحكومة كذلك اسباب اضافية للتفاؤل والاحتفال. فخلال العامين الماضيين تدفق النفط من حقوله في الجنوب، وأعطي هذا دفعة قوية لاقتصاد البلاد الذي انهكته الحرب والأزمات المزمنة. وفي نفس الوقت حققت البلاد تقدماً في مجالات اخري، مثل الصناعات العسكرية، حيث شهد العرض العسكري الذي اقيم الأحد لأول مرة ظهور مركبات مدرعة من صنع محلي. وفي نفس يوم الاحتفال اعلنت القوات المسلحة عن استرداد مدينة قوقريال في اقليم بحر الغزال، وهي مدينة كانت قوات التمرد انتزعتها من الحكومة قبل عامين.
الحكومة اذن يحق لها ان تفتخر بانجازات داخلية وخارجية، ابرزها انحسار العداء لها دولياً، وانعدام المعارضة الفاعلة لها داخليا. فهل يعني هذا ان الحكومة ومعها البلاد، وصلت الي بر الأمان، وان السودان سيشهد مستقبلا يسوده الاستقرار؟
الدلائل فيما يبدو لا تبشر بذلك. في خطابه دعا البشير المتمردين الي القاء السلاح والانضمام الي مسيرة الوفاق والحوار السلمي، واشاد في هذا السياق بتلك الاحزاب التي نبذت العنف ورجحت الخيار السلمي، ولكن مصير هذه الاحزاب التي اشاد بها الرئيس لا يبدو مشجعاً. ففصائل التمرد التي عقدت مع الحكومة اتفاق سلام في عام 1997، والاحزاب الشمالية التي جنحت للسلم معها، وعلي رأسها الحزب الاتحادي الديمقراطي (جناح الهندي) وحزب الامة بزعامة الصادق المهدي لم تحقق اي مكاسب سياسية من هذا التوجه، بل بالعكس عانت الخيبة وواجهت التفكك الداخلي لأن الحكومة فشلت في اعطائها الحد الادني من المشاركة السياسية، بل ان الحزب الحاكم نفسه تفتت وتعرض للانشقاق تحديدا لعدم وجود آليات فاعلة للمشاركة في السلطة.
احزاب المعارضة التي رفضت دعوة الرئيس للمشاركة والحوار محقة في تشككها في جدوي عروض الحكومة للمشاركة فالحكومة لا تتحاور جديا الآن الا مع متمردي الجيش الشعبي الذين يحملون السلاح، وذلك بسبب الضغط العسكري والضغوط الاجنبية، اما الذين سالموا الحكومة من المعارضة او حتي من انصارها فان مصيرهم كان الاهمال والتجاهل.
وهذا بالطبع لا يجعل الحكومة السودانية بدعا من الحكومات العربية او الافريقية التي تحكم بمزيج من القهر والتسلط والاغراء والتلاعب والمناورة وشيء من الدعم الاجنبي. ومثل تلك الحكومات فان عمر هذه الحكومة قد يطول او يقصر بحسب الظروف المحيطة والحظ ومهارات اللاعبين. ولكن حظها قد يكون أسوأ من غيرها نوعا بسبب شح موارد السودان، وقوة المعارضة، ووجود قوي اجنبية متنفذة علي رأسها الولايات المتحدة لن تسمح لها بالانفراد بالأمر الداخلي في البلاد. ولكن حتي بافتراض انها عمرت طويلا شأن سوهارتو في اندونيسيا او موبوتو في زائير فان التاريخ يثبت ان تراث مثل هذه الحكومات يندثر تماما بعد زوالها ولا يبقي منه اثر الا الآثار السلبية، كالتفتت الذي تشهده الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا) اليوم، وتخشي عواقبه اندونيسيا، ويعتبر عمر مثل هذه الحكومات من قبيل الوقت الضائع في عمر الشعوب، يخلو من كل تقدم الي الامام، ويحفل بكل تراجع الي الخلف.
حكومة الانقاذ وفرت علي خصومها كثيرا من الجهد حين انتهجت بنفسها نهج الرئيس الراحل السادات مع تراث ثورة تموز (يوليو) الذي آل اليه، حيث مشي علي طريق عبد الناصر بالاستيكة كما تقول النكتة المصرية، فحول الاشتراكية الي رأسمالية، والكفاح ضد الامبريالية والصهيونية الي وقوع في احضانها والاوتوقراطية الراديكالية بأخري يمينية. حكومة الخرطوم قلبت ايضا كل اولوياتها، واصبح استرضاء امريكا هو الهدف الاكبر بدلا من مقاومتها، والتوسل الي المتمردين البديل لاستئصالهم، والبراغماتية الميكافيلية بديلا من التشدد الاسلامي، والحرب علي الاسلاميين و ارهابهم هو اولويتها بدل الحرب علي العلمانيين والملاحدة.
والنتيجة ان هناك احتفالا كبيرا يقام بانتصار هو بالهزيمة اشبه. فالحكومة باقية، ولكنها حكومة تحارب اكثر المبادئ التي حاربت الجميع واستعدت العالم من أجلها. ولو انها سقطت اليوم وامسك خصومها بالسلطة لما فعلوا غير ما تفعل اليوم، ولعلهم كانوا يتحفظون قليلا ولا يجتهدون اجتهادها في سجن وتشريد ومطاردة انصارها السابقين الذين اصبحوا اليوم اعدي الاعداء.
وهكذا يقام الفرح والعروس المحتفي بها (الدولة الاسلامية المزعومة) قد قبرت واصبح حرياً ان يقام لها المأتم، اما أهل العروس من انصار التوجه الاسلامي فهم ـ اذا لم يكن الله انعم عليهم بعاجل الشهادة ـ بين سجين ومشرد وناقم وحزين وصامت، او بائع دينه بمكسب عاجل، يري السلامة والأمن في مائدة معاوية ويؤجل الصلاة مع علي الي أجل غير مسمي.(القدس العربي اللندنية)
التعليقات