الحلقة الأولى
&
إيلاف: في شمالي هضبة نجد السعودية، حيثُ الزلفي، يُطأطأ جبل طويق الشهير هامته، لتعلوه رمال الثويرات، في مشهدٍ جغرافي أثار انتباه الكثيرين، وقد عُرف ذلك الموضع بـ "جزرة" لإنجزار الجبل، وعناقه مع الرمل، ذاك المشهد أوقف شعراء وكتاب، ما كان أولهم جرير، ولن يكون آخرهم محيي الدين اللاذقاني، طالما أن ذرات الرمل ما زالت تتغلغل في مسامات الروح والجسد!
&&قُبيل ذاك المشهد، وفي سهلٍ فسيحٍ ما بين النفود والجبل، تقبع مدينة الزلفي، التي يعودُ تأسيسها إلى ماقبل ثلاثمائة سنة، وتنطوي على تاريخٍ ليس فيه ما يستحق أن يذكر، سوى أنها لم تستجب -بدايةً- لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، بل إنها تمردت عليه، وشاكسته واحتضنت أخاه سليمان، الثائر على الدعوة الإصلاحية! ثم عادت لتقديم الولاء والطاعة للإمام عبدالعزيز بن محمد.
في أحد أحيائها العتيقة، وتحت ظلال جامعها الكبير، وفي بيتٍ من بيوتاتها العريقة، وفي نهاية العقد الأول، من القرن العشرين الميلادي، كان لها موعد مع مولد أحد أبرز أبنائها النابهين، الشيخ عبدالله الطريقي، الذي ولد على مسافة 100 كم شرقاً، من "خب الحلوة" مسقط رأس المفكر السعودي الثائر عبدالله القصيمي! الذي لم يتردّد -لاحقاً- من إبداء رأيه في الطريقي، حينما عدّه منجز حضاري!
ربما أن مولد الطريقي، في موضعٍ متوسطٍ لما بين النفود والجبل، جاء ليكون رمزاً ومسعى للتصالح والتوازن، فيما بين الرمل والصخر، ثم رمزاً ومسعى للتصالح والتوازن فيما بين شركات النفط وحكومة بلاده، وعلى الرغم من أن الطريقي، قد ولِد بين صخورٍ من الجبل، وذراتٍ من الرمل الناعم، فإنه قد ودّع تلك الرمال، منذُ صباه ليكون له موعد وقدر، مع صخور الجبل، حينما شقّ طريقه في الحياة، متخصصاً في علم الأرض، باحثاً في ما تختزنه طبقاتها، قائداً لفريق من العمل يُشرف على شركةٍ غربية تغترفُ السائل من باطن الأرض، مجادلاً ومناقشاً لها انطلاقاً من همٍ وطني صادق، ورغبة جامحة في سيادة بلاده على مواردها وثرواتها، ليتم تتويج جهوده وعطاءاته وفكره وشعوره الوطني الصادق، بتسميته وزيراً للنفط والثروة المعدنية، كأول وزيرٍ للنفط، في أكبر دولة منتجةٍ للنفط في العالم.
&في سبتمبر أيلول 2002م، حلّت الذكر ى الخامسة على رحيله، وفي هذه المناسبة تعرض "إيلاف" هذا الملف الوثائقي، عن سيرة ومسيرة الطريقي، من مولده بالزلفي وحتى دفنه في مقابر النسيم بالرياض، مروراً بوفاته في قاهرة المعز، التي اتخذ منها موطناً للإقامة في سنواته الأخيرة، وكان المقرّر أن يُعرض هذا التقرير في حينه، إلا أنّ ظروفاً فنية حالت دون عرضه، ويأتي عرض هذا الملف وغيره، إيماناً من "إيلاف" بأهمية تقديم رجالات الوطن العربي، وما حقّقوه من منجرات، ليطلع الجيل الناهض على مسبرة الرواد، فإلى الحلقة الأولى من هذا الملف.

&
المولد والنشأة:
&ولد عبدالله بن حمود بن عبدالرحمن الطريقي، بمدينة الزلفي، وكان مولده في بيتٍ من بيوتات الزلفي العريقة، بيت خؤولته "آل عبدالكريم" الكائن إلى الشمال من جامع الزلفي الكبير، وإذا كان الشائع أنه من مواليد عام 1918م الموافق 1337هـ، حسبَ ما يُصرح به نفسُه، إلا أن الشيخ حمد الجاسر يستدرك في مجلة العرب، السنة 33 مُشككاً في تاريخ مولد الطريقي، وذلك أن المرء يميل دائماً إلى تصغير سني عمره، ويرى الشيخ حمد الجاسر أن الطريقي قد ولد قبل هذا التاريخ بثمانية أعوام على الأقل، وحجة الشيخ حمد في ذلك أن الطريقي قد اُبتعث إلى القاهرة ضمن أول دفعة غادرت البلاد السعودية في عام 1346هـ، ومن غير الممكن أن يكون، حسب قول الجاسر، من بين تلك البعثة المختارة من قبل ديوان الملك عبدالعزيز، مَن هو بمثل تلك السن، ويرى الجاسر أنه عند ابتعاثه قد بلغ سن البلوغ، من أمثال زملائه في البعثة، عبدالعزيز بن معمر، ويوسف الهاجري، ومهنا المعيبد، وعلى هذا يكون مولد الطريقي في عام 1910م وهو الأقرب للصواب .
&وعبدالله الطريقي، هو أحد أبناء أسرة "الطريقي" التي قدم جدها الأعلى من جنوب المملكة، حيثُ وادي الدواسر، قبل أكثر من قرنين من الزمان، واستوطنت الزلفي، وتفرّق أبناؤها في السعودية والخليج.
&درس الطريقي القرآن الكريم، في الجامع الكبير بالزلفي، على يد مطوع الزلفي الشهير، الشيخ محمد بن عمر، الذي لم يتردد مراراً من إبداء إعجابه الكبير بهذا الفتى النابه، ووفقاً لرواية الأستاذ عبدالمحسن بن عبدالله الطريقي لـ"إيلاف" فإن المطوع ابن عمر، قد توقع أن يكون له شأناً كبيراً، ويذكر زملاؤه في الكتاتيب، أنهم في الوقت الذي كانوا لا يستطيعون قراءة الكلمة المكتوبة على اللوح!& كان المطوع ابن عمر يقوم بكتابة الكلمة بيده في الهواء، ثم يقرأوها الطريقي بسرعة مذهلة، وبالفعل صدق ظنُ ابن عمر في تلميذه، فعند وفاة المعلم عام 1968م كان التلميذ قد ترك الوزارة النفطية، ليعمل مستشاراً نفطياً في أكثر من دولة عربية منتجةٍ للنفط والغاز الطبيعي! وهذه المعلومات عن طفولة الطريقي، تنشر لأول مرة.
&انتقل الطريقي في طفولته إلى الكويت، شأنه في ذلك شأن أترابه من أبناء بلدته الذين يسافرون إلى الكويت، وليس غريباً على الطريقي، أن يتجه إلى الكويت، ذلك أن هناك جسراً اقتصادياً ممتداً بين الزلفي والكويت، منذُ قرنين من الزمان، انتظمت فيه سلسلة من القوافل التجارية، وتعانقت فيه رقاب الإبل العربية الأصيلة، أضف إلى ذلك وجود صلات اجتماعية كبرى، نظراً لأن هناك أسراً استوطنت الكويت منذُ أمدٍ، تعود في أصولها إلى الزلفي، بما في ذلك أسرة "الطريقي" وقد عُرف أهل الزلفي بالشدّ والمدّ، والترحال وكانت وجهتهم في الغالب، الكويت، بينما وجهة أهل القصيم بلاد الشام وأهل سدير بلاد الرافدين، خصوصاً بلد "الزبير" .
&كان سفر الطريقي إلى الكويت، مع والده في عام 1924م ومكث بها سنوات، تعلّم فيها ودرس مرحلته الابتدائية، في إحدى مدارسها، ثم غادر الكويت مع والده إلى الهند، حسب قول حمد الجاسر، وهناك يتعرف على شيخ تجار العرب في الهند الشيخ محمد الفوزان، الذي يتوسط له في ضمّه للبعثة السعودية، التي اقترحها الفوزان نفسه! وكان "الطريقي" قد تعلّم الحساب واللغة الإنجليزية في الهند، على أن روبرت ليسي يذكر أن الشيخ عبدالله السليمان، وزير المالية، هو الذي أوصى بابتعاث الطريقي إلى القاهرة .
&يبدو أن الطريقي، بعد عودته من الهند وقبل ابتعاثه إلى القاهرة، مرّ بالرياض وقابل الملك عبدالعزيز، ولم يُشر أحد من الذين تناولوا الطريقي إلى هذا، سوى أننا نستنتج ذلك، مما ذكره روبرت ليسي، وهو يتحدث عن صراحة الطريقي، عندما وقف وهو صبياً، في مجلس الملك عبدالعزيز، طارحاً مقترحه في جعل "مكة المكرمة" مدينة مستقلة، تدار من قبل هيئة تمثل المسلمين من كافة أنحاء العالم، كفاتيكان إسلامية داخل الدولة السعودية، ويذكر ليسي أنّ هذا الموقف وهذه الصراحة من الطريقي، لم تثن أو تعمل على تثبيط عزم عبدالله السليمان، وزير المالية، الذي بادر على الفور بإرسال الشاب في بعثة تعليمية إلى القاهرة .
&وما من شك في أن هذه الدعوة من شابٍ بمثل سن الطريقي، دليلٌ على أنه قد اطّلع في وقتٍ مبكر، على كتابات عددٍ من دعاة الفكرة العربية، وتأثر بما كانوا يكتبونه، من أمثال الكاتب اللبناني نجيب عازوري، مؤسس جامعة الوطن العربي في مطلع القرن العشرين، ومؤسس مجلة الاستقلال العربي، في سنة 1904م والداعي إلى نشر الوعي القومي، والمؤيد للثورة العربية الكبرى، ومؤلف كتاب "يقضة الأمة العربية" وكذلك كتابات الكاتب اللبناني جورج انطونيس، وقد ظل الهاجس القومي العربي، مهيمناً على فكر الطريقي، وقد أشار إلى ذلك عددٌ من الكتاب الذي تحدثوا عنه بعد رحيله.