حسين كركوش
&
&

ليس لفرنسا، هذه الأيام، من شاغل يشغلها، غير رجل يدعى (جوزيه بوفيه). افتتاحيات كبريات الصحف الفرنسية تكرس له. نشرات الأخبار في وسائل الأعلام المرئية والمسموعة تبدأ بالحديث عنه. زعماء الأحزاب، وقادة النقابات لا يفتتحون أحاديثهم إلا بذكر أسمه.
ومنذ أن قامت قوات من عناصر الدرك بإلقاء القبض على جوزيه بوفيه، صباح الأحد الماضي، في مزرعته في ميو ( جنوب فرنسا)، وأقتادته، لتنفيذ حكم بالسجن لمدة عشرة أشهر، كان قد صدر ضده، حتى أصبح بوفيه " النشيد الوطني " الفرنسي الذي يتكرر سماعه على مدار الساعة، تمجيدا مرة، وكراهية مرة اخرى.
في الواقع، ان جوزيه بوفيه لم يكن بحاجة لأن يلقى عليه القبض الأحد الماضي، حتى يشتهر. فقد أصبح هذا المزارع الفرنسي، منذ سنوات، جزءا من المشهد السياسي، وغير السياسي، أيضا، داخل فرنسا.
فإذا تحادث اثنان عن العولمة، فلا بد ان تظهر صورة جوزيه بوفيه، بغليونه الذي لا يفارق شفتيه، وشاربيه الكثين، وقامته القصيرة. وإذا ذكر الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، ظهر بوفيه، وهو ينظم حملات التضامن مع الفلسطينيين، متجولا في شوارع رام الله، أو مطرودا من قبل البوليس الإسرائيلي، أو متبوعا بصرخات الهزء والسخرية من قبل غلاة المتطرفين من أنصار إسرائيل داخل فرنسا.
وإذا تحدث الفرنسيون عن مطاعم الوجبات السريعة الأميركية (ماكدونالدز)، فان صورة بوفيه تظهر أمامهم، حاملا معوله، محرضا أنصاره على تخريب بنايات هذه المطاعم في فرنسا، حاثا الفرنسيين على مقاطعتها لأنها لا تقدم طعاما صحيا، إنما (علف) بشري، ليس أكثر.
&
وإذا تغزل الفرنسيون على موائدهم بجبنتهم الشهيرة (روكفلر)، قفز أمامهم جوزيه بوفيه، وكأنه أحد أبطال فرنسا القوميين، الذي وقف ضد الإجراءات الأميركية (لفرض) الحصار على الجبنة الفرنسية.
أما إذا انعقدت منتديات دافوس ومنظمة التجارة العالمية وقمم الدول الصناعية الغنية، أو (قمم) مناهضة العولمة، فان الصورة لا تكتمل دون ان يتصدر جوزيه بوفيه جموع الحاضرين.
وللتدليل على أهمية النشاط الذي يقوم به هذا المزارع الفرنسي، فان البعض، خصوصا بين النخب الثقافية الأميركية الداعمة لأطروحة " موت الأيدلوجيا "، لا يجدون (بطريقة ساخرة، بالطبع) ما يتحرك داخل فرنسا، هذه الأيام، سوى " ظاهرة جوزيه بوفيه. "
بالطبع، ان جوزيه بوفيه، الذي يترأس فيدرالية المزارعين الفرنسيين، لا يمكنه ان يتحول الى " ظاهرة " فرنسية، لولا وجود أرضية فرنسية مشجعة. فالأوساط المناهضة للعولمة داخل فرنسا تزداد يوما بعد يوم. ومع مناهضة العولمة، هناك أوساط فرنسية، في اليمين واليسار، بدأت تعتقد بان العولمة " المتوحشة " التي تنادي بها الولايات المتحدة، لا تتطابق، بالضرورة، مع المصالح الفرنسية، ان لم تتعارض معها، في أحيان كثيرة.
وفي غياب تراجع نشاط الأحزاب الفرنسية اليسارية، عموما، فان الشعارات المطلبية هي التي بدأت تحظى بإجماع، يتسع تدريجيا، داخل فرنسا.
وليست التظاهرات الحاشدة والإضرابات التي تشهدها، هذه الأيام، عموم المدن الفرنسية، ضد إصلاح نظام التقاعد، ونظام الضمان الاجتماعي، إلا دليل على ذلك. فهذه الإضرابات تحظى بمشاركة واسعة، لأنها تطرح مطالب تخص جميع الفرنسيين، وتهم حياتهم اليومية المباشرة، بعيدا عن الشعارات الايدلوجية.
&واسم المزارع والناشط المناهض للعولمة، جوزيه بوفيه، اقترن في أذهان الفرنسيين، خصوصا ما يطلق عليه الأدب السياسي (الشارع) الفرنسي، بالدفاع عن مصالح عموم الناس، بدءا بالترويج للمنتجات الحيوانية والزراعية الفرنسية ضد المنافسة الأميركية، أو الدفاع عن حق عموم الناس بالحصول على طعام لا تلوثه " الهرمونات " الاصطناعية.
والتهمة التي اقتيد بسبها المزارع جوزيه بوفيه، الى السجن الأحد الماضي هي، إدانته من قل القضاء الفرنسي بتخريب نباتات من الأرز المعدل وراثيا في أحد مختبرات جنوب فرنسا.
وهكذا، فأن رجل الشارع الفرنسي العادي لا يعبأ بالبعد " الأممي " لنشاط المزارع جوزيه بوفيه، بقدر اهتمامه بالبعد " الوطني " الفرنسي للأهداف التي يسعى بوفيه لتحقيقها.
لكن هذا لا يعني، بالمقابل، ان جوزيه بوفيه " عائم داخل فراغ سياسي "، فهو الى أطروحات اليسار اقرب منه لأطروحات اليمين.
ولهذا، فان اعتقاله من قبل الشرطة الفرنسية الأحد الماضي، تحول الى قضية سياسية بين الأكثرية اليمينية الحاكمة وبين أحزاب المعارضة اليسارية. فاليمين الحاكم أراد، عن طريق إلقاء القبض على بوفيه واقتياده الى السجن، ان يؤكد على هيبة الدولة وحضورها، وعدم السماح لأي شخص، مهما كان، ان يفلت من قبضة العدالة، حتى لو كان رئيس فيدرالية مزارعي فرنسا، والأكثر شهرة في الأوساط العالمية المناهضة للعولمة.
والأحزاب اليسارية المعارضة تقول ان جوزيه بوفيه ليس مجرما عاديا حتى يزج به داخل السجن. وقال زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي فرانسوا هولند، ان السجن لم يخلق ليدخله " نقابي "، وانما مجرمون اعتياديون، وبوفيه ليس كذلك.
ألان، أصبحت القضية برمتها بيد رئيس الجمهورية، جاك شيراك. فهو وحده القادر، بموجب الصلاحيات التي يخولها له القانون، على إصدار عفو رئاسي لصالح مزارع فرنسا الاشهر.
لكن، الرئيس شيراك وحكومة السيد رافران لا يريدان الظهور بمظهر الضعيف الذي يرضخ لمطالب خصومه، وفي نفس الوقت فان الزمن ألان ليس ملائما ألان لخوض معركة سياسية جديدة، وفتح جبهة أخرى، تضاف الى الجبهة التي أشعلت أوارها نقابات العمال احتجاجا على إصلاح قانون التقاعد.
والجميع بانتظار الرابع عشر من تموز، وهو العيد الوطني الفرنسي الذي غالبا ما يتزامن مع عفو رئاسي تقليدي عن بعض القضايا. ومن المحتمل ان يكون جوزيه بوفيه أحد الذين يشملهم العفو الرئاسي.
وبين صرخات أنصار (الملا) جوزيه بوفيه، أو (مكبرة الصوت الداعية للصالح العام)، كما اطلق عليه بعض صحافيي فرنسا، التي تطالب (بايداع شيراك داخل السجن، وإرسال بوفيه الى بيته الريفي )، وبين رفض بوفيه تقديم التماس شخصي لرئيس الجمهورية للإعفاء عنه، وبين إصرار الحكومة الفرنسية على فرض هيبة الدولة، فسيكون أمام الفرنسيين أياما ممتعة يتسلون خلالها، أنتظارا لتفجبر (القنبلة السياسية) جوزيه بوفيه ، قبل ان يشدوا رحالهم الى أنحاء المعمورة لقضاء إجازاتهم الصيفية في الأول من تموز / يوليو المقبل.