عبدالقادر الجنابي
&
تقطّرَ الشِعرُ، طوا ل القرن العشرين، تجاربَ بحيث كان يضطر إلى أن يستجيب لكل المتطلبات... لكن بطريقته هو، فلم يُصبح إيقاعَها، بل استبقها، كما تنبأ رامبو.
&
عانى الشعر كل الكوارث، الحروب والطوباويات. مرّ بكل الاكتشافات اللغوية، العلمية والشكلية، بل حتى شهد بيانات موته ... لكنه ظل يتراءى وكأنه رحّالة يبحث بلا كلل عن الحقيقة التي يقال إنها أخفِيتْ في بئر. فهو، آتياً من أفواه الذين كان يُنظر إليهم كمستسلمين، فرديين، مرضى ومنعزلين، لم يتوان عن ملاحقة الأفكار حتى المتاريس منبّهاً إياها من الإيديولوجيات، من أضغاث الأحلام، من الوقوع في مطب الشعارات البراقة.
&
أمس، كشّرَ الحلم الشيوعي عن وجهه الكابوسي المميت، اُستبدِلت الحروب الشمولية بحروب محلية مُسيطَر عليها عالمياً، انحسرَ الخطاب الفلسفي، انتصرت وسائل الإعلام في بهذلة اللغة، تحوّل البشر إلى مجرد متفرجين على مشهد بؤسهم وتفاهة حياتهم، فليكن. فهذا لن يُحرك في الشعر ساكناً. إذ هو أول من كان يعلم إن هذا الانهيار الشامل لجدران تخفي وراءها جدران، حاصلٌ. وإلا كيف سنفسر النزعة التشاؤمية السارية في جسد الشعر منذ عشرات السنين.
&
اليوم: حرب شبكية مع عدو بلا وجه: آلاف الضحايا يتكدسون مشهداً غرضه إفراغ الأعين من قدرة النظر الاستشفافية، التطلّعية نحو مسافات حلمية أبعد: إنها حرب المستقبل الباردة حيث المكتوب ينتظم وفق قوانين الانترنت، والمعاش تحت بُؤر مُسيّري العالم نحو الهلاك. ومع هذا فإن الشعر لا يزال هو، أي ذلك المجهول البلا حدود؛ الفالت من كل رقابة ساكناً مخيلة البشر، وكأن شيئاً لم يحصل. لكن، شيئاً ما قد حدث فعلاً: لقد تخلّص الشعر من كل ما يريد أن يضعه في خدمة أغراضه. ذلك لأن الشعر، بفضل كل التجريبات الطليعية التي اجتازها، تعلّم
&
1- بأن الشاعر ليس بريئاً في علاقاته باللغة. فهو ينثر مفرداتها عراء الصفحة، يفكك التركيبة الاجتماعية التي ترتكز عليها اللغة. وهو بتشريب الصورة بالفكرة ومن ثم غربلة هذه الفكرة بغربال الوجدانية القلقة، يستنطق ذاكرة اللغة، فينجلي تاريخ الواقع كلّه وخاصة ماضي الشاعر نفسه.
&
2- ألاّ ينسى بأنه تركيبة الإنسان، تختلط فيه الأجناس كلاً يحافظ فيه إلى الأبد على نواته الكوسموبوليتية.
&
3-& بأنه فعلٌ لغويٌّ، ولأنه "شكل من أشكال ترائي اللغة"، فتصميمه يضمن للتعبير إقامة كونية.
&
4- وبما إنه كلام موجه إلى لا أحد، إلى قارئ مستقبلاً، فإنه دائماً في مكان ما، في قبلة، في صرخة طفل، في لافتة، أو في شارع خلفي:&
&
إذ يكفي أن يأتيَ الليل
فتنهض كلمةٌ
رجلٌ ينام
امرأة تغادر فراشها
والعالَمُ قصيدةٌ.
&