الكل يعلم أن مدينة نيويورك في ورطة
ولكن لا أحد يريد معالجة الورطة بشكل جدي...
&
لا يكاد يمر يوم في نيويورك دون احتجاج : رجال المطافى يهددون بالتوقف عن العمل، وغمرهم تأييد شعبي، الأطفال يعانقونهم، والكبار يوقعون على مطالبهم.. وتتوارد على مقر البلدية وفود المحتجين يمثلون المستشفيات والمدارس، والمواصلات العامة، وغيرهم. وتستعد المدينة لاحتمال إضراب عمال المواصلات في الشهر القادم، وهو أول إضراب من نوعه منذ الستينات والذي أسرع في الانهـيار المالي في أوائل السبعينـات.
& والسبب وراء كل هذا : المال.. في الأسبوع الماضي رفع عمدة المدينة مايكل بلومبرج الضريبة العقارية بنسبة 18%، كما رفع رسوم وقوف السيارات، وضريبة السجائر، ومخالفات المرور..
& وهذه الإجراءات تسد عجزا في الميزانية الحالية التي تنتهي في يونيو 2003 مقداره بليون دولار. ولكنها لن تفعل شيئا لمواجهة العجز المقدر للسنة المالية القادمة. ويبلغ 4ر6 بليون دولار، والقانون يحتم على المدينة أن تعادل ميزانيتها، وإذا عجز العمدة أن يفعل هذا تولت هيئة تعينها حكومة الولاية الشؤون المالية في المدينة بسلطات غير عادية منها القدرة على فسخ العقود المبرمة مع المدينة. وهذا ما حدث تقريبا في 1975 مما أدي إلى تسريح عدد كبير من العاملين في حكومة المدينة. ودين كبير لا يزال يكلف المدينة 500 مليون دولار سنويا لتغطية فوائد الدين.
&& والميزانية الاعتيادية للمدينة 43 بليون دولار، ويقول بلومبرج أن 15 بليون فقط في متناول المدينة، ويغطي الباقي معونات من الولاية والحكومة الفيدرالية للإنفاق على أنشطة وخدمات معينة منها دفع معاشات الموظفين، والرعاية الطبية للفقراء. ومشاكل المدينة فظيعة، والكثير من الحلول المقترحة لا تقل فظاعة، يقترح بعض السياسيين في المدينة حلولا مثل فرض ضريبة على معاملات البورصة، ويعني هذا إلحاق ضرر بحي المال (وول ستريت) أشد من الضرر الذي ألحقه أسامة بن لادن، وهناك أيضا كلام عن فرض مزيد من الضرائب على الأغنياء (وهذا يحملهم على الانتقال إلى الولايات المجاورة : كونتيكت أو نيوجيرسي، أو فرض ضريبة على مستخدمي المواصلات من خارج المدينة )مما يحمل الشركات على الانتقال إلى الولايات المتجاورة.
&& وعلى الرغم من كل هذا تخلو أزمة المدينة من أي مظهر للضغينة، فحتى المتظاهرون يرون المدينة تأثرت بالركود العالمي، ومتاعب حي المال. وهجوم 11/9. وخلق بن لادن بدون قصد منه إجماع على ضـــرورة اتخاذ قـــرارات مؤلمة.
&& والأمر غير المرحب به هو الميل إلى المبالغة في تأثير الهجوم الذي تعرض له مركز التجارة العالمية، وتجاهل الاختلال في الميزانية الذي أستمر فترة طويلة، وعلى الرغم من الأخبار السيئة فإن الاقتصاد الوطني واقتصاد المدينة ليس سيئا، فلا يزال معدل البطالة في المدينة 8% أي أقل مما كان قبل خمسة سنوات، والضائقة المالية الحالية ليست نتيجة الحالة الاقتصادية بل نتيجة قرارات سياسية سيئة.
&& فالديمقراطيون الذين شاركوا في حكم المدينة فترات طويلة مبذرون بالطبيعة، وحتى الجمهوريين غير معفيين من اللوم. ومن المؤكد أن عمدة المدينة السابق رودلف جولياني وهو جمهوري بدأ عهده مثالا للاستقامة المالية، فميزانيته الأولي (1994-1995) خفضت النفقات، وخفض عدد موظفي المدينة، ولكنه فقد السيطرة على المسائل المالية للمدينة أثناء الازدهار الاقتصادي في أواخر التسعينات. ونفس الشيء تقريبا يصدق على حاكم الولاية جورج باتاكي الذي يواجه عجزا في الميزانية يبلغ 10 بليون دولار.
وعندما وجد العمدة الحالي مايكل بلومبرج نفسه في هذا الموقف الحرج كان أول ما فعله تقليل الألم. وفي أوائل هذا العام عندما بدأت المتاعب المالية في الظهور حصل على الموافقة على جمع 5ر1 بليون من خلال السندات الحكومية، وهذا تكتيك غير قابل للتكرار، والآن مطلوب من وكالات المدينة أن تقتصد في النفقات، وبدأ بلومبرج نفسه وتعهد بخفض نفقات مكتبه بمقدار الخمس. وفرض تجميد على تعيين موظفي جدد. وأعلنت إدارة المدارس الاستغناء عن الموظفين الذين لا صلة لهم بالتعليم. ولو واجه جولياني مثل هذه الحالة التي واجهها بلومبرج لحدث تصادم بينه وبين العديد من قادة النقابات. ولا يحدث هذا مع بلومبرج العملي فبدلا من استخدام الأزمة لانتقاد عدم كفاءة عمال البلدية أصبح نصيرا لهم وحجته أن إجراء تخفيضات حادة من شأنها أن تلحق الضرر بالمدينة أشد من الضرر الذي يلحقه رفع الضرائب، وحصل المدرسون ورجال البوليس والمطافئ على علاوات.
&& وهناك شئ من التعقل في هذا الجنون. فمثلا بعد عشرات السنين من إخفاق جهود سابقيه ضمن بلومبرج سيطرة مباشرة على مدارس المدينة، ولم ينعش هذا الآمال في تحسين التعليم وحسب، بل منحه فرصة كبح جماح الإسراف في المباني. ويري بعض المحللين أن الإصلاح الهام قد تأجل. ويشتمل في نظرهم تولي القطاع الخاص المواصلات بالأتوبيسات، كما يشتمل على تغيير عقود العاملين في المدينة. بتحملهم جزء من نفقات التأمين الصحي، وإطالة ساعات العمل بدون أجر إضافي ولا شك أن بلومبرج يعلم هذا، وقد نجحت بعض تكتيكاته حتى الآن، وأذهل منتقديه بالفوز في الانتخابات على منصب العمدة على الرغم من أنه رجل أعمال وليس سياسياً، والصفقة التي أبرمها مع المدارس كانت انتصارا كبيرا له، وقدرته على العمل لا حد لها. إلا أنه في النهاية لابد مـــن اتخاذ قرارات مؤلمة. ايكونوميست (عن صحيفة "وطني نيوز")