طلال معلا
&
فتح انكيدو فمه قائلاً لجلجامش:
«دعنا يا صديقي لا نهبط الغابة فقد شلت البوابة يدي عند فتحها» ففتح جلجامش فمه قائلاً لإنكيدو: «لماذا تتحدث يا صديقي كإنسان ضعيف؟
دعنا نهبط معاً، إنس الموت، من يمض في المقدمة يحفظ صاحبه، يحم صديقه، فإذا سقطا حفرا لنفسيهما اسماً خالداً».


«لولادة الصورة علاقة وطيدة بالموت، لكن اذا كانت الصورة العتيقة تنبثق من القبور، فذلك رفضاً منها ـ لك، كلما انمحى الموت من الحياة الاجتماعية كلما غدت الصورة اقل حيوية وكلما غدت معها حاجتنا للصور اقل مصيرية».
بهذه العبارة يستهل ريجيس دوبريه الفصل الأول من كتابه حياة الصورة وموتها وهو يتحدث عن جماح المخيلة التشكيلية الانسانية في سعيها لتوليد الصور باعتبارها كنزاً من كنوز المخيلة الانسانية المفعمة بالارواح، معتبراً ان الموت بمثل ما يعرفه باشلار «الموت هو اولاً وقبل كل شيء صورة، وسيظل كذلك صورة».
وبغض النظر عن مناقشة تفاصيل هذه القضية الا ان صلة مباشرة بين الفنون البصرية والموت مازالت تتمثل في عطاءات المبدعين وفق العقائد والافكار والانتماءات المختلفة ممجدة قلق الانسان وسعيه إلى الخلود. ولعل الحروب واوزارها وخرابها تطرح إلى جانب اهدارها للطاقة الانسانية المبدعة اسئلة بليغة عن المجد متمثلة في الصور التي ينجزها عمر الانسان على الارض التي هي عمر ابداعه وابتكاراته.
هذه الايام تنسلخ الحياة عن هدوئها المعتاد لتتقدم الحرب على معاني السلم وتتكرر بذلك انسحابات الخيال من الدعوة إلى الحياة إلى ما يحقق التفاعل الحقيقي مع هذه الحياة من جهة ويبرز المتغيرات التي تطال الموقف منها عبر المشهد الجنائزي الذي يعزز موقف المبدع من قضية وانعكاسها على ذاته، واذا كانت الحاجة بداية في دفع الآمال بالاستقرار فإن الآلام والصرخات لم تغب عن الاعمال الفنية المنجزة خلال القرن الماضي وبخاصة ما يتعلق منها بانجازات الفن التشكيلي العراقي المعاصر الذي مثل للحياة بمقدار ما مثل للموت فكان لكل مبدع طريقته واسلوبه ورموزه مما انعكس على القيمة الدرامية التي نراها في مرئياتهم التشكيلية سواء ما انجز منها داخل العراق او بعيداً عنه في المنافي مما شكل لغة، لحظ المتابعون غناها وتنوعها واستيحاءاتها الاسطورية والتراثية والشعبية والطبيعية وغير ذلك من الامور التي جعلت لوجودها نكهة خاصة يؤطرها الموت والدعوة للنهوض بإطلاق مفاهيم التحدي والصمود لاستيحاء الصورة المشرفة للحياة المؤطرة بوعي التاريخ والحاضر.

الشق المأساوي
لقد منح التعامل مع الشق المأساوي التشكيل العراقي جدية متناهية في البحث عن الاساليب والتقنيات بابراز ما تكتنزه الشخصية المبدعة من تراكم جمالي وعكسه بشفافية على الصياغات البصرية التي تعيد للواقع حضوره والقه كلما سعت الظروف لتغييبه او قسره على الوقوف موقف التحدي من المغامرة الوجودية التي لا تكون الا في اطار النظرة المركبة للثقافة والوعي والحلم والانجاز وكل ما يجعل العين والعقل يحتفلان بارتباطهما ببعضهما من جهة، وبالحمل الثقيل الذي يخلفانه مما يتسع لمشهديات العصر وآلامه وقهره الذي يتجدد بتجدد الزمن وما يحيط به من اساطير لا يمكن ان تكون الا الشبكة التي تلف المخيلة بخوارقها واستشهاداتها وفتنتها.
وبالتجلي المأساوي تجتمع المتابعات التعبيرية مستخدمة مجموعة من الرموز التي تطال المكان والبيئة الجغرافية والذهنية وكذلك الطبيعة بمختلف تجلياتها والمرأة كقاسم منهجي تطرحه الاعمال الفنية في مختلف المراحل والتجارب التي تطال المعاني الحضارية التي لا تجعل من كيانها الجمالي والرمزي والثقافي طرفاً هامشياً في العملية الابداعية البصرية، وإنما تبرز القيم المتصلة بتسامي اختيارها باعتبارها جوهراً يمثل الرغبة بالحياة واحتفالاً ضد العدم الذي تمثله الحروب والآفات وباقي مدارات الموت.
ولعل القاموس الرمزي للتشكيل العراقي المعاصر من اغنى القواميس التي تنتمي إلى الخيال المبدع الذي يصقل علامات الفن والطريق إلى صقل الروح، واذا كانت الظروف المحيطة بهذا الابداع قد تغيرت او تبدلت بفعل الظروف الانسانية الطارئة التي طالت هذا المحمل التشكيلي العربي الا ان ذاكرة مبدعيه بقيت منتشية بنبضها المتصل بمصير الانسان مباشرة وحركة فكره في الوجود.
الناقد فاروق يوسف كتب في اقنعة الرسم عن موت الرسام وزوال الرسم: «كلنا زائلون». ولا اعتقد ان رساماً ما لا يتمنى زوال الرسم مع زواله، ذلك لان ثقته بالمتحف هي ثقة زائلة بزواله، فالخراب الذي انتهى اليه الرسم الحديث يتعارض كلياً مع فكرة الخلود التي ينطوي عليها المتحف. صحيح ان هذه الفكرة هي فكرة ملفقة، غير ان وجودها يعني ان هناك ما يمكن تخيل قدرته على مقاومة الزمن. ان كل ما مضى من الزمن الجمالي في كفة وكل ما مر بنا منه وما سيشهده الغد القريب في كفة ثانية. ذلك لأن تحولات الرسم لا تتم بطريقة معيارية. بمعنى انها تهتم باعلان خصومتها مع الرسم».
ولعل فاروق وهو يحسم الامر قائلاً: «الفن لا يخسر شيئاً. البشرية هي التي تخسر اذا ما فقد الفن هيبته. وتشكل حرية الفن العمود الاساسي لهذه الهيبة». فإنه يسعى دون مواربة لرصد التحول السريع في فكرة الفن على مستوى السلوك الابداعي المحكوم بفرصة الحياة اكثر من أي أمر آخر، خاصة حين نعلم ان صلة كل من الحياة والفن بالحلم تجعل الواقع اكثر التصاقاً بالمستوى الذهني الذي يبرز كثيراً في اعمال الفنانين العراقيين الذين يجعلون من وعورة المواقف وتفاصيل المعاش وكوابيس الحياة عالماً ابداعياً و«من الواضح ان ثمة علاقة جدلية بين الحلم والفعل يعطيها الفن مغزاها الشمولي»، حسب جبرا ابراهيم جبرا الذي يعتبر «ان الفن في الواقع هو المادة المحفزة في عملية تفاعلات تغير صيغها وانماطها بصورة دائمة وإلى ما لا حد له من الاشكال، قد تكون تلك العملية غامضة، لا يمكن التنبؤ بها لكنها توحد الفعاليات الثلاث.. الفن، الحلم، والفعل.. في واحدة من ديناميات التاريخ».
في الارض التي سعت على مدى تاريخها إلى كشف الحقيقة، حقيقة الحياة والموت والسعي إلى الخلود، تستعرض قراءات الميثولوجيا صلة الانسان بارضه سواء عبر رحلته إلى الاعلى، العالم الاسمي، او إلى العالم الاسفل، وبكل الاحوال فإن الخطاب انما يتلخص برحلة الكينونة البشرية في بحثها عن الذات والوقوف على حقيقة الرؤيا الشاملة للفكر الذي يتبدى في التجاوز الجمالي لقباحات الافعال الانسانية في صراعها على الوجود وامتلاك الزمان.. واذا كان التشكيل العراقي حاول في بداياته الجادة المدروسة التي يتعامل معها النقد بشكل ايجابي، ان يصون المقولات الفلسفية بالدعوة إلى التمرد على الواقع ونبذ التوجهات العدمية وملازمة للبنية الانسانية كمثال للكائنات التي تعبر الزمان ببطء.

كونية الجدار
معاصروا الفنان جواد سليم لا يعرفونه الا مبدعاً، اذ انجز رسماً لسراي بغداد لا تزال تذكر في معرض الحديث عن صغره حين رسم هذا المنظر، ما دفع الحكومة لابتعاثه للدراسة في ثلاثينيات القرن الماضي ومتابعة تحصيله في باريس (1938) التي تركها إلى روما بعد اندلاع الحرب الثانية، ولكي لا نذهب ابعد من ذلك في رصد تفاصيل حياة جواد سليم فإن الحاجة تبدو اكثر الحاحاً للحديث عن نصب الحرية الذي انجزه ليكون رائعة نحتية تروي قصة الانسان في العراق من خلال سعيه إلى التحرر من ربقة الاستعمار، وقد تعرفت لاول مرة على هذا النصب من خلال احدى المنشورات البسيطة حيث كنت صغيراً، وقد احتفظت بصورة بانورامية لهذا النصب الافريزي نظراً لشدة حركة الشخوص وقسوة انطلاقتها وعمق رموزها في وقد كنت بحاجة إلى اختزان مثل هذه الايحاءات، ما دفعني آنذاك لتنفيذ مجموعة من المنحوتات الجبسية الصغيرة التي تحاكي اشخاص سليم، وحين كنت اعد لمعرض خاص عن الحرب في العام (1975) اذكر كيف كنت اتلصص على نصب جواد سليم وعبقريته معاً باحثاً عما يتصل برواية الحياة والموت، وكل ما يدفع الانسان لتجاوز ظروفه التي تقهر وجوده الاجتماعي والسياسي والابداعي، اذ انجزه قبل موته بعامين، دون ان يشهده منصوباً في الموقع الذي يحتله اليوم في بغداد.
اول وصف دقيق له عرفته من خلال ما كتبه جبرا ابراهيم جبرا العام 1974 حين ذكر: «يتألف هذا النصب من اربع عشرة وحدة من البرونز، في كل من الكثير منها شخصان او اكثر. وينتشر على افريز طوله خمسين متراً، وعلو منحوتاته ثمانية امتار، فهو اذن من اكبر النصب في العالم، وهو اضخم نصب قام بعمله فنان عراقي منذ اكثر من 2500 سنة.. ولئن وجدناه (جواد سليم) يقول في احدى فترات حياته ان السياسة لا تهمه في شيء، فإن الانسان كان يهمه في كل شيء.. ولاسيما في تمرده من اجل حريته وتقدمه. فالتاريخ القومي هنا عملية مخاض نفسي او عملية نمو وإيناع في تربة شاسعة اكتشفت اخيراً كوامن خصبها.. يجب ان نذكر ان الذي طلب اليه صنع النصب كان عبدالكريم قاسم وهو اراد نصباً للثورة، بل اوحى انه يريد وضع صورته فيه، ورغم ما اعطى جواد سليم من حرية في تمثيل ذلك، فقد كان عليه قبل كل شيء ان يمثل ثورة، ارادها الشعب ولكن نفذها عسكري وهكذا جاء القسم المركزي من النصب.
غير ان الفنان رأى الثورة اكثر من وثبة جندي شجاع: انها ذروة صراع دام احقاباً طويلة، وعظمتها ستبقى في مقدار ما حققت من طموحات الشعب كله، وكان عليه ان يفكر نحتياً ورمزياً معاً. وكان عليه ان يجد الصيغة التي تلتئم فيها روعة الكتلة والتشكيل مع روعة المعنى الذي يهمه فكان عليه ان يجعل كل جزء واقعياً ظاهراً، ورمزياً باطناً ولجأ إلى مخزون تجاربه الكثيرة وما تعلمه من فن وادي الرافدين والفن الايطالي في عصر النهضة اذ ان في كليهما هذا الجمع بين النص البصري الصريح والايحاء الرمزي المضمن على عكس اتجاهات الفن في القرن العشرين. ولاسيما في ما عرفه العالم من نحت عظيم بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من اعتماد جواد سليم على الايقاع في انتقال البصر من اليمين إلى اليسار، اي على صلة بروايات الاشخاص باعتبارها مرئيات (تجسد الكتلة وتجرد المنغرى) فإن هذه الحركة تتحول إلى واقيعة تاريخية تستحضر الحياة والانطلاق من خلال الاشخاص (الجندي، الفلاحين، العامل، الباكية، الثور، الحصان، السلام والحرية) وتستبطن الظلام والموت الذي تغادره الاجساد والام الثكلى، والام وطفلها وما يبدو من آثار السجن، ليغدو المعنى هو يقظة الرؤية التي تتجدد في الرحيل على الإفريز الذي يحكي او يسرد قيمة التحرر وتجاوز مزالق التاريخ. ولعل التحول من خلال معنى الحركة إلى السكون هو ما يجعلنا نلتقط اللحظة التي تمنح هذا النصب ديمومة دلالاته الرمزية في التعبير عن مفهوم التحرر والانعتاق، ولعل اللمحات التي تقدمها اشخاص جواد والتي لقيت كثيراً من الاهتمام البحثي والنقدي.. هذه اللمحات تشكل باستمرار عودة إلى ما يمكن دعوته البناء الرمزي لصلة الحياة بالموت وكل ما يهندس مدلولاتها الواقعية والاسطورية.

نوافذ الحرب
استعادة موقع نصب جواد سليم اليوم بصرياً يأتي بالتساوق مع الصور التي تبثها مختلف المحطات التلفزيونية عن العراق، وسحر الالوان التي تجعل الف ليلة وليلة تحضر في المشاهد الليلية لمناظر بغداد وتمايل نخيلها، واذ تختفي في ظل سقوط القنابل النصب والتماثيل وكل جماليات هذه المدينة التي كان قد حدثني عنها صديق فنان من العراق في ورشة فنية جمعتنا لعشرة ايام على ضفاف نهر الفرات قبل خمسة عشر عاماً على ما اذكر، وكان خلال حديثه ينفذ عملين جداريين بمواد نافرة حتى يمكن القول بأنه ينفذ اعمالاً نحتية بارزة على سطح تصويري، وفي عمق هذه النفورات كانت تبدو الوجوه في نوافذ متناهية في الصغر ترقب عالمنا الذي نحياه، اذكر اني سألته عن اجساد هذه الوجوه وصلتها بالموت والحرب وكان حميد العطار يفتح احاديثه على القيم الرمزية والتأويلية التي ينشدها من خلال الغاء الاجساد بحيث يتوهج البناء التصوري لها بفعل انسحابها خارج مساحة التقاطنا البصري لثباتها،
ومع ان اللون كان يلعب دوراً ناجحاً لاذكاء الجوانب الدرامية المساهمة ببث مضمون ما تقترحه العيون والوجوه الراسخة في ظلمة واقعها، الا ان تضمينات الجدار الخارجي للوحة وعبر ملامسها الخشنة انما كانت تصف سرداً يفرغ حمولته التاريخية في عيون وعي المشاهد وهو يسترجع اثر الحروب على ملامح الانسان في العراق المحاصر بفراغ الخارج وعتمة التحديات التي تغيب بقدريتها الجسد الذي كان محط اهتمام فنون اخرى في الغرب وبما يثير صراعاً بيناً بين الارثين الجماليين وهذا ما جعل حميد يترك عمله اكثر من مرة ليشرح لي رؤيته لنصب جواد سليم ومدى تأثره به على المستوى الرمزي معتبراً ان التعبير عن الآلام والانعتاق منها انما يشكل سلسلة من المعاني الصلبة التي حاول التشكيل العراقي التعبير عنها باعتبارها علامات تقدم إلى جانب القسوة شفافية الشخصية الشاعرية في تطلعها إلى بلاغة حلمية تتجاوز غياب الاجساد في اعماله وحضورها في اعمال سواه ومنهم جواد سليم.
لقد كانت مساحة اللوحة التي ينفذها العطار كبيرة، وكان قادراً على ضبطها بحيث يستفيد من كل جزء من اجزائها المحكمة لتوثير الصلة بين الحضور والغياب، الالغاء والاعتراف، وكل ما يجعل ايقاع توزع نوافذ الحرب على السطح يحتوي قيماً موسيقية تعيد انشاء مقاطع سومرية وآشورية عن الموت الذي يجري جريان دجلة والفرات في الحياة بتركيبتها المقسمة إلى اكثر من مستوى والتي ينظر اليها من اكثر من موقع، ما يضاعف موقع الحلم الذي يتحكم برؤية العطار النهائية لمصير شخوصه في غيابهم وفي حضورهم وكل ما يجعل تحليل خطابه البصري ينقاد في اتجاه الدعوة للخروج من المأساة الباطنة في احداث التاريخ إلى حضور الذات التي يرغب ان تحقق تفاعلاً وتواصلاً مع تحديقنا في اعماقها التي هي اعماق العمل الفني الداعي للتحرر في اول مستويات طرحه والداعي ايضاً إلى الحلم باعتباره استراتيجية للانعتاق ومرجعية بشرية يحملها اللاهوت والاسطورة والماورائيات التي تحقق معنى الصورة التي ينتجها.
القسوة وحدها كانت دافع حميد وغيره من المبدعين في العراق لتمثل الصرخات التي تبدو في رسومات السوميريين ومنحوتاتهم وهم يفتحون عيونهم على اقصاها حتى تكاد تستدير وهي تبث سلطتها على المخيلة وكأن جملة واضحة عن الحقيقة ستنطلق من بين أهدابها.

نوافذ الجسد
بين حضور الجسد وغيابه تتناهى طاقة المبدع في التقاط حدث بصري يضيفه إلى شبكة من الاحداث السابقة كي تكتمل المواجهة بالموضوعات التي تشكل توجهه، واذا كان اللثام يغطي في بعض الاحيان ملامح يتقصد الفنان الغاء وجودها فإنه يمضي لا شك خارج ما نريد ان نرى نحن في عمله وبما لا يجعل تصورنا سابقاً على ما يبدعه كي يستحيل ما ينجر إلى كتلة من الصدق في تناول الموضوع، مهما كان او مهما تعددت حرارة احتياجنا اليه. واذا كان حميد وغيره من الفنانين العراقيين قد غيبوا هذا الجسد بشكل جزئي او كلي فإن جبر علوان اكد في مختلف مراحله على انجاز الصلة به، خاصة ان غيابه الطويل عن بلده جعل الاشارة البصرية تستحيل إلى اشارة بصيرية في تناول هذا الجسد سواء بإبراز مواقع الجمال فيه او بالتركيز على ألم الواقع المعاش الذي يجعل منه كتلة هامشية، وبخاصة المرأة باعتبارها خزاناً خصباً لتجاوز الوجود إلى سره،
لقد كتبت إلى جبر اكثر من مرة وكتبت عنه ايضاً حول الميزان الذي يعتمده للفصل بين البوح اليومي على المستوى البصري والسرد العام الذي يلجأ إليه لتجاوز رعب الحياة وتفاصيل قسوة ما يشهده الانسان على المستويين الداخلي والخارجي، وإذا كان اللجوء إلى بعض التلميحات الرومانسية على صعيدي الشكل واللون فإنما للاستفادة من جعل الظلال تخفي اسرار الذات التواقة إلى حريتها عبر الحلم، و(حلم جبر يختلف عن حلم السورياليين، الذين ينعتونه بأنه طاغية رهيب، يلبس مرايا وبروقاً ويأسر في عضلاته الغيوم، فحلم جبر يتلخص في مزيد من المحبة والدهشة فيما لا يحد. وهذا ما يؤكد الحركة المتجذرة في اعماله، فكل كتلة تشي بما يجاورها، وكل لون ينشيء حرارته باعتماد برودة ما حوله، ودوام الخط في الهذيان يؤشر إلى خزان من الانقباض والاسترخاء يعكس انفاس جبر وهو يتخيل موضوعه، حقيقة اللوحة، وقوانين ابداعها، وتحويلها إلى عمل يتجلى بنبض يواكب نبض القلب ويدفعنا لوصفه بصفات ما نقبل او ما نحب، كونه يأسرنا بجمال متعدد الوجوه، جمال اللون ودواعي ابتكاره وجمال الاسرار التي تمتلك خصوصية انثوية مجردة عما لا نمتلك بوحه او تمثيله او تجسيده او روايته عن قباحة الواقع وقسوة معطياته وجرأة حروبه على البشر.
برغم عشرات السنوات التي عاشها جبر علوان بعيداً عن العراق في ظلال اعمدة روما ورطوبة اقبيتها الا ان اللون متوهجه وحضوره بقى علامة يشير اليها النقاد والمعجبون بانجازاته وقد انتبهوا إلى قوته البدائية المتأججة من باطن أرض العراق، هناك، حيث تخفي الطبيعة مختبرها فتنكشف موهبة جبر في كونه يعي تماماً هذا المختبر الاصيل ما حدا ببعض النقاد في الغرب لتخيله على هيئة حارس الكريستال الكيميائى، الذي يقتنص ويعيد انكسار الروح المهتزة والمضيئة للمادة بعد اللون، الشعرية، والتقنية.. والتي تشكل جسد اللوحة التي لا ينيرها الضوء الفيزيائي بقدر ما ينيرها الوعي بكل ما يحيط بالجسدين، الجسد الانساني وجسد الصورة التي تتجاوز مساحتها لتبث ما هو أبعد من الحالة التشخيصية، اي مختلف ما تنتجه الابجديات البصرية المتجددة من اشارات عن موقع الانسان في التكوين العام للذاكرة.

ثراء التساؤل
في الوقت الذي يركز كثير من الفنانين العراقيين على حضور القيم الايقونية في تشكيلهم للصور فإن جانباً آخر منهم حاول السعي خارج هذه القيم للتعبير عن قلق حضاري حدا بشاكر حسن آل سعيد وغيره الكثير للخروج إلى ممارسات سارت في طريق جلي إلى الداخل الانساني شكلاً وفكراً وهذا ما جعل الفنان مهدي مطشر ينزع إلى هذا الذاتي بالاعتماد على التجربة المعمارية الانسانية والمفاهيم المعاصرة للممارسة التشكيلية حيث يؤكد ان المفهوم يتضح بتلاقي الحاجة الفردية وقدرتها على ان تكون منطلقاً انسانياً صادقاً للتساؤل والتفكير ومن ثم الحاجة الاجتماعية وتمكنها من استيعاب وهضم هذا التساؤل الفردي وما يمكن ان يؤديه من وظيفة في اتساع فضاء المعرفة الانسانية ثم في توافق التطلعات الوظيفية والخامات وطريقة اعادة صياغتها او ابداع خامات ومجالات جديدة يمكن بها فتح آفاق تساؤل أخرى.
اذا كانت غاية الحروب بث الفوضى فإن غاية مهدي مطشر هي اعادة تنظيم الاشياء وبنائها وفق ممارسة تشكيلية يجهد منذ فترة طويلة على ترسيخها كاتجاه له باخراج الجانب الصوري الايقوني كي تستعيد الممارسة التشكيلية طاقتها (الحسية ـ البنائية) في واجهات الحياة الحضرية.. الحديقة ومكوناتها النباتية، العمارة وموادها الصلدة، الكتاب وفضاؤه اللغوي ـ الشاعري ـ الشخصي، وكل ذلك على صلة بالجوهر الذي يعيد صياغة المبنى أو التكوين (بمعنى ما يفعله الانسان وما ينتجه) وبهذا فإن مهدي يسعى عبر انجازه لتحرير الممارسة التشكيلية من تأزماتها النفسانية كي يعيد اليها بعدها الفعال في الحياة اليومية، اي في الثقافة الفعلية للمجتمع.
الحروب التي تقضي أول ما تقضي على المعمار الانساني، فإنها لا شك تحاول ان تلغي هذا الحيز والفضاء الانساني من الذاكرة الجمعية، وحين يلجأ مهدي مطشر في اعماله لاعادة صياغة هذا الحيز فإنه يعي تماماً ان الحيز المعماري هو الفضاء الفعلي للانسان، بكل مكونات المجتمع وخصوصياته، فهو اذن المرآة الفعلية ولهذا يكون كما يراه محيطاً وحيزاً، شكلاً وكتلة، لوناً وظلاً ونوراً، يجمع كل خاصيات التشكيل، فهو اذاً أهل لان يكون فضاء الفعالية التشكيلية.. ولهذا فإن مطشر ينطلق في انجاز عمله باعتبار ان علاقة الانسان مع محيطه الجغرافي او المعماري هي علاقة تفاعل وفعل.. علاقة تواشج لا تقبل البعد، انها علاقة حسية، فكرية، جسدية، اي فضائية، واخيراً فهي استمتاعية. من هنا يتضح ان اعادة التفكير بالممارسة التشكيلية مرهونة بالعمارة اي ضمن فضاء الفعالية البشرية بشكلها المتكامل، وهي استعادة لاهمية الممارسة الفنية في الحياة الانسانية وما يمكن ان يمنحه هذا الانفتاح من امكانات جديدة للتشكيل.
لقد اعتمد مهدي مطشر في تنظيم حيزه على مفردات مختلفة مستمدة من ثقافته وحضارته وارثه برغم بعده لاكثر من ثلاثين عاماً في فرنسا وقد سمح له هذا التواجد إمكان قياس الافكار والتوصلات والتاريخ بمعايير موضوعية وبحرية لايجاد منفذ خاص لاهتماماته الشخصية كالعلاقة بالخط المستقيم والشكل الهندسي (المربع بالذات) والعلاقة باللون الصافي غير الممزوج والعلاقة بالعمارة وكافة الاسئلة التي تركته مبهوراً بها منذ طفولته في الهيلا ببابل العراق وحتى استقراره في مدينة آرل الفرنسية والتي انعكست في معارضه المختلفة في فرنسا والسويد والدانمارك واميركا والمانيا وبريطانيا وغيرها من دول العالم.
لقد سعى مطشر إلى بناء قاعدة للتصور خارج التصوير المعهود بمعناه التقليدي وذهب بشكل اعمق باتجاه التعبير الشخصي اولاً ومن ثم اكثر ثراء وقدرة لبناء صلة ايجابية مع الواقع الحضري لتكون اكثر نفعاً للجماعة البشرية، انه نوع من التشكيل الذي يمكن ان يشابه التركيب الموسيقي او اللغوي الشعري، وقد قيل بأن هذا الفنان احد ثلاثة فنانين عراقيين اعطاهم البعد فرصة للحكم على عواطفهم وقياسها وهم فائق حسن في مدريد ومحمود صبري في براغ ومطشر في باريس، ويمكن ان نضيف ضياء العزاوي في لندن وعشرات الفنانين في هولندا والدانمارك وايطاليا وغيرها من البلدان التي انتشر فيها المبدع العراقي بحثاً عن استقرار خارج الحروب التي فرضت على منطقته بسبب اهميتها الاقتصادية والحضارية والجغرافية. ولم يكن اهتمام مبدعيه خارج الاطر الانسانية بحيث تضيف إلى الحوار الواعي للثقافات الانسانية ما يجعلها تنمو وتكبر في قيمها وتوجهاتها التواصلية.
الفن الذي تراه الشعوب ضرورة لتحقيق الصلة بالعدالة يراه مطشر عملية فكرية، حسية، ومهنية ايضاً، انه حالة دائمة للرصد المعرفي اي من خلال الممارسة والحكمة من هذه الممارسة بربطها بالضرورات الشخصية اولاً ومن ثم توصيلها بالحاجة الجماعية لتصبح ظاهرة ثقافية وهكذا يرى ان هناك فن للراحة وفن للتساؤل وفن للبحث والاختبار ونحن بحاجة إلى كل اشكال الممارسة فالحاجة إلى الفن تدفعنا لان نكون اكثر انسانية مما كنا عليه.

عيون الحلم
لا تماثل أحلام زهاء حديد المعمارية احلام سعاد العطار في توجهها لصياغة هذه الاحلام في مدونات بصرية تمتلك مقومات النور الداخلي المنبعث من عشق المكان والانتماء اليه، اذ تمضي زهاء في خيالاتها عن الحدائق المعلقة لتبني عمارة معلقة نالت مكانتها في اصقاع العالم المتمدن، اميركا واوروبا واليابان وغيرها، واذا كانت عمارتها مثالاً عن عشق الحياة والتوغل في احيازها فإن لوحات سعاد استطاعت من جهة اخرى ترسيخ معارف نظرية وتفاعلاً مع جيلها برسم الافكار الشكلانية في المجتمع التشكيلي العربي والتي كانت ضرورة حققت ظواهر تحقق صيرورة الفن كحاجة اجتماعية تطرح التساؤلات البصرية عن الموقف من الحياة والعدم وبالاعتماد على الذات والسيرة الشخصية وتاريخ المكان والصلة بالطبيعة والمذاهب الحداثية التي ثبتت خطوات عديد الفنانين في مواقع الابداع العالمي.
سعاد العطار حاولت استيعاب الحقيقة التدميرية للاشياء والموجودات والاحداث لتؤلف عبر تعقيداتها لغة بصرية تعمرها وفق تصور خاص، اذ في الوقت الذي مضى به جيلها إلى اعماق التجريد كانت تمضي إلى استيعاب العمق الميثولوجي لشخصياتها وقد ترافق لديها الرمز مع الاشارات البصرية الميثولوجية وبالتصعيد مع الاستخدام الادبي، وكثر الحديث عن الاسطورة في المجال النظري والتطبيقي ولهذا فإنها قد مزجت الراهن المعاش بضرورات تحديثه دون ان تتغافل عن طرح القضايا القومية والهوية والوطن في اعمالها.
رائحة الموت والدمار قادت سعاد خارج مكانها لتنقلب في نتاجها ومعارضها وتبرز اهمية النور الداخلي المؤطر بنوافذ وقباب ونخيل بغداد وبما يعكس الحنين الدائم إلى المدينة التي يختلط فيها الحدث الابداعي المعاش بالحدث التاريخي والاسطوري، ولربما كان احتكام سعاد إلى الحلم باعتبار غيابها يشي بالنوم والاغتراب مما يكون باستمرار على صلة بمظهر اللوحة وصباغياتها الحلمية التي تحيا على ضفاف الجمال الخالد للامكنة في ذاكرة مبدعيها بحيث تضحى اللوحة (المتحف الخيالي) الذي علينا اعتباره مرجعية ذهنية وحسية لتلمس صلتنا بالمكان المهدد، وسواء سكنا اللوحات او جعلناها تسكننا كما يرى فاروق يوسف، فإن ما يزين موتنا هو ذاته الذي يزين حضورنا، (وان كان الخلود فكرة زمان فإن النسيان ضروري لكي يكون الزمان اشد حضوراً).
ان رسوم سعاد العطار وتخطيطاتها تشكل دعوة إلى التوازن في زمن يفقد توازنه ولهذا يرى الناقد فاروق يوسف انه لن يبقى من الفنانين ومن (رفائيل ورامبرانت وغويا ومانيه و ان غوغ وغوغان وبيكاسو وجواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وكاظم حيدر ورافع الناصري وضياء العزاوي وعلاء بشير سوى الاوهام).
حقيقة اعمال سعاد انها تصورات لاحلام، وهي تصورات لا حدود لها، ولا يمكن ان نمضي مع ما قاله فاروق اذ لا يشكل الوهم ضفافاً لهذه التصورات بالاستناد إلى ما يذكره د. سامي ادهم: «والتعامل مع العمل الفني ليس له اول، او آخر، فهو كل متكامل، ليس في الخط، ولا في اللون وحده، ولا يمكن استنتاج اجزاء من بعضها فالعمل يهدف إلى محاولة ايصال نفسه إلى المشاهد، والكل يتألق ويبهر الشعور ويعبر عن رؤية خاصة بالفنان، فليس للوحة اجزاء مفردة، او مساحات منفصلة.. انها كل واحد وفضاء واحد».

فضاء الجسد
باتت العوامل التي تربط المبدع بمعاني الجسد متعددة في خطابها البصري، ولهذا فإن التعدد بتناول هذا الجسد من قبل المبدعين العراقيين تحتاج بذاتها إلى بحث مطول سواء في حضوره المطلق او المجازي او في غيابه الذي يؤسس لخطابات ذات صلة بوعي هذا الجسد لظروف تحققه في المنجز الفني بحيث يمتص طاقة الخيال ليعكس في بعض الاحيان خطاباً انفعالياً كالذي نراه في منجز اسماعيل فتاح النحتي والتصويري وبما يجعل هذا الجسد مركزاً لوعي مزدوج بالجسد ذاته وبالفضاء الذي يشكل خطابه العام، وبغض النظر عن عجالة تناول خصوصيات العينات الجسدية التي تتوزع على اعمال اسماعيل او ضياء العزاوي على سبيل المثال لا الحصر، فإن ربطاً جلياً ما بين مرجعيات اجساد العزاوي وجواد سليم الذي كان استهلالي به يقود إلى ما يذكره الباحث شاكر لعيبي من ان العزاوي «يخرج على الفور من دأب جواد سليم في اعادة الاعتبار إلى العناصر المحلية والشعبية القائمة في العمارة الاسلامية والوان العيد البهية او فيما كان جواد يسمح لنفسه ان يطلق عليه بالبغدادي والبغداديات، تارة على مستوى استلهام (موضوع) مفترض للرسم، او تارة على مستوى المعاني الممنوحة للاشكال المعتمدة على بعضها كلياً احياناً في بناء اللوحة: القوس».
لقد استطاعت التجليات العنيفة للجسد الانساني في اعمال العزاوي ان تقدم مقابلات راهنة لوعي الاركيولوجيا التي تحفظ بتجربة الجسد الانساني كمحمول في اشارات النحت السومري، والتشديد على البنية المحكمة للخطاب السردي الذي قاده في احيان كثيرة لتفعيل صلته بالادب والتعبير عنه بمثل ما قدمه عن المعلقات او عن تناصه مع مقاطع شعرية او كتابات معاصرة وحديثة، وهو بهذا التكيف الخلاق انما يعيد الجسد إلى صراعه المثير الذي بذله في محامل رقصية وتعبيرية وايمائية حين كان يمثل صيرورة كهنوتية في معابد سومر.
واذا كان ضياء قد اصر في مراحله المختلفة على جعل رؤية هذا الجسد تكون مركزية في فضاء عمله الغني فإنه انما يفعل ذلك بدافع الاشارة إلى القهرية التي تطال رموز هذا الجسد باعتباره انساناً وارضاً ووطناً ولغة، واذا كان بنيانه المتماسك يشير إلى رغبة الرؤية التي نسعى للرضوخ لها فإن فصاحة الالوان وشيوع الشمس فيها انما يضيف إلى هذه الرغبة امتلاء بالحاجة إلى الحياة والتحرر من العتمة اللونية التي يستخدمها بشكل تضادي ليقدم المتمرد على تمرده والوعي على حامله، واذا يعمق الجرح السومري الذي تتثاقفه الاجيال فإن مسعاه كي يقدم الرمح عبر اهتزازه الخطي انما يشي بمدح ظاهر للجسد البشري واعتداد بالموقف الموجه للوحة باعتبارها وعياً تحكمه مجموعة معقدة ومتشابكة من الجهود البحثية والقيم الجمالية والمشاعر الذاتية الباعثة للبناء والهدم معاً.
ان رغبة العزاوي باظهار المتسلط في جسده ولونه وفضائه انما يوضح ثقته بخزانه الاستقرائي لردود الافعال تجاه الثوابت التشكيلية، وهي نقطة تفرقه عن قراءة معمار لوحة اسماعيل فتاح الذي يقدم الاحتفال على المحتفلين والجنازة على الغائب، وبهذا فإن عقلاً غائباً في التقطيع الهندسي المحكم يحتمي في اجساده بينما لا يؤمن العزاوي بخطر العقل ويترك للتوترات الحسية مكانها في السلوك البصري الذي يستجمع اندفاعته في مركز او بؤرة الصلة بالعمل الفني.. وبكل الاحوال فإن ما تمتصه مثل هذه الاعمال من اندفاع الاثر السومري يظهر جلياً في الحديث الدرامي عن العراق وخصوصية ابداعه باحلال الانتماء موقع نقيضه دون ان يمثل ذلك تنميطاً في تجارب اي منهما حيث يبقى انتماؤهما إلى التعبير خلافاً واتصالهما بكبرياء الجمال مرغوباً من قبل الناس.
ان عنفاً ورهبة وقسوة تبدو جلية في غير تجربة فنية عراقية، الا ان رغبة اقوى بالحياة تتخطى هذا الخطاب لتحقق صورة الديمومة المتوالدة دوماً من ملامح الابداع وهو يمضي في التعبير عن اندفاع الانسان في مغامرته الوجودية واحتياجه إلى تأمل مشاعره التي تقوده إلى اكتشاف حقيقة هذا الوجود.