تنشر إيلاف تحقيقا في عدة حلقات يتناول سيرة الشيخ عبدالله الطريقي الذي لعب دورا كبيرا في التحديث السعودي ما جعل عبدالله القصيمي ان يعتبره منجزا حضاريا. هنا الحلقة الخامسة

إيلاف- محمد السيف: في عام 1372هـ الموافق 1953م أصدر الشيخ حمد الجاسر، مجلة اليمامة، كأول مجلة في المنطقة الوسطى (نجد) في المملكة العربية السعودية، وفي عددها الثاني عشر الصادر في ذي القعدة 1373هـ، يوليو (تموز) 1954م كتب الشيخ عبدالله الطريقي، أول مقالة له، بعنوان "إلى أين نحن مسوقون؟"
الشيخ حمد الجاسر
وهي كلمة موجهة لخريجي الجامعات والمعاهد العليا، وقد خلقت المقالة ضجةً كبيرة، وكادت تُغلق صحيفة اليمامة بسببها، وقد ذكر الشيخ حمد الجاسر أن هذه المقالة هي التي أحرجته كثيراً، على طول مسيرته الصحافية، وكتب الجاسر في مجلة العرب، السنة السابعة عشرة، 1983م متناولاً هذه المقالة، حيثُ ذكر أن هذه المقالة كادت تودي بحياة المجلة، لولا الاعتذار والتعهد بعدم التعرض بالنقد لأي عملٍ من أعمال الدولة بصفةٍ عامة، ومما يجدر ذكره أن صحيفة "أخبار الظهران" التي أصدرها الشيخ عبدالكريم الجهيمان، كأول صحيفة بالمنطقة الشرقية، أغلقت نهائياً عام1376هـ، 1957م، وكان ذلك بسبب مقالةٍ كتبها الجهيمان، نفسه، بتوقيع محمد عبدالله، طالب فيها بتعليم الفتاة السعودية!
تنشر "إيلاف" هنا نص المقالة التي كتبها الشيخ عبدالله الطريقي، وذلك نقلاً من مصدرها الأصلي، مجلة اليمامة:
&
عزيزي الخريج:
في الأسطر التالية سأتحدث إليك حديث الزميل الذي مرّ على الأطوار التي تمرُ بها الآن، والتي ستمرُ بها في المستقبل، وسأكون صريحاً معك إلى أبعد الحدود، ولك مطلق الخيار في الاستماع لي، وفي تصحيح ما أكونُ قد خالفت فيه الصواب، ولكن المهم أن نصلَ إلى الحقيقة، وإلى العلاج الناجح لما نحنُ به من مشكلاتٍ وطنية واجتماعية وأخلاقية .
بعد أن حصلتُ على ما أُتفق على تسميته بشهادة الجدارة والمعرفة، وهي ورقة تحصل عليها- كما تعرف- من الجامعة أو المعهد العلمي، حضرتُ إلى وطني أحملها، وكنتُ أتخيل بعدما قضيتُ الليالي ساهراً، والبطن خاوياً، أنني سأجدُ من مواطني التقدير والتكريم، وستفتح لي الأبواب، وسأوضع في المكان الذي تخيلته لائقاً بكفاءتي وعلمي، وهو مكان الصدارة بالطبع، وجدتُ أنني كنتُ ويا للأسف قد تعلمتُ أشياء وفاتتني أشياءُ أخرى، وجدتُ نفسي مملوءةً سذاجةً، وبعيدةً كل البعد عن واقع الحياة، ووجدتُ بيني وبين مواطني هوةً سحيقة، لا أتجرأ على النظر إلى عمقها، نعم ياصديقي، أغلقت الأبوابُ في وجهي، وكانت صدمةً شديدة يُمكنك أن تتخيلها بدون أن أشرح العوامل النفسية التي كنتُ فريستها، ووجدتُ الجميع ينظرون إليّ نظرةَ عطفٍ وسخرية، فهم يرون فيّ شاباً مغروراً، يعيشُ في الخيال، جسمه معهم وروحه وخياله في مكانٍ آخر، يسيرُ معهم ويعيش بعقلية أجنبية غريبة عنهم، يتحدث عن الوطنية والإخلاص والتضحية، بينما هم يتحدثون عمّا جمع فلان، وعمّا كسب فلان، وكيف تقدم فلان، وكيف حصل فلان على شرهةٍ أو سيارة أو قاعدة سنوية، بينما أنا أتحدثُ عن نظرياتٍ لايفهمونها، وأصبرُ على إقناعهم بما هم به كافرون، حتى ملّوا مجلسي، وأخذ الطيبون منهم ينصحونني بالإقلاع عن سذاجتي، والذهاب إلى باب فلان، وتملق فلان، والإقعاء تحت مقعد فلان، وأن أطلبُ من فلان كذا، ومن علان كذا، وألا أقاطع الجميع، وأن أمرّ للسلام والتحية وتقبيل أيادي الكبار والصغار، وأن أظهر بمظهر المتواضع، والعبد الذليل، لرئيسي المباشر، ولخدم رئيسي المباشر، ولعبيد رئيسي المباشر، وأن أتعلم الصبرَ على الجلوس (إذا ما لم يسمح لي بالتشرف بالمثول) خارج باب فلان الساعات الطوال، بدون تذمر، بل يجب أن أتعلم كيف ابتسم، وكيف أذل النفسَ وأعلمها الصبرَ على ما تكره، حتى أُحصّل رضا الجميع من الرجال، ومن أشباه الرجال من الكرام، وممن ليس بينهم وبين كرم الخلق أي نسب، وما دام المجال مجال صراحة، فقد مرت بي أوقات كنتُ أبكي فيها لعدم استطاعتي العمل بنصيحة المخلصين من أصدقائي، وقد حاولتُ إقناع نفسي المتكبرة المتغطرسة كما يسمونها، بالانصياع لما يقولون، وما ضرّها لو أنها تنازلت من عليائها وعملت بنصيحتهم، لعل الحال يتغيّر، والأبواب تفتح والشفاه تجود بابتسامة، ولكنها أبت وأخذت تكرر قول الشاعر:
خُلقتُ عيوفاً لا أرى لابن حرةٍ
عليّ يداً أغضي لها حين يغضبُ !!
وهكذا ياصديقي مرت بي الأيام والسنون، وأنا أرى خلالها الصغار يكبرون، ويتنفذون، وأرى أفكاري يتبناها الآخرون، وأرى الفضلَ يذهب لغير أهله، واستمر الأصدقاء يرثون لحالي، والمنافسون يسخرون من عقليتي المتحجرة، ونفسي المتغطرسة، وأصبحتُ ارتفع يوماً لأهبطَ في اليوم الآخر، فإذا ما أريد شيئاً يتعلق بعملي قُربت، وإذا ما انتهى الأمر أُبعدتُ، وكنتُ لا أستطيع الوصول إلى الجهات العليا ومن يهمها المصلحة الحقيقية للوطن، لأن المنافقين والمتنفذين من الصغار ومن الكبار، كلمتهم مسموعة لدى المقامات العليا، ونحن ما نحنُ إلا أناسٍ متعلمون متغطرسون، لنا أفكار غريبة، ونظريات في الحياة مكروهة، وخطرة على بيئتنا الطاهرة المؤمنة الموحدة، لقد حاربونا ياصديقي واستعملوا كل سلاح كما سيحاربونك ويستعملون كل سلاحٍ للحيلولة دونك ودون هدفك.
&لو أنني كنتُ أقل إيماناً برسالتي في الحياة، لتحطمتُ منذُ زمنٍ بعيد، وجاريت الموضع، وسرتُ مع الركب، ولكن ماهي رسالتي التي اعتقدُ أنها رسالتك ورسالة كل مخلص وطني، يحمل لهذه البلاد، ذكرى مُنشئ هذه البلاد، ووارث عرش هذه البلاد، الإخلاص والتضحية والتفاني، ويهمه أولاً وقبل كل شيء المحافظة على دولةٍ طالما انتظر التاريخ قيامها، فلنتحدث الآن عن ماضينا وحاضرنا.
&منذُ نصف قرنٍ، كنا مستعمرين للأتراك حيناً، أو قبائل متفرقة يغزو وينهب ويسلب بعضها بعضاً، حتى طلعت شمس من الشرق غير الشمس التي تطلع كل يوم فوحدتنا، ولمت شملنا وجعلت منا أمةً واحدة، وأصبح معظم شبه الجزيرة موحداً تحت راية واحدة، ومن ثمّ أنعم الله علينا بثروة نحنُ بأشد الحاجة إليها، وهكذا لم يصبح لنا عذر، فبلادنا غنية بمواردها، يشملها السلام والأمن والطمأنينة، فالتاريخُ ينتظر منا- وقد وفر الله لنا كل عوامل النجاح- أن نعمل شيئاً يليق بتاريخنا التالد، فهل نحنُ يا ترى كفؤ لحمل العبء الملقى على عاتقنا؟ يا صديقي هنا تأتي رسالة الأجيال القادمة التي مهمتك تمهيد السبل أمامها، أنت-ياصديقي المتخرج- أمل هذه الأمة وثروتها الحقيقية، أنت وزملاؤك من الرعيل الأول، الأمل المرتقب لتثبيت أركان هذه المملكة التي يهمنا جميعاً المحافظة عليها، وتوطيد أركانها، فهي قلب العروبة والإسلام، وبقوتها تقوى العروبة، ويرتفع شأن الإسلام، وقد أختارك الله وزملاءك لأن تكونوا من الأوائل، والأوائل هم أسس النهضة في كل أمة، فهل ياترى ستحمل العبء وترفع الراية؟ إن الظروف المحيطة بنا لاتشجع كثيراً، ولكن الطريق أمامنا متسع، ولو أنه شاق وعر، ورسالتنا ليست بالسهلة، ولكن باستعمالنا الحكمة والتبصر في الأمور والابتسام للشدائد، والتعاون والتعاضد والسير صفاً واحداً، نحو الهدف الأسمى، سنصل ياصديقي وسنرفع شأن وطننا، وسنرتفع عن الصغائر إذا ما وضعنا نصب أعيينا خدمة وطننا ومواطنينا، ورفع مستوى الفقير، ومعالجة المريض، والأخذ بيد الضعيف، وتعليم الأمي، وكل هذا لا يتمُ إلا إذا كنا أمناء على رسالتنا أقوياء الأخلاق، لدينا الكثير من التضحية مؤمنين بالله وبمصلحة الوطن العليا، فياصديقي: المستقبلُ لنا، والله مؤيدنا، فعليك بالصبر الجميل والتفكير المستقيم، ولا تجعل لعواطفك عليك سبيلاً، واستعمل عقلك وعلمك في كل تصرفاتك، وأعلم أن الوطن ينتظر إنتاجاً لا عواطف، وأن بناة الوطن يجب أن يكونوا أصلب من الصلب، ولا يكونوا طلاب وظائف وغنى سريع، وعلى الله فليتوكل المتوكلون، وإلى العدد القادم إن شاء الله .
الظهران / أبوصخر
&

الشيخ عبدالله الطريقي
&
ملاحظة
كنا قد أشرنا في الحلقة الأولى من هذا الملف، إلى أن عبدالله الطريقي، قد سافر إلى الهند والتقى هناك بشيخ التجار العرب، وقد ذكرنا اسمه (محمد الفوزان) حسبما أورده الشيخ حمد الجاسر.
وقد تلقينا في "إيلاف" تعقيباً من المثقف السعودي الباحث محمد القشعمي، ذكر فيه، بأن الاسم الصحيح هو : عبدالله بن محمد الفوزان، وليس كما ورد عند الشيخ الجاسر، وأضاف القشعمي بأن الفوزان، من مواليد مدينة عنيزة (وسط نجد) وقد سافر إلى الهند، وعمل ممثلاً للملك عبدالعزيز هناك، وأنه بعد تحسّن الأوضاع، وضم الحجاز لدولة الملك عبدالعزيز، طلب منه الشيخ عبدالله السليمان، وزير المالية، زيارة المملكة وأن يقوم بأداء الحج، وزيارة عنيزة، ففعل الحج ثم سار إلى عنيزة، ولما قرُب منها، وهو في وادي الرمة، تمالكه شعور غريب، لم يستطع معه دخول عنيزة! فقفل راجعاً إلى الحجاز ثم ركب البحر إلى الهند، وتوفي هناك 1960م وقد أحتشد في وفاته آلاف المشيعين من مختلف الديانات .
وأضاف القشعمي، الذي طرح عدداً من الدراسات عن الممثلين الدبلوماسيين للملك عبدالعزيز، أن من أبناء عبدالله الفوزان، السيد يوسف الفوزان، الذي يُعدُ أول قنصل سعودي في بومبي بالهند، وحينما زار الرئيس الهندي نهرو المملكة، اقترح على الملك فيصل ممازحاً، أن تتنازل السعودية عن السيد يوسف الفوزان، بحجة أنه من مواليد الهند، في القوت الذي تتنازل فيه الهند عن وزير الثقافة الهندي أبو الكلام آزاد، الذي هو من مواليد مكة المكرمة!
&
&
الحلقة الثانية:
&&
الحلقة الثالثة:
&
الحلقة الرابعة