ثائرة على حكم الشعلان، متمردة على سلطة الرشيد، موالية لحكم ابن سعود، تلك هي منطقة الجوف بالسعودية، التي هي اليوم محط أنظار وسائل الإعلام، بعد عملية اغتيال وكيل الإمارة، صبيحة السابع عشر من شباط، فبراير 2003م، وهي العملية الثانية خلال أقل من ستة اشهر، حيثُ سبقتها عملية اغتيال قاضي المنطقة الشيخ عبدالرحمن السحيباني.
&الرصاص الذي أطلق من مجهول، على وكيل الإمارة الدكتور حمد الوردي، وهو متجه إلى عمله الرسمي، في أول يوم عمل، بعد إجازة عيد الأضحى المبارك، فأودى في حياته، يُثير أكثر من علامة استفهام، وذلك عطفاً على أن تعيين الوردي وكيلاً لإمارة منطقة الجوف، قبل أربع سنوات، قد قوبل من قِبل أهالي المنطقة بالكثير من الارتياح والفرحة، فهو أول من تسنّم هذا المنصب من أبناء الجوف، وعُرف عنه إخلاصه في عمله وتفانيه في خدمة منطقته، فما الدوافع وما الأسباب التي دفعت بالجاني إلى عملية اغتياله، هذه الحالة الغريبة على المجتمع السعودي، الذي لم يعتد الاعتداء على مسؤول كبير، بهذه الطريقة .
&"إيلاف" تعرض تقريراً مختصراً عن منطقة الجوف، من الناحية التاريخية والسياسية والاجتماعية، حيثُ يتم تصنيف الجوف، على أنها واحدة من بين ثلاثة عشر منطقة إدارية، تُقسم إليها المملكة العربية السعودية، وتحتل الجوف مساحة شاسعة من شمال المملكة وشمالها الغربي، وتُحدُ من الشرق بإمارة الحدود الشمالية المتاخمة لحدود دولة سوريا، ومن الغرب بإمارة تبوك، ومن الجنوب بإمارة حائل، ومن الشمال بالمملكة الأردنية الهاشمية، ويتبع إمارة منطقة الجوف، وفقاً للتقسيم الإداري الحديث محافظتان، هما دومة الجندل والقريات، بالإضافة إلى عشرات المراكز الإدارية والقرى ومناهل البادية المنتشرة على امتداد وادي السرحان.
&وتُعدُ مدينة "سكاكا" قاعدة إمارة المنطقة، وفيها مقر الحاكم المحلي (أمير المنطقة) ومنها يتمُ الإشراف المباشر على سير أعمال المنطقة، الإدارية والتعليمية والأمنية والصحية وغيرها، وفيها لقي الدكتور الوردي مصرعه .
&تنطوي منطقة الجوف على تاريخ موغل في القدم، وتمتد صحراؤها على عشرات المشاهد الأثارية والكتابات النبطية، الدالة على عمق الاستيطان النبطي فيها، خصوصاً في الفترة النبطية المتأخرة، كما تمتاز المنطقة بما تتوافر عليه من موقع استراتيجي مهم، جعل منها نقطة وصل واتصال للكثير من مواقع القبائل العربية التي استوطنت في شمال الجزيرة العربية، منذُ القدم، إضافة إلى أن "الجوف" منطقة زراعية مهمة على مستوى السعودية، ساعدها في ذلك وفرة المياه وخصوبة التربة واعتدال المناخ، وقد تحدث عن أهميتها الزراعية عدد من الرحالة الأوربيين الذي زاروا المنطقة في فترات مختلفة، وكان من أبرزهم الرحالة أرتشيالد فورد، الذي سجّل انطباعاً جيداً ووصفاً دقيقاً لروعة المساكن وهي تعانق النخيل .
&الوضع السياسي للمنطقة في التاريخ السعودي الحديث ،يشوبه نوعٌ من الغموض، وقد ضُمت إلى رقعة الدولة السعودية الثانية، في عهد الإمام فيصل بن تركي، وبعد تضعضع الحكم السعودي، بعد رحيل الإمام فيصل بن تركي، أصبحت "الجوف" موطن صراع مرير بين آل الرشيد، حكام حائل، وبين آل الشعلان، أمراء قبيلة الرولة، وقد أشار إلى ذلك عدد من المؤرخين منهم حمد الجاسر، الذي ذكر في كتابه (في شمال غرب لجزيرة) أن الجوف أصبحت دولةٌ بين آل الرشيد عندما يقوي حكمهم وبين أمراء البادية من آل الشعلان، عندما يضعف الحكم الرشيدي، ويُشير حمد الجاسر إلى أن قوة نفوذ حكم آل الشعلان، كانت إبان ضعف الحكم السعودي في دولته الثانية، حيثُ استطاع سلطان بن شعلان، مُدعماً من العثمانيين بالاستيلاء على الجوف ووادي السرحان، وقد أشارت إلى ذلك الليدي آن بلنت التي زارت الجوف عام 1879م ويُضيف المؤرخ السعودي سعد بن جنيدل في كتابه (بلاد الجوف) أن هذا الصراع المرير بين آل الرشيد وآل الشعلان، قد ألحق أضراراً جسيمة عمرانية واقتصادية واجتماعية، وأن أهالي الجوف قد عانوا من ذلك الأمرين، على أنها استقرت في الأخير لآل الرشيد، حكام حائل .
&
الجوف في القرن العشرين
&
في كانون الثاني 1902م استطاع الملك عبدالعزيز أن يستعيد الرياض، التي كانت قاعدةً لحكم آبائه وأجداده، وقد جاء هذا الحدث ليقلب موازين القوى في المنطقة، خصوصاً حائل، المنافسة التقليدية للرياض، والتي كانت قُبيل عودة ابن سعود، تضرب بقوس من الحكم الممتد من حلب والبصرة إلى عسير، وكانت "الجوف" خاضعةً لهذا الحكم الرشيدي، إلا أن بزوغ نجم "ابن سعود" في سماء الرياض وهيمنته على المناطق المجاورة لعاصمته الناشئة، ثم إلحاقه لمنطقة القصيم في عام 1904م وهي المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية بين الرياض وحائل، ثم نجاحه الكبير في ضم الاحساء، بما تمثله من أهمية اقتصادية كبرى، كل هذه الأمور جعلته يتطلع لضم منطقة حائل، وإلحاقها بقاعدة حكمه "الرياض".
&ساء الوضع الإداري في حائل، نتيجة الصراع بين أبناء آل الرشيد على السلطة، ونتيجةً لهذا الصراع ولانشغال حائل، بابن سعود، فقد استطاع النوري بن شعلان، من استغلال الفرصة والتقدم إلى الجوف، والتمكن منها، وضمها إلى إمارة الشعلان، إلا أن أهالي الجوف ثاروا على سلطة ابن شعلان، وقتلوا منصوبه على الجوف عامر المشورب، وكان قتلهُ بيد رجا بن مويشير، أحد أعيان الجوف ورجالاتها، والذي استنجد بالأمير سعود الرشيد، بعد أن علم بتقدم النوري بن شعلان، باتجاه الجوف، والتقى الجيشان في سكاكا، وبعد صراع طويل، عادت الجوف إلى حكم الرشيد، وهُزم النوري وعاد أدراجه إلى "دمشق" حيثُ مقر إقامته .
&لم تدم سيطرة آل الرشيد طويلاً على منطقة الجوف، إذ سرعان ما لقي الأمير سعود الرشيد مصرعه، على يد ابن عمه عبدالله بن طلال الرشيد، وذلك في عام 1920م وكان لهذا لحدث أثره على الجهاز الخارجي للإمارة، حسب قول الدكتورة مضاوي الرشيد، فاستغل النوري بن شعلان الفرصة، مرة ثانية وأرسل حفيده سلطان بن نواف الشعلان، الذي سيطر على الجوف دون مقامة تذكر، كما يقول فلبي، إلا أن فلبي أشار وهو الموجود في الجوف آنذاك، وشاهد العيان، أن رجا بن مويشير وبعض أهالي الجوف، أعلنوا التمرد على سلطة الشعلان، وأغلقوا على أنفسهم حصونهم المنيعة غربي سكاكا، وأرسلوا وفداً برئاسة حمد بن مويشير إلى الملك عبدالعزيز يعلنون فيه رغبتهم بالانضمام إلى حكمه، والدخول تحت سلطته.
&يقول فلبي أن بن مويشير قد رفع مستوى التمرد باسم ابن سعود والعقيدة الوهابية، وأغلق على نفسه وأتباعه جدران بساتينه في غربي سكاكا، ويضيف فلبي أن المتمردين اليائسين قد أرسلوا وفداً لابن سعود، لطلب مساعدته، وقد أشار فلبي إلى أن أهالي الجوف يمتازون بصعوبة المراس .
&بعد سقوط حائل في أيدي الجيش السعودي، أرسل الملك عبدالعزيز، وفداً برئاسة عساف الحسين إلى الجوف، ويُعد الحسين أول أمير على الجوف من قِبل الملك عبدالعزيز، وذلك في يوليو(تموز) 1922م وفقاً لما أشار إليه فلبي، الذي يقول (بدون خجل أو رياء يمكننا الاعتراف بفرحتنا عندما علمنا أنه خلال شهر من مغادرتنا الجوف تم سقوط هذه العائلة على يد ابن سعود، لقد كانوا كحكام ممقوتين من شعبهم الذي عاملوه بقسوة وغطرسة، ومن خلال تجربتنا الشخصية نستطيع إثبات عدم كفاءتهم) .
&ولم يهدأ أمر الجوف، حتى بعد انضمامها لسلطة ابن سعود، إذ رغِب الأمير عبدالله بن الحسين، أمير شرق الأردن، بسلخها من حكم ابن سعود وضمها إلى إمارته ! ويُشير المؤرخ السعودي فؤاد حمزة إلى أن عبدالله بن الحسين قد فاوض النوري بن شعلان في ضم الجوف إلى إمارته، ويذكر خير الدين الزركلي في تاريخه أن اتفاقاً قد تم بين المستر تشرشل وزير الخارجية البريطاني والأمير عبدالله بن الحسين، على تسميته أميراً لشرق الأردن، ومحاولة سلخ الجوف وإلحاقها بإمارة الأردن، وقد أوعز عبدالله بن الحسين إلى مندوبه في مؤتمر الكويت لبحث هذا الموضوع كما يذكر الزركلي والعثيمين، إلا أن مندوب ابن سعود في المؤتمر، رفض هذا الطلب بحجة أن الأهالي في الجوف، قد أعلنوا رغبتهم بالانضمام إلى حكم ابن سعود .
&
الوضع الاجتماعي لسكاكا الجوف
&
تنقسم مدينة سكاكا بالجوف إلى قسمين رئيسين، هما: المعاقلة والقرشة، ويتنازعان السيادة فيها، منذُ أمدٍ بعيد، وربما أن هذا الانقسام ساهم بشكلٍ أو بآخر في زيادة حدّة التوتر بين الأهالي، ويقوم هذا التقسيم على أساس جغرافي ومصالح مشتركة، بعيداً عن أية عوامل أخرى، كالقبيلة مثلاً، إذ أن المعاقلة والقرشة حيّان كبيران يتقاسمان سكاكا، وينضوي تحت كل اسم، عدد من الأسر، ومع عملية التمدن التي شهدتها السعودية، استوطنت عدد من قبائل الشمال في الجوف، تاركةً حياة التنقل والترحال إلى غير رجعة، مما ساهم في زيادة سكان المنطقة، الذي يبلغ حتى كتابة هذا التقرير مائتين وخمسين ألف نسمة، منهم مائة ألف في مدينة سكاكا وحدها .
&تولى إمارة منطقة الجوف، عدد من رجالات أسرة السديري، أبرزهم الأمير عبدالرحمن السديري الذي تولاها أكثر من خمسين عاماً، ثم ابنه سلطان، الذي أقيل من منصبه عام 1998م وتم تعيين الأمير عبدالإله بن عبدالعزيز، بديلاً له، كأول أمير من أبناء الأسرة المالكة يتولى إمارة الجوف .
&إلى ذلك يُشار إلى أن منطقة الجوف، حظيت بمؤلف فريد من نوعه، قدّمه أحد أبنائها الباحثين المنشغلين بعملية التحديث والتنمية العربية، وهو الدكتور متروك الفالح، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود، حيثُ تتبع في كتابه ( سكاكا الجوف في نهاية القرن العشرين) مسألة التحديث وأبعاد التنمية وتحولاتها وخاصة في إطار التنمية المحلية في سكاكا الجوف، وهي دراسة، كما أشار الفالح، لست موجهة للمنطقة وأهليها فحسب، بل تتعداهم إلى المعنيين بشؤون التحديث والتنمية وتحولات النخبة داخل الدولة، وتناول في كتابه الصادر عن دار بيسان ببيروت، الاختلاف بين المناطق السعودية في مسائل التنمية وعناصرها وإنجازاتها، إنها دراسة نقدية لفترة تاريخية من تاريخ منطقة الجوف، وإدارة الحكم المحلي فيها، فيما يخصُ التنمية من حيث الإنجازات والقصور والمعوقات وتحديد المسؤولية، وقد قسمها إلى أربعة فصول، تضمنت عدد من المباحث كالتعليم والطرق والمواصلات والزراعة والصناعة والخدمات البلدية والخدمات الصحية والطاقة والكهرباء، ثم أفرد فصلاً كاملاً لتقويم التنمية في سكاكا الجوف خلال نصف قرن على ضوء الإدارة السابقة للحكم المحلي في الجوف (إمارة السديري) وأشار إلى تردي الوضع الصحي في المنطقة، منوهاً بتصريح الأمير عبدالإله، الذي أدلى به بعد تفقده مستشفى سكاكا العام، حينما قال أن وضع مستشفى سكاكا ذكّره بوضع مستشفى بريدة قبل عقدين من الزمن!! مُشيراً الفالح في كتابه إلى أن الجانب التنموي لدى الإدارة السابقة مفقود كليةً أو مغيّب، وقال "إنها إدارة الأمن وليس التنمية" وأشار إلى أنها طيلة خمسة عقود، قد غلب عليها التوجه نحو إدارة المنطقة بالإخضاع وليس بالتنمية، بما يحقق رضى الناس والتفافهم حول دولتهم، وأشار الفالح إلى أنها إدارة مغلقة ولا يوجد لها فريد بين الإدارات المحلية بالسعودية، حيثُ تنظر، حسب قول الدكتور الفالح، في كتابه ص149 إلى المواطن من زوايا الشك والريبة في مواطنته وتوجهاته، ثم أفرد الباحثُ فصلاً كاملاً عن آفاق التنمية وإداراتها على ضوء الإدارة المحلية الجديدة (إمارة الأمير عبدالإله) التي تولت الأمر في سبتمبر أيلول 1998م والتي يعتبرها الفالح بداية عهد جديد تشهده المنطقة، قائلاً ( ليس غريباً على الأهالي أن يقدموا كل مظاهر الفرح والابتهاج بمقدم صاحب السمو لملكي الأمير عبدالإله بن عبدالعزيز، فرحة به باعتباره أولاً يمثل الامتداد الطبيعي والحقيقي للدولة والسلطة السعودية، في ماضيها وحاضرها ومعها في موازناتها، كما أنه ثانياً وفي إطار توجهاته المعاصرة والخبرة في الحكم والإمارة والتي تنطلق من نظره نحو تنمية الإنسان وإطلاق إمكاناته وقدراته للعمل، وكذلك ثالثاً بما يمثله من أمل حقيقي في تحقيق التنمية المفقودة على خلفية "تخلف التنمية" ).
&
الجدير بالذكر أن الأمير عبدالإله بن عبدالعزيز، قد أدلى بتصريح مطوّل لصحيفة الرياض الصادرة بالرياض، بتاريخ 03/05/1999م حال توليه إمارة منطقة الجوف، ذكر فيه أن المنطقة مقدمة على خير كثير، وما على المواطن فيها إلا الصبر، وأشار سموه إلى أهمية تخطيط مدينة سكاكا، وإنشاء هيئة عليا لتطوير المنطقة وقال( لن أتولى هذا الأمر لوحدي فسيكون هناك خبراء في هذا الشأن إضافة إلى عدد من أبناء المنطقة من أصحاب الخبرة ومن المتعلمين هنا وفي جامعات المملكة لتحديد معالم هذا التخطيط الذي سيخضع للنظريات العلمية والمستقبلية, والمنطقة فاتها الكثير ولكن ذلك سيكون فرصة للتخطيط المدروس لنسير مع الاتجاه الذي تنهجه البلاد الآن من ناحية التخصيص وفتح المجال أمام المواطن للعمل والاستثمار في مجال الصناعات البسيطة التي يستفيد بها الشباب.. لذا ستكون دراساتنا ومشروعاتنا القادمة متزنة ومواكبة للتطور فهناك الكثير من المشروعات في المملكة التي أنشئت ومن الصعب تغييرها الآن بالشكل الذي يواكب التوجهات ولكن في الجوف سنعمل على البدء في تنفيذ خططنا في ظل ما يعيشه العالم الآن من توجه للتجارة العالمية وستكون الجوف أول منطقة تبني مشروعاتها وفق التوجهات العالمية التي ستعود بإذن الله بالفائدة على المنطقة، وأشار سموه إلى أنه غير راضٍ عن وضع المنطقة، قائلاً: بالتأكيد غير راض فخذ مثلا بلدية سكاكا فمن يقوم بجولة في هذه المدينة ويتابع أعمال البلدية يعتقد بأنه خارج المملكة وبالتأكيد هذا لا يرضي أحدا وما أود قوله هو أن المنطقة مقبلة بحول الله على خير ولكن الصبر فالمشروعات لا تظهر بين يوم وليلة والدراسات والإنشاءات تحتاج الى الوقت وما نقوم به من عمل الآن سيكون لكل الأجيال بإذن الله ) .