د. شاكر النابلسي
&
&
&
لم تكن نتائج الانتخابات الأردنية للمجلس التشريعي (البرلمان) مفاجأة للأردنيين، ولا للمراقبين في الخارج. فقد كان معظم الفائزين في هذه الانتخابات من أبناء العشائر والعائلات الكبيرة. ولكن الأخطر من ذلك، أن هؤلاء الذين فازوا في الانتخابات، لم يفوزوا نتيجة لامتياز برنامجهم الانتخابي،& ولم يفوزوا نتيجة لطول باعهم في العمل السياسي النظيف والشفاف، ولم يفوزوا نتيجة لموقعهم الثقافي، ودورهم المهم في بناء المجتمع الأردني، وانما كان فوزهم لأنهم أبناء عشائر وعائلات كبيرة لها صوت قبلي وعشائري مسموع إلى درجة أن بعض الأحزاب الأردنية سحبت مرشحيها الحزبيين، وأبدلتهم بمرشحين عشائريين لضمان تواجد هذه الأحزاب تحت قبة البرلمان الأردني. وهو ما كان عليه الوضع في البرلمان الثالث عشر المنتخب في العام 1997، مما دفع الملك الراحل حسين في ذلك الوقت إلى الدفاع عن نتائج تلك الانتخابات والقول بأنه يعتز بالعشائر، وأن العشائر الأردنية ركن هام في النظام الأردني ومنها جاء رجال الدولة والحكم والعسكر، وأنه هو نفسه جاء من "عشيرة" الهاشميين. وهو ما يشير إلى أن نتائج الانتخابات الأردنية كسابقتها لم تكن دليلاً جديداً على أن المجتمع الأردني يتقدم نحو الديمقراطية خطوات جديدة، بقدر ما تشير هذه النتائج إلى أن الديمقراطية الأردنية تتراجع خطوات واسعة إلى الوراء، لتعطي للبطريركية (النظام الأبوي) وللحكم العشائري المضاد للديمقراطية المكان اللائق بها في المجتمع الأردني. فالنمط الاجتماعي الأردني كما هو حالة في كافة أنحاء الوطن العربي ابعد ما يكون عن زرع وتكريس نسق القيم الدافعة إلى التطور الديمقراطي، وتنمية المشاركة، والحرية، والمواطنة المسؤولة، والمساواة، والعقلانية. كما أن هذا النمط القائم الوحدات العشائرية والقبلية من شأنه أن يخنق كل نَفَسٍ حداثي مستقبلي، ويُفسح الطريق أمام الأصولية الدينية العدوة اللدودة للديمقراطية - للسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ويسدَّ الأبواب والطرق أمام تقدم الديمقراطية وخطواتها المتعثرة في الأردن حتى الآن. وهذا ما يُسيء الكثيرون من دعاة الديمقراطية في الأردن وخارجه، ممن كانوا يروّجون لهذا المجتمع الناشئ، والذي تزداد فيه نسبة المتعلمين وترتقي، وتنخفض نسبة الأمية، وتتقدم فيها حريات الرأي بحياء وخفر، رغم كل الملاحظات والمآخذ الكثيرة على المسيرة السياسية والاجتماعية والثقافية.
إن الخطورة الكبرى في هذا التركيب الجديد للبرلمان الأردني هي أن يعمل النواب الممثلين في هذا البرلمان على خدمة العشيرة وأبناء العشيرة ومصالح العشيرة، قبل العمل على خدمة الوطن والمجتمع وابنائه. وأن يضحوا بمصلحة الوطن من أجل مصلحة العشيرة. وأن يحاولوا ارضاء العشيرة بكل ما لديهم من امكانات سلطوية حتى يضمنوا مقاعد البرلمان في دوراته القادمة، في غياب الأحزاب والتنظيمات السياسية، التي من شأنها أن توصلهم إلى هذه المقاعد، كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية الأخرى.
فالأصولية الدينية الأردنية التي عارضت قانون الانتخاب الجديد المتمثل بالصوت الواحد للناحب الواحد للحدِّ من التسلّط الأصولي الديني والعشائري على مقاعد البرلمان الذي كان يتم في الدورات الانتخابية الماضية، لم تخفِ معارضتها لنتائج هذه الانتخابات، وطعنها في نزاهتها ، وإن كانت راضية مرضية عن النتائج العامة لهذه الانتخابات التي أوصلت مرشيحها إلى أكثر من عشرة بالمائة من نسبة مقاعد البرلمان، في حين أوصلت مرشحي العشائر إلى أكثر من ستين بالمائة من نسبة هذه المقاعد، وهو ما يُعدُّ مكسباً كبيرة للأصولية الدينية الأردنية المتمثلة بـ "جبهة العمل الإسلامي" التي ستعمل في برلمان خالٍ من اليسار الأردني - ما عدا ثلاثة أو أربعة نواب فقط- يقف في صف التفكير السلفي، ويؤيد النـزاع المسلح، ويتبنى الأعمال الانتحارية، ويرفض العولمة، والحداثة، ويدعو إلى "الجهاد المقدس"& وفقه الموت. ويرفض الانفتاح وتغيير المناهج الدراسية لبناء دولة عصرية ومجتمع منتج، يُفكِّر ولا يُكفِّر.
فما هي الأسباب التي أدت بالأردنيين إلى اللجوء إلى عشائرهم لانتخاب ممثليهم في البرلمان، بدلاً من الارتكان إلى الأحزاب السياسية الفاعلة خاصة بعد أن شهدنا اندماج مجموعة من الأحزاب السياسية الصغيرة في حزب واحد، تلبية لدعوة الملك عبد الله الثاني السابقة؟
وهل بلغت الأحزاب السياسية الأردنية حداً من الضعف والوهن والهشاشة، بحيث أنها لم تكن تملك برامج سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تؤهلها للوصول إلى مقاعد البرلمان الأردني؟
وهل بلغ الشارع الأردني والناخب الأردني هذا الحد من عدم الثقة بالأحزاب السياسية وبرامجها الفاشلة، بحيث أنه لم يعد يصوّت لها، ولا يمنحها ثقته، لكي تتكلم باسمه وتمثّله في البرلمان؟
إن الأسباب التي أدت بالمرشحين الأردنيين إلى اللجوء إلى عشائرهم دون أحزابهم السياسية للوصول إلى البرلمان الرابع عشر كثيرة، كما أن تراجع الديمقراطية نتيجة لذلك، وإحلال البطريركية (النظام الأبوي) محلها، وتكريسها على هذا النحو لها أسبابها المختلفة، ومنها:
1-&&& أن البناء الاجتماعي في الأردن هو كمثيله في باقي البلدان العربية قاطبة، بناء عشائري وقبلي، حيث تشكل القبيلة أو العشيرة الوحدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولا يوجد كيان حزب واحد في العالم العربي، يستطيع أن يتفوق على الكيان العشائري. بل إن التركيب العائلي في الأردن وغيره من البلدان العربية لا يقف عند الدور السياسي بل يتعداها إلى الدور العسكري والإداري والثقافي.
2-&&& أن الأردن رغم هذه الخلطة الأردنية الفلسطينية، منذ نصف قرن، والتي ساهمت في كسر الحدة العشائرية إلى حد ما، وفي كسر حدة التأثير العائلي، ظل مجتمعاً تتكون وحداته من العشائر التي اعتمد عليها النظام الأردني السياسي عند نشأته في العام 1921، وأسس الجيش الأردني والدولة على هذه القاعدة العشائرية الموالية للنظام.
3-&&& أن الأردن كان يمكن له أن يبني حياته السياسية على قاعدة حزبية جديرة بالاحترام والتطوير الديمقراطي لو استطاع تجاوز أزمة 1957 التي أدت فيما بعد إلى إلغاء الأحزاب في العام 1958 ، وتفريغ الساحة السياسية الأردنية منها ما عدا حزب الإخوان المسلمين ولم يسمح لهذه الأحزاب بالعودة إلى الساحة السياسة إلا بعد العام 1989 ، وعلى إثر اضطرابات معان المعروفة التي أطاحت بوزارة زيد الرفاعي التي اتهمت بالفساد في ذلك الوقت. ومن هنا ظلت الحياة السياسية الأردنية محرومة من العمل الحزبي طيلة أكثر من ثلاثين عاماً، استطاعت خلالها العشيرة الأردنية ان تكون البديل السياسي للأحزاب التي كانت قائمة قبل العام 1958.
4-&&& عند عودة الأحزاب السياسية إلى الساحة الأردنية بعد العام 1990، لم يكن يستطيع العمل بجدية، ويكتسب ثقة الشارع الأردني على هذه الساحة غير حزب الإخوان المسلمين. صحيح أن الأحزاب الأخرى قد عادت رسمياً وشرعياً للعمل، ولكن لم يكن لخطابها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي أية جدوى أو صدقية لدى الشارع الأردني. فالحزب الشيوعي الأردني جاء فارغ الوفاض بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفكك المنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وليس لديه ما يقول للناس غير ترديد شعارات بالية من حقبة الخمسينات والستينات. وحزب البعث السوري والعراقي عادا عدوين متخاصمين نتيجة لحرب الخليج 1991، ولفشلهما في العراق وسوريا في تحقيق الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية. والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية كانتا على خلاف مع الدولة الأردنية نتيجة لأزمة 1970 بين الدولة الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وما نجم عنها من طلاق بائن بين الدولة الأردنية وبين منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، وفقدتا بالتالي تحت ضغط اجراءات أمنية مشددة تعاطف الشارع الأردني معها، إما خوفاً، وإما اتقاءً، وإما نتيجة لعدم الصدقية. وهكذا، لم تستطع الأحزاب السياسية الأردنية العائدة من المنفى ومن الأقبية، أن تحقق مكاسب سياسية وبرلمانية فيما بعد. إضافة لذلك فإن الأحزاب الأردنية المحلية التي بلغت أكثر من عشرين حزباً، والتي نشأت بعد العام 1992 بموجب قانون الأحزاب، كحزب التجمع الوطني، وحزب الوحدة الشعبية، وحزب العهد، وحزب التقدم والعدالة، وحزب اليقظة، وحزب الوطن، وغيرها من الأحزاب التي تجمعت في حزب واحد هو الحزب الوطني الدستوري برئاسة عبد الهادي المجالي، ظلت أحزاباً ضعيفة التأثير في الشارع الأردني، وظلت العشيرة وزعماؤها هم الواجهة السياسية المؤهلة للوصول إلى مقاعد البرلمان حتى بالنسبة لجبهة العمل الإسلامي، بحيث كاد البرلمان الأردني أن يتحوّل في العشر سنوات الماضية إلى "مجلس عشائر" خالٍ من الخطاب السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي المتكامل والواقعي.
5-&&& عدم تشكيل الحكومات الأردنية (أكثر من 80 حكومة) منذ نشوء الدولة إلى الآن على أساس نتائج الانتخابات، كما هو الحال في المجتمعات الديمقراطية . فمن المعروف أن الحياة النيابية في الأردن بدأت في العام 1923، ورغم ذلك كانت المرة الوحيدة التي تشكلت فيها الحكومة على أساس نتائج الانتخابات البرلمانية في العام 1956 (حكومة سليمان النابلسي). وكان ذلك ناتج عن عدم وجود أحزاب كبيرة وقوية، تستطيع فرض صوت الأغلبية في البرلمان.
6-&&& عدم وجود أحزاب سياسية كبيرة وقوية في الجيران المحيطين بالأردن ما عدا اسرائيل كذلك عدم وجود حياة ديمقراطية سليمة عند هؤلاء الجيران، مبنية على التعددية الحزبية السليمة. فلبنان الذي يعتبر من جيران الأردن، وأكثر الدول العربية ديمقراطية، تقوم ديمقراطيته التي أصابها عطب كبير بعد العام 1975 ونشوب الحرب الأهلية، كما أصابتها علاّت كثيرة بعد اتفاقية الطائف، وسيطرة النظام السوري - بقوة السلاح - على المشهد السياسي والإعلامي اللبناني، بحيث أصبح السياسيون اللبنانيون بما فيهم أركان الحكم موظفين لدى الإدارة السورية، على أساس طائفي وعائلي، لا يختلف كثيراً عن الكيان الأردني العشائري. وهو بالتالي يُعدُّ مجتمعاً بطريركياً أبوياً، للزعيم (البيك) فيه صلاحيات وسلطة زعيم العشيرة، كما هو الحال في الأردن الآن.
7-&&& وأخيراً، فإن الوضع الاقتصادي في الأردن وفي المنطقة العربية عموماً لن يساعد على وجود حياة ديمقراطية. فالفقر هو العدو اللدود للديمقراطية، كما أنه العدو اللدود للحرية. فالمجتمع الفقير هو مجتمع تقليدي، تغلب عليه الولاءات التقليدية العشائرية والطائفية وليست الديمقراطية. والمجتمع الأردني مجتمع فقير، لا يتجاوز متوسط دخل الفرد فيه أكثر من 1500 دولار سنوياً، حسب التقرير السنوي لعام 2002 لمجلة الايكونومست اللندنية. في حين يعترف رئيس البنك الدولي أن توطين الديمقراطية في بلد ما، يحتاج إلى ان يكون متوسط دخل الفرد السنوي لا يقل عن عشرة آلاف دولار.& ومن هنا يستجيب الناخب الأردني لصوت العشيرة ورئيسها، خوفاً من الموت جوعاً غداً. فرائحة "المناسف" الأردنية ومذاقها، في خيمة العشيرة، لا يقاوم، في ظل الجوع الأردني الكافر، وإن كان ثمنها صوت الناخب الجائع للمرشح المُطعم، وهو "ثمن بخس" في رأي الناخب الأردني الفقير والجائع، الذي يُردد دائماً "حِكَم الانتخابات" المتوارثة:
-&&&&& "من أطعمني فقد حكمني".
-&&&&& "ومن ملأ معدتي فقد مَلَكَ صوتي".
&
التعليقات