محمد شوقي الزين
&
"كلافيس كريتيكا" أو مفتاح النقد في مساءلة العقل
الحديث عن فكر محمد أركون هو في الوقت نفسه مسألة هامّة و ضرورية. ضرورة فهم كتابات أركون تستجيب لمطلب أساسي هو نشاط و مسؤولية الفكر العربي المعاصر في تبنّي رؤى و مقاربات جديدة لم يسبق للفكر أن وضع متاعه النقدي فيها لأسباب تاريخية و سياسية و نفسية ألجمت اللسان و أحجمت البيان و حجبت ما لم يفكّر فيه هذا الفكر وأقصاه من حقل مباحثه و مشاغله.
تسير كتابات محمد أركون وُفق هندسة فكرية ثلاثية البُعد : "إختراق"، "إزاحة"، "تجاوز" ( ). فالقراءة النقدية لنصوص التراث الديني تعمل على إعادة تقييم المفاهيم و التصورات و المتخيّلات التي اتخذت في تاريخ الفكر العربي و الإسلامي صبغة مطلقة و جامدة و سكونية. التفكير في هذه البنيات اللاهوتية و الأنثروبولوجية المؤسّسة لتاريخ هذا الفكر تستدعي "إختراق" المصطلحات و المفاهيم و العادات الفكرية وليدة الرؤى اللاهوتية و التي "أسطرت" (Mythologiser) النصوص المؤسسة بقولبتها ضمن أطر دوغمائية لا تناقش. فاختراق الطبقة الدلالية (أو المعنى الضمني "mens octoris") للنص المؤسس (أو النص "المقدّس" بالأحرى) لا تعني إهدار هذا النص كما يوهمه لفظ "إختراق" و إنما تقييمه بواسطة أدوات و آليات معرفية مستقاة من خزائن العلوم الإنسانية و الإجتماعية (الألسنية، التاريخ، الأنثروبولوجيا، الهيرمينوطيقا، علم النفس و الإجتماع، الخ). تتخذ هذه الآليات شكل مفتاح نقدي (أو "كلافيس" (Clavis) باللاتينية) بفضله يفتح العقل الإسلامي أقفال التراث الفكري و الديني الذي لا يزال مكبّلا و مغلقا بمعرفة وثوقية مشرّعة تحول دون الكشف عن مضامينه الإبستمولوجية و الأنثروبولوجية معرفيا و دوافعة التمويهية سلطويا. فلا يمكن مواجهة سلطة التراث بآليات الإسلامولوجيا (علم الإسلاميات) كما يصطلح عليها أركون حيث أبدت حدودها النظرية و العملية في استنفاد هذا التراث برمّته : "إذا لم تفلح الإسلامولوجيا الكلاسيكية في أيّة إعادة توزيع للمعرفة الغربية، فهو أن معظم المشتغلين عليها ضلّوا ملتحمين بالنظرة التاريخانية و الإتنومركزية" ( ). الإختراق يستلزم "الإزاحة" كبُعد إجرائي و مفهومي لا يمكن الإستغناء عنه، بمعنى إزاحة البنيات الصورية الجامدة و الراسخة لهذا التراث و المتمفصلة مع خطابة اللاهوتي نحو فضاءات معرفية و مقاربات فكرية أكثر تطورا و انفتاحا. تمكّن هذه الإزاحة من الكشف عن الأمر الذي ظلّ مغيّبا و مطموسا عبر لعبة الوهم& و الإقصاء و التي بفضلها تتجمّد و تتصلّب هذه البنيات النظرية للعقل. و الإزاحة تقتضي "المجاوزة" أي تجاوز خطاب "الأسطرة" الذي يتكلّم عبر هذه البنيات و القوالب النظرية و الفكرية بالكشف عن الطابع الدينامي و التطوري الضمني الذي يفرض نمطا لا ينضب من المساءلة و المراجعة. فقط العقل المسائل و المتحسّس و المتلمّس و المتحمّس للمغامرة المعرفية و النقدية بإمكانه إدامة الحركة النقدية الدؤوبة في شكل حيرة فكرية لا تنقضي باليقينيات و الإطلاقيات و تعطّش معرفي يدفع بالعقل إلى البحث عن فضاءات معرفية واسعة و التنقيب في الأرضيات الدلالية عن خزائن دفينة من المعنى و الحقيقة و الوجود و الصيرورة. هذا العقل "السائر الحائر" و المتعطش للمعرفة بمعزل عن نمط السلطة و الهيمنة قد تكبّله النزاعات الإيديولوجية و صراعات القوى و تعرقل نشاطه النقدي. فهذا الجو الملوّث بعبثية التسلّط و التمويه من شأنه أن يسمّم العقول المتحرّرة بشعارات تزرع في الحقل الإجتماعي بذور التقوقع و الوثوقية و الإقصاء المتبادل : "إن أحد أهداف الإسلامولوجيا التطبيقية هو استبدال جوّ التناكر و النبذ المتبادل بضرورة بحث علمي وحدوي. ينبغي عزل الإفراطات الخطيرة لما تصطلح عليه المذاهب المعارضة اسم "الغزو الفكري" للغرب" ( ). باختصار، يبدو النقد غريبا تماما عن دوافع الهدم و التخريب و التشكيك. إنه بالأحرى بناء و إعادة تقييم وُفق معايير علمية و موضوعية صرفة. أخذ النقد بهذا المعنى الإيجابي و الخلاّق و المثمر معناه الحدّ من المخاوف اللامشروعة إزاء فقدان المعنى و انهيار الهوية و ضمور القيمة.
تسير كتابات محمد أركون وُفق هندسة فكرية ثلاثية البُعد : "إختراق"، "إزاحة"، "تجاوز" ( ). فالقراءة النقدية لنصوص التراث الديني تعمل على إعادة تقييم المفاهيم و التصورات و المتخيّلات التي اتخذت في تاريخ الفكر العربي و الإسلامي صبغة مطلقة و جامدة و سكونية. التفكير في هذه البنيات اللاهوتية و الأنثروبولوجية المؤسّسة لتاريخ هذا الفكر تستدعي "إختراق" المصطلحات و المفاهيم و العادات الفكرية وليدة الرؤى اللاهوتية و التي "أسطرت" (Mythologiser) النصوص المؤسسة بقولبتها ضمن أطر دوغمائية لا تناقش. فاختراق الطبقة الدلالية (أو المعنى الضمني "mens octoris") للنص المؤسس (أو النص "المقدّس" بالأحرى) لا تعني إهدار هذا النص كما يوهمه لفظ "إختراق" و إنما تقييمه بواسطة أدوات و آليات معرفية مستقاة من خزائن العلوم الإنسانية و الإجتماعية (الألسنية، التاريخ، الأنثروبولوجيا، الهيرمينوطيقا، علم النفس و الإجتماع، الخ). تتخذ هذه الآليات شكل مفتاح نقدي (أو "كلافيس" (Clavis) باللاتينية) بفضله يفتح العقل الإسلامي أقفال التراث الفكري و الديني الذي لا يزال مكبّلا و مغلقا بمعرفة وثوقية مشرّعة تحول دون الكشف عن مضامينه الإبستمولوجية و الأنثروبولوجية معرفيا و دوافعة التمويهية سلطويا. فلا يمكن مواجهة سلطة التراث بآليات الإسلامولوجيا (علم الإسلاميات) كما يصطلح عليها أركون حيث أبدت حدودها النظرية و العملية في استنفاد هذا التراث برمّته : "إذا لم تفلح الإسلامولوجيا الكلاسيكية في أيّة إعادة توزيع للمعرفة الغربية، فهو أن معظم المشتغلين عليها ضلّوا ملتحمين بالنظرة التاريخانية و الإتنومركزية" ( ). الإختراق يستلزم "الإزاحة" كبُعد إجرائي و مفهومي لا يمكن الإستغناء عنه، بمعنى إزاحة البنيات الصورية الجامدة و الراسخة لهذا التراث و المتمفصلة مع خطابة اللاهوتي نحو فضاءات معرفية و مقاربات فكرية أكثر تطورا و انفتاحا. تمكّن هذه الإزاحة من الكشف عن الأمر الذي ظلّ مغيّبا و مطموسا عبر لعبة الوهم& و الإقصاء و التي بفضلها تتجمّد و تتصلّب هذه البنيات النظرية للعقل. و الإزاحة تقتضي "المجاوزة" أي تجاوز خطاب "الأسطرة" الذي يتكلّم عبر هذه البنيات و القوالب النظرية و الفكرية بالكشف عن الطابع الدينامي و التطوري الضمني الذي يفرض نمطا لا ينضب من المساءلة و المراجعة. فقط العقل المسائل و المتحسّس و المتلمّس و المتحمّس للمغامرة المعرفية و النقدية بإمكانه إدامة الحركة النقدية الدؤوبة في شكل حيرة فكرية لا تنقضي باليقينيات و الإطلاقيات و تعطّش معرفي يدفع بالعقل إلى البحث عن فضاءات معرفية واسعة و التنقيب في الأرضيات الدلالية عن خزائن دفينة من المعنى و الحقيقة و الوجود و الصيرورة. هذا العقل "السائر الحائر" و المتعطش للمعرفة بمعزل عن نمط السلطة و الهيمنة قد تكبّله النزاعات الإيديولوجية و صراعات القوى و تعرقل نشاطه النقدي. فهذا الجو الملوّث بعبثية التسلّط و التمويه من شأنه أن يسمّم العقول المتحرّرة بشعارات تزرع في الحقل الإجتماعي بذور التقوقع و الوثوقية و الإقصاء المتبادل : "إن أحد أهداف الإسلامولوجيا التطبيقية هو استبدال جوّ التناكر و النبذ المتبادل بضرورة بحث علمي وحدوي. ينبغي عزل الإفراطات الخطيرة لما تصطلح عليه المذاهب المعارضة اسم "الغزو الفكري" للغرب" ( ). باختصار، يبدو النقد غريبا تماما عن دوافع الهدم و التخريب و التشكيك. إنه بالأحرى بناء و إعادة تقييم وُفق معايير علمية و موضوعية صرفة. أخذ النقد بهذا المعنى الإيجابي و الخلاّق و المثمر معناه الحدّ من المخاوف اللامشروعة إزاء فقدان المعنى و انهيار الهوية و ضمور القيمة.
&
إسلامولوجيا تطبيقية : من التصوّر إلى الحدث
لا يتحدث المفكّر الجزائري محمد أركون عن "الإسلام" كمفهوم مجرّد و مفارق، متعالي عن شروطه التاريخية و الموضوعية و إنما عن "الحدث الإسلامي" كظاهرة اجتماعية و تاريخية و نفسية تحتويها آليات الفكر العلمي بحذافيرها. فالمفهوم الإجرائي الذي تبنّاه أركون هو تبيان انخراط الحدث الإسلامي في تاريخية الممارسات الخطابية و الإجتماعية و السياسية و محايثته للحقل الإجتماعي الذي انبثق فيه و تطوّر في طيّات أحداثه و تقلّباته، و هذا يسمح لنا بنعت هذه الظاهرة التاريخية أو هذا الحدث الإسلامي كنشاط فعلي للتاريخ ( ) أو الوظيفة الفاعلة للتاريخ في توجيه مجرى هذا الحدث و كذا التلوينات الإيديولوجية و السياسية التي أصبغت عليه. فهذا التحديد الإجرائي يسمح بالتمييز بين التصوّر التاريخي و الأنثروبولوجي لهذا الحدث و الإستعمال الذرائعي و البراغماتي الذي تستند إليه إيديولوجيا الكفاح و التبجيل. فالإسلامولوجيا التطبيقية تبدو ضرورية و كافية قصد تفكيك جملة الطبقات الفكرية و المخيالية و المفهومية المتراصّة و المتجذّرة في الممارسة السياسية و التربوية و الإقتصادية والثقافية. بينما كانت الإسلامولوجيا الكلاسيكية تحوم حول تأريخية ساذجة و إتنوغرافيا مدعّمة من قبل الحضور الكولونيالي/الإستعماري في البلاد العربية، فإن "الحذاقة العملية" للإسلامولوجيا الأركونية تذهب إلى ما وراء التصنيفات التأريخية و الإتنوغرافية الضيّقة لتحفر في طبقات النصوص و الخطابات بمساءلة الأسس و التأسيسات و البداهات التي تقوم عليها و تنطلق منها قصد بناء تصوّرها للعالم و الإنسان و الوجود. الإسلامولوجيا التطبيقية التي يدعو إليها أركون عبارة عن "أركيولوجيا" فاعلة في سبيل زحزحة الخطابات المترسّبة و تقويض البداهات الوثوقية المتجذّرة. فهي لا تسائل النص "الأصلي" فقط و إنما تعتني أيضا بنقد التأويلات و المتخيّلات التي نُسِجت و صُنِعت حول حقيقته المتوارية. تسائل و تنتقد الإسلامولوجيا التطبيقية النص الذي يؤسّس "خطابا حول" نص آخر و يزعم أنه "الخطاب-الحقيقة" حول أفكاره و تصوّراته و مقاصده و حقائقه المضمرة. بتعبير آخر، ليس فقط النص المحوري و المركزي الذي تعتني الإسلامولوجيا التطبيقية بتعرية طبقاته و حقائقه وُفق عقل منهجي و تطبيقي صارم، و إنما النصوص المجاورة التي تفسّره و تشرحه و تؤوّله تخضع بدورها إلى معاول التفكيك و البناء و مقتضيات التحليل و التشخيص. هذه العملية المعقّدة في تشريح و تشخيص النص و مراياه المتقابلة أي تأويلاته المتضاربة تهدف إلى التمييز بين حقيقتين متشابكتين : حقيقة النص "الأصلي" (أي النص "المقدّس") و حقيقة كلّ نص "تأويلي و شارح". تبدو ممارسة العزل و الحل هذه ضرورية و أساسية لأن الحقيقة الدينية ليست أبدا أثيرا خالصا و شفّافا كما بدت في لحظة انبثاقها و بروزها للوعي العربي و إنما تتحول في سياق النشاط التاريخي الفاعل و بتدخّل اامخيال أو المتخيّل الفردي و الإجتماعي إلى أطر جامدة و ثابتة و خطابات فجّة. و النص لا يتّخذ دلالته و قيمته إلاّ بحضور وعي القارئ الذي يمارس ذهنه و خياله و وجدانه في فهمه و استخراج معانيه. فليس النص، من هذا المنظور، مجرّد كينونة ساكنة و مستقلّة و إنما يُشتغَل كفضاء رمزي و شاعري يجوبه الوعي الفردي و الجماعي. فهو يستقي شرعيته و قيمته من جملة الفاعلين الإجتماعيين الذين ينتجون حقائقه و دلالاته بفهمه و قراءته و تأويله.& هذه القراءة الفردية و الجماعية في إنتاج المعنى و بناء الحقيقة تصبح مخيالا منتجا و مبدعا و موزّعا في الحقل الإجتماعي. المخيال أو المتخيّل الديني "يترجم" حقيقة النص "المقدّس"، لكنه "يخون"&& أيضا دلالته بقولبتها و أسطرتها و هي دلالة لا تنفك عن التعدّد و الإختلاف. و عليه، فرض دلالة أحادية للنص هو فتح مصراع الإرهاب الفكري أو العنف الرمزي الذي لا يزال الوعي العربي يعاني منه : "القرآن هو نص مفتوح يتعذّر على أيّ تأويل غلقه بصورة قطعية و "أرثوذكسية". على العكس تماما، المذاهب المسمّاة "إسلامية" هي حركات إيديولوجية تدعّم و تضفي مصداقية و شرعية على إرادات القوّة للجملعات البشرية من أجل الإستحواذ على السلطة و الهيمنة". تعمد الإسلامولوجيا التطبيقية الأركونية إلى محو هذا الخضوع إلى السلطة المطلقة و غير المشروطة للمعنى قصد مساءلة الواقع المعاش بالإعتماد على آليات معرفية حديثة قادرة على مجاوزة جنون الهيمنة أو الإرهاب الفكري كما هو متجلّ اليوم في دنيا الخطابات المتطرّفة : "يبدو أنه ضروري جدّا أن نتحمّل تعقّد الوضعية التاريخية التي عاينها المسلمون و كذا القلق المعرفي للعقل الراهن في سبيله نحو إدراك الحقيقة". يلاحظ أركون أن الفكر الإسلامي لا تزال تسيطر عليه النظرة الرجعية التي تستنفد رموزها و قيمها في "إبستمي" (المنظومة المعرفية) العصر الكلاسيكي. فثمّة إذن حركة دؤوبة من التصوّرات و الإدراكات والتمثّلات الفردية والجماعية تتشكّل اليوم على قاعدة الإبستمي "المونادي" (الذرّي المغلق) والمكتمل كمعرفة مطلقة ومغلقة لا تناقش، و يولّد بذلك روحا دوغمائية ساذجة مغتربة و منفصمة عن واقعها و تاريخيتها.
إذا كانت الإسلامولوجيا الكلاسيكية تسعى لإعلام الرأي العام الغربي حول بنية و وظيفة العقليات و العقائد و الأديان الأخرى (و هو إعلام تعمل على تكريسه و ترويجه وسائل الإعلام بعقل تصنيفي ضيّق) فإن الإسلامولوجيا التطبيقية كما يفهمها أركون تتجاوز إطار المناقشات العقيمة و الإقصاءات المتبادلة و النزعات الدفاعية المبالغ فيها من أجل تأسيس نشاط فكري و فعلي يرتكز على دعائم المقارنة المثمرة والمقاربة النقدية للخطاب المؤسس للفكر الإسلامي. هكذا تفتح الإسلامولوجيا التطبيقية، في الخطاب المعرفي المعاصر، منظورات و تنظيرات فكرية في ميدان الأنثروبولوجيا الدينية.
إذا كانت الإسلامولوجيا الكلاسيكية تسعى لإعلام الرأي العام الغربي حول بنية و وظيفة العقليات و العقائد و الأديان الأخرى (و هو إعلام تعمل على تكريسه و ترويجه وسائل الإعلام بعقل تصنيفي ضيّق) فإن الإسلامولوجيا التطبيقية كما يفهمها أركون تتجاوز إطار المناقشات العقيمة و الإقصاءات المتبادلة و النزعات الدفاعية المبالغ فيها من أجل تأسيس نشاط فكري و فعلي يرتكز على دعائم المقارنة المثمرة والمقاربة النقدية للخطاب المؤسس للفكر الإسلامي. هكذا تفتح الإسلامولوجيا التطبيقية، في الخطاب المعرفي المعاصر، منظورات و تنظيرات فكرية في ميدان الأنثروبولوجيا الدينية.
&
حقوق الفكر و مسؤولية المثقف النقدي
ليس من السهل هضم فكر محمد أركون الذي يتّسم بالجرأة النقدية و التي لم يسبق لفكر مستنير أن مهّد لها السبيل إلاّ نادرا. مردّ ذلك هو سيطرة عقلية النبذ و الإقصاء و الوعي السلبي المنغلق على وثوقيته و دوغمائيته عبّر عنها الدكتور نصر حامد أبو زيد أحسن تعبير "التكفير في زمان التفكير". يتعرّض أركون بدوره إلى الإتهامات الجارحة التي تستهدف شخصه و فكره. لا يزال الفكر الإسلامي المعاصر يغضّ الطرف عن التحوّلات و التطوّرات الباهرة التي تشهدها العلوم الإنسانية و الإجتماعية مفضّلا الإنغلاق في نرجسيته و اجترار ماضيه. ما سبب هذا اللاإحساس تجاه التيارات الفكري النقدية و المتطورة و التي لا تنفك عن مراجعة بديهياتها و تحديث آلياتها& و نقد ذاتها؟ هل ثمّة أسباب تاريخية و سياسية أم سبب ضمني يمسّ عقلية الخمول الفكري؟ لا ينفك هذا الفكر عن ذرائعية و براغماتية هجينة تقوم على استغلال الإبتكارات و الإكتشافات العلمية المعاصرة في الوراثة و البيولوجيا و الفلك لتدعيم سلطته التراثية بمعنى عبقرية العلم في خدمة سلطة النص.
من جملة ما تعرّض له فكر أركون هو اختلاق فكرة "أسطورية النص المقدّس" كرنين يقع أثره وقعا على المسامع و الأذهان دون تحمّل عناء و مشقة تحديد المصطلحات و المفاهيم و كذا إخفاء الأسس و المنطلقات التي يقوم عليها الخطاب الإسلامي المعاصر و هي إرادات القوّة في سبيل السيطرة التامة و الهيمنة المطلقة. و مثال "أسطورية" النص المقدّس هو أن هذا الخطاب يحجب الإطار المعرفي لهذا المفهوم ليستبدله بواقع التهويل و التدجيل لأنه إذا كان هذا الخطاب يمتنع عن الإلتفات إلى خزائن الفكر النقدي و العقل العلمي فكيف يتسنّى له معرفة أن مفهوم "الأسطورة" بالمعنى الأنثروبولوجي و الفينومينولوجي لا علاقة له بالترّهات و الخرافات و الأباطيل؟ لا تزال هذه الأخيرة تستحوذ الفكر الذي يكتفي بميزان الصحة و الخطأ و المنطقي و اللامنطقي و الصدق و البطلان و كل ما له صلة بالثنائيات الجامدة و المتصلّبة. فالأسطورة كما يعلّمنا الفكر الحديث في المخيال و الرمز و الأساطير تحيل إلى معنى مثالي ذو حمولة رمزية وافرة، فوق-تاريخي و عابر للأحداث. لكنها تتحوّل إلى أساطير سلبية و إيديولوجيات عندما تسيطر التمثلات الفردية و الجماعية و يجد العقل نفسه أسير تصوّرات و تهويمات لا تنفك عن نمط السلطة الممارَسة. لهذا السبب لم يعزل الفكر الأنثروبولوجي المعاصر "إنتاج المعنى" عن "سلطة الهيمنة" (جورج بالاندييه) أو تواطؤ "العنف الرمزي" مع "المقدّس المفارق" (روني جيرار). من هذا المنظور، الطلقة الفاعلة و المحرّكة للأسطورة تسيّر و تدير كل عقل تخطيطي كتابي سواء أكان رمزيا، إستعاريا، شعريا أم مقدّسا. و هو ما تسمّيه الهيرمينوطيقا الكلاسيكية "الهيبونويا" (Hyponoïa) أي المعنى الجوّاني أو الإنبثاق الخلاّق للوغوس الباطني (verbum interius).
فلا يكفي إذن معالجة نص رمزي و استعاري و شاعري (مثل النص "المقدّس") بنزعات تلفيقية أو دفاعية تختفي وراءها مقاصد الهيمنة و القوّة. مثال الأسطورة، كغيره من الأمثلة، يبيّن إلى أيّ حدّ لا يزال العقل الإسلامي في وضعيته البائسة على هامش إرادات المعرفة النقدية و يكرّر نفس الشعارات المطالبة بفتح مصراع الإجتهاد مع أن النشاط الضروري و العاجل اليوم الذي يفرضه الواقع العربي هو "نقد" العقل المؤسّس لمنظومات المعرفة الإسلامية و نقد الواقع بكل تناقضاته و تشعّباته و قواه الفاعلة. فلا يتعلّق الأمر باجتهاد لا يؤسّس قطيعة معرفية مع وجوهه الماضية و أصوله العريقة و إنما بنقد كتأزيم و "أشكلة" و تفكيك حثيث و متواصل لطبقات الخطاب و رسوبيات الفكر قصد تأسيس نمط فكري مجدّد و متجدّد لا ينفك عن المساءلة و المغامرة. هذا النشاط الفكري الدؤوب من شأنه أن يضمن "حقوق الفكر" (كما نتحدث عن حقوق الإنسان والحيوان) أي حقه في الإختلاف والمساءلة والأشكلة والمقاربة والمناظرة بعيدا عن الوصاية والأستذة. حق الفكر في تعاطي المعرفة النقدية يقتضي عقلا ذا مسؤولية نقدية و ليس مثقفا "عضويا" يكبّل ذهنه و فكره بنزعات إيديولوجية تخدم مصالح فئات و طبقات ولا تراعي "حقوق الفكر". سجن الذهن في مؤسسات الفكر الإيديولوجي و المعنى السلطوي من شأنه أن يخلق طفرات ومهاوي عميقة لا تزال بارزة اليوم في هزال الفكر والثقافة والسياسة الخالقة لكل أنواع "التيراتولوجيا" في الثقافة والأخلاق والهوية. يدعو فكر محمد أركون إلى ممارسة فكرية أو نشاط نقدي حرّ و متحرّر و محرِّر يعطي لحقوق الفكر أبعادها العالمية و يستبدل الواقع الفكري المليء بصور التصنّع و الكليشيهات و الكوكتيل المعرفي المجزّأ و السطحي واقعا نقديا أكثر جرأة ومسايرة للأحداث والوقائع الراهنة.
من جملة ما تعرّض له فكر أركون هو اختلاق فكرة "أسطورية النص المقدّس" كرنين يقع أثره وقعا على المسامع و الأذهان دون تحمّل عناء و مشقة تحديد المصطلحات و المفاهيم و كذا إخفاء الأسس و المنطلقات التي يقوم عليها الخطاب الإسلامي المعاصر و هي إرادات القوّة في سبيل السيطرة التامة و الهيمنة المطلقة. و مثال "أسطورية" النص المقدّس هو أن هذا الخطاب يحجب الإطار المعرفي لهذا المفهوم ليستبدله بواقع التهويل و التدجيل لأنه إذا كان هذا الخطاب يمتنع عن الإلتفات إلى خزائن الفكر النقدي و العقل العلمي فكيف يتسنّى له معرفة أن مفهوم "الأسطورة" بالمعنى الأنثروبولوجي و الفينومينولوجي لا علاقة له بالترّهات و الخرافات و الأباطيل؟ لا تزال هذه الأخيرة تستحوذ الفكر الذي يكتفي بميزان الصحة و الخطأ و المنطقي و اللامنطقي و الصدق و البطلان و كل ما له صلة بالثنائيات الجامدة و المتصلّبة. فالأسطورة كما يعلّمنا الفكر الحديث في المخيال و الرمز و الأساطير تحيل إلى معنى مثالي ذو حمولة رمزية وافرة، فوق-تاريخي و عابر للأحداث. لكنها تتحوّل إلى أساطير سلبية و إيديولوجيات عندما تسيطر التمثلات الفردية و الجماعية و يجد العقل نفسه أسير تصوّرات و تهويمات لا تنفك عن نمط السلطة الممارَسة. لهذا السبب لم يعزل الفكر الأنثروبولوجي المعاصر "إنتاج المعنى" عن "سلطة الهيمنة" (جورج بالاندييه) أو تواطؤ "العنف الرمزي" مع "المقدّس المفارق" (روني جيرار). من هذا المنظور، الطلقة الفاعلة و المحرّكة للأسطورة تسيّر و تدير كل عقل تخطيطي كتابي سواء أكان رمزيا، إستعاريا، شعريا أم مقدّسا. و هو ما تسمّيه الهيرمينوطيقا الكلاسيكية "الهيبونويا" (Hyponoïa) أي المعنى الجوّاني أو الإنبثاق الخلاّق للوغوس الباطني (verbum interius).
فلا يكفي إذن معالجة نص رمزي و استعاري و شاعري (مثل النص "المقدّس") بنزعات تلفيقية أو دفاعية تختفي وراءها مقاصد الهيمنة و القوّة. مثال الأسطورة، كغيره من الأمثلة، يبيّن إلى أيّ حدّ لا يزال العقل الإسلامي في وضعيته البائسة على هامش إرادات المعرفة النقدية و يكرّر نفس الشعارات المطالبة بفتح مصراع الإجتهاد مع أن النشاط الضروري و العاجل اليوم الذي يفرضه الواقع العربي هو "نقد" العقل المؤسّس لمنظومات المعرفة الإسلامية و نقد الواقع بكل تناقضاته و تشعّباته و قواه الفاعلة. فلا يتعلّق الأمر باجتهاد لا يؤسّس قطيعة معرفية مع وجوهه الماضية و أصوله العريقة و إنما بنقد كتأزيم و "أشكلة" و تفكيك حثيث و متواصل لطبقات الخطاب و رسوبيات الفكر قصد تأسيس نمط فكري مجدّد و متجدّد لا ينفك عن المساءلة و المغامرة. هذا النشاط الفكري الدؤوب من شأنه أن يضمن "حقوق الفكر" (كما نتحدث عن حقوق الإنسان والحيوان) أي حقه في الإختلاف والمساءلة والأشكلة والمقاربة والمناظرة بعيدا عن الوصاية والأستذة. حق الفكر في تعاطي المعرفة النقدية يقتضي عقلا ذا مسؤولية نقدية و ليس مثقفا "عضويا" يكبّل ذهنه و فكره بنزعات إيديولوجية تخدم مصالح فئات و طبقات ولا تراعي "حقوق الفكر". سجن الذهن في مؤسسات الفكر الإيديولوجي و المعنى السلطوي من شأنه أن يخلق طفرات ومهاوي عميقة لا تزال بارزة اليوم في هزال الفكر والثقافة والسياسة الخالقة لكل أنواع "التيراتولوجيا" في الثقافة والأخلاق والهوية. يدعو فكر محمد أركون إلى ممارسة فكرية أو نشاط نقدي حرّ و متحرّر و محرِّر يعطي لحقوق الفكر أبعادها العالمية و يستبدل الواقع الفكري المليء بصور التصنّع و الكليشيهات و الكوكتيل المعرفي المجزّأ و السطحي واقعا نقديا أكثر جرأة ومسايرة للأحداث والوقائع الراهنة.
&
مراجع :
محمد أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، باريس، 1984
محمد أركون، الفكر العربي، باريس، المطبوعات الجامعية، 1975
محمد أركون، الإسلام و الدين و المجتمع (بالإشتراك مع م. أروزيو و م. بورمانس)، منشورات سيرف، 1982
محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب : رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة و إسهام هاشم صالح، دار الساقي، بيروت/ لندن، 1995
محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ درا الساقي، بيروت/ لندن، 1995
محمد أركون، من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، 1991
رفيق بوشلاكة، حول "الديمقراطية. تحدّي للفكر الإسلامي" لمحمد أركون. دراسة و نقد أفكار الدكتور محمد أركون، إسلام 21 (المنتدى العالمي من أجل الحوار الإسلامي)، عدد 18، أوت 1999.
هاشم صالح، جولة في فكر محمد أركون. نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي، مجلة "المعرفة"، السنة 18، عدد& 216، شباط 1980، دمشق/ سورية.
علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، 1993
&
باحث جزائري
&







التعليقات