د. شاكر النابلسي


&
-I-

يا أهل العراق..
لقد صبرتم أكثر من نصف قرن على الظلم والظالمين، من أيام حكم نوري السعيد، ومروراً بحكم البعثيي،ن وانتهاء بحكم الصداميين، لكي تنالوا حريتكم التي تعاني مخاض الولادة الآن في العراق، ولمّا تتم بعد الولادة المنتظرة على هيئة حكومة وطنية، وانتخابات حرة، وجيش قوي، يدافع عن أرض العراق، ولا يعتدي على أحد، ولا يُستعمل كميليشيات لحماية النظام، ولكن لحماية تراب الوطن فقط.
فاصبروا وانتظروا الولادة العسيرة، في ظل الظروف العراقية الراهنة، وفي ظل الظروف العربية المحيطة بكم، والمتربصة بكم، وبعراقكم، وبنفطكم. وأقرأوا التاريخ الحديث جيداً، وسترون أن اليابان لم يستقر حالها بعد ما أصابها في 1945 إلا بعد سنوات طويلة، ولم تُجر فيها أول انتخابات إلا بعد خمس سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، رغم كل ما كانت تتمتع به اليابان في ذلك الوقت من وعي، وتقدم، ومدنية، ومجتمع صناعي مُهيأ للإستنبات الديمقراطي. وأن المانيا لم تستقر أحوالها بعد القضاء على النظام النازي الشبيه بالنظام الصدامي، ولم تجرِ فيها انتخابات عامة إلا بعد ست سنوات من سقوط النازي، رغم ما كانت تتمتع به المانيا من تمدن، ورقي، وثقافة، وحضارة، وصناعة عريقة. وأن كوريا الجنوبية لم يستقر بها الحال إلا بعد العام 1960 من انتهاء الحرب الكورية عام 1953؛ أي بعد سبع سنوات، حيث جرت أول انتخابات نزيهة، وتمَّ تشكيل أول حكومة وطنية.
فالخلاص من النظم الشمولية، والبُراء من الحكم الديكتاتوري، يحتاج لفترة علاج طويلة، وفترة نقاهة ممتدة كذلك.
فاصبروا أيها العراقيون..
&وستنالون الحُسنيين: حُسن الحرية، وحُسن بناء العراق الجديد.
&
&-II-

يا أهل العراق..
إن مصيبتكم الكبرى أن البريطانيين عندما جاءوا محتلين للعراق في العام 1917 (احتلال بغداد)، جاءوا، فوجدوا النخب المثقفة من العلماء والسياسيين والصناعيين والزارعين والعسكريين، وبدأوا يتحدثون ويتفاعلون معهم، فكانت المهمة سهلة لبناء عراق جديد. اما عندما جاء الأمريكيون قبل أربعة أشهر لم يجدوا هؤلاء، حيث فرّغ نظام صدام العراق من نُخبه ومثقفيه وصفوته، وقتلهم أو سجنهم، وقذف ببقيتهم إلى خارج العراق. ولم يجد الأمريكيون أمامهم في العراق بعد زوال نظام صدام، غير المليشيات، وشيوخ العشائر، والرعاع، وقطّاع الطرق، واللصوص، الذين أطلق صدام سراحهم من السجون، قبل غزو الحلفاء للعراق بأيام، لكي يعيثوا من بعده فساداً في العراق، وهذا ما حصل بالضبط. فالبلد لن يكون بلده، والنظام لن يكون نظامه. وكانت النخب المثقفة التي بلغت أربعة ملايين مهاجر في خارج العراق، تتفرج على ما يحصل في العراق، دون أن تستطيع تقديم ما يمكن أن يُسرّع في بسط الاستقرار، وعودة الحياة للعراق. فكانت المهمة الحالية صعبة لخلق طبقة النخبة من جديد، واعادة المهاجرين المثقفين إلى العراق، ليبدأوا في بناء العراق الجديد.
&

-III-

يا أهل العراق..
لقد رفض البرلمانيون العرب بالأمس، إدانة المقابر الجماعية في العراق. فهل هذه الإدانة مهمة للعرب، كما هي مهمة بالنسبة للعراقيين؟
في ظني واعتقادي المتواضع، بأن هذه الإدانة من قبل البرلمانيين العرب لمقابر صدام حسين الجماعية ليست مهمة، ولا تعني العراقيين في شيء، لأن هؤلاء البرلمانيين لا يمثلون شعوبهم. فقد وصلوا إلى مقاعد البرلمانات العربية عن طريق الانتخابات المزورة، كما يعرف القاصي والداني، أو عن طريق قبائلهم وعشائرهم، أو عن طريق المال الخالص. وهم يمثلون حكوماتهم أكثر مما يمثلون شعوبهم المعارضة لهذه الحكومات. ولو كان البرلمانيون العرب من المعارضين، وإلى جانب الشعب لما وصل أحد منهم إلى مقعد البرلمان. وما دامت الحكومات العربية لم تُدن المقابر الجماعية التي نشرها نظام صدام في طول العراق وعرضها، حيث أن كل نظام عربي لديه مقابر جماعية على غرار مقابر صدام أو أقل منها، سواء كانت هذه المقابر للأموات أو للأحياء، فيما لو علمنا أن العالم العربي كله عبارة عن مقبرة جماعية واحدة، فيها الأموات، وفيها الأحياء، الذين هم بحكم الأموات، فلا بأس على البرلمانيين العرب أن لا يدينوا هذه المقابر الجماعية. بل هم لا يستطيعوا إدانة هذه المقابر الجماعية، وهم يمثلون دولاً لديها مثل هذه المقابر للأموات والأحياء. وهم بذلك، لا يريدون بإدانتهم لهذه المقابر أن تكون سابقة لإدانة المزيد من المقابر الجماعية غداً للأموات والأحياء في دول عربية مختلفة.
فيا أهل العراق..
لقد قلت لكم منذ زمن:
اغسلوا أيديكم وأرجلكم من العرب، فلا شيء لديهم يقدمونه لكم، لا قبل صدام، ولا أثناء حكم صدام، ولا بعد حكم صدام، غير الاثارة، والتشنج، والدعوة الدائمة واليائسة إلى الانتحار.
واسألوا أنفسكم سؤالاً صريحاً:
أين كان هؤلاء العرب، طيلة ثلاثين سنة مضت، من قمع نظام صدام للشعب العراقي؟
وأين كانت تلك الأصوات التي تتباكى الآن على العراق "الرازح تحت الاحتلال" ؟
وهل قام البرلمانيون العرب يوماً، وطيلة ثلاثين عاماً بإدانة نظام صدام حسين على ما فعله من نكبات ومصائب بالشعب العراقي؟
&
&-IV-

يا أهل العراق..
إن معظم الإعلام العربي الرسمي وغير الرسمي - مع ملاحظة عدم وجود إعلام غير رسمي - بكتبته و"مستثقفيه" ومعلقيه السياسيين في داخل الوطن العربي وخارجه ضد مصلحة الشعب العراقي، وضد مستقبل الشعب العراق؟
واسألوا أنفسكم الأسئلة التالية:
-&&&&& هل من مصلحة الشعب العراقي ومستقبل العراق هذه الأطنان الهائلة من المقالات اليومية العربية من اليمين واليسار العربي، التي تبارك مقاومة فلول صدام حسين لقوات الاحتلال الآن، بدلاً من الدعوة لها إلى الانصراف إلى البناء والتنمية والتعليم واعادة كتابة الدستور، واقامة المؤسسات المدنية واجراء الانتخابات، وخلاف ذلك؟
-&&&&& هل من مصلحة الشعب العراقي ومستقبل العراق أن يستقبل الإعلام العربي بالمزامير والطبول والدفوف فلول النظام السابق كالصحاف ومحمد الدوري وغيرهما، ويُجزي لهم العطاء مقابل تصريحات تافهة لا وزن لها، قدموها لهذا الإعلام، بدلاً من مقاطعة كل ما كانت له علاقة بالنظام السابق المهزوم، مقاطعةً باتة؟
-&&&&& هل من مصلحة الشعب العراقي ومستقبل العراق أن يتهافت الإعلام العربي على نشر رسائل صدام المخلوع وخطاباته لفلوله، التي تدعوهم إلى "المقاومة" لإعادة النظام المخلوع إلى عرشه، بعد أن فعل في العراق كل ما تكشّف لنا طيلة الأشهر الثلاثة الماضية، ولكن المخفي أعظم، وما سيظهر مستقبلاً من جرائم وفظائع النظام ستكون أكبر وأفظع مما تمَّ كشفه حتى الآن؟
-&&&&& هل من مصلحة الشعب العراقي ومستقبل العراق أن يقارن الإعلام العربي بين الاحتلال الامريكي والبريطاني للعراق وبين الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين؟
&وهل جاءت اسرائيل بقواتها إلى فلسطين لتخليص الفلسطينيين من الحاج أمين الحسيني أو من أحمد& الشقيري أو من ياسر عرفات، علماً بأن هؤلاء لم يحكموا الفلسطينيين بالحديد والنار كما حكمهم صدام؟
&فلماذا هذا الربط الغبي والأبله بين الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وبين ما يجري في العراق؟ ولماذا لا يربط الإعلام العربي بين ما آلت اليه اليابان والمانيا وايطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، وما آلت اليه كوريا الجنوبية بعد انتهاء الحرب الكورية 1953 وبين ما يجري في العراق الآن؟
ولماذا لم يسأل الإعلام العربي العراقيين السؤال الذي يقول:
- لو أن اليابانيين والألمان والكوريين تركوا مهمة الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي جانباً، وحملوا السلاح لمقاومة الأمريكيين، فما هو وضع اليابان والمانيا وكوريا الآن التي ما زال الجنود الأمريكيون فيها منذ نصف قرن ويزيد، ورغم ذلك أصبحت هذه الدول الثلاث في مقدمة دول العالم علماً، وصناعة، وتجارة، وثقافة، وديمقراطية أيضاً؟
&
&-V-

يا أهل العراق..
هل من مصلحة الشعب العراقي ومستقبل العراق أن يردد الإعلام العربي صبحاً ومساءاً، أن الحلفاء قد حاربوا وهزموا نظام صدام لكي يستولوا على بترول العراق، كما فعلوا في العام 1991 عندما حاربوا صدام وأخرجوه من الكويت لكي يستولوا على بترول الكويت؟
اسألوا يا أهل العراق جيرانكم الكويتيين:
هل سرق الأمريكيون نقطة بترول واحدة من آباركم، وهم يقيمون بين ظهرانيكم& - جنوداً وضباطاً- طيلة أكثر من عشر سنوات حتى الآن؟
ثم ما دخل العرب بنفط الكويت، ونفط العراق؟
ومتى كان العرب أوصياء على نفط غيرهم من العرب؟
نفط الكويت للكويتيين، وهم أحرار به، باعوه، أو شربوه، أو وهبوه للشياطين، أو أحرقوه؟
ونفط العراق للعراقيين، وهم أحرار به، باعوه، أو منحوه لأمريكا مجاناً، أو أحرقوه، أو أعطوه للشيطان الرجيم؟
فهو مالهم و (من حَكَمَ بماله ما ظلم)، كما تقول العرب!
ثم لماذا هذا البكاء العربي العاهر اليومي على نفط العراق الآن، في حين أن العرب جميعاً كانوا يتفرجون فرحين على هذا النفط، وهو يُهدر طيلة أكثر من ثلاثين سنة في حروب دونكيشتية، مرة مع ايران، ومرة مع الكويت والسعودية، وفي بناء القصور الباذخة التي شاهدناه على شاشات التليفزيون، وعلى تماثيل صدام وأصنامه المنهارة والمسحوقة، وعلى شهوات صدام وعائلته وبطانته، وعلى المليشيات الحامية للنظام، وفي تزوير الحقائق بالمبالغ السخيّة والعطايا والهدايا والمطايا من سيارات المرسيدس، التي كانت تُدفع وتُوهب لرموز الإعلام العربي و"مستكتبيه" و"مستعلقيه"؟
&
-VI-

يا أهل العراق..
تتسلل اليكم هذه الأيام كما يقول الإعلام العربي عناصر من "المقاومة" العربية والإسلامية للدفاع عن الشعب العراقي وطرد المحتلين.
والسؤال الآن هو:
أين كانت هذه المقاومة خلال الثلاثين عاماً الماضية، حين كان نظام صدام حسين يعيث في العراق فساداً؟
ولماذا لم تتسلل في السابق هذه المقاومة من جيران العراق من العرب والمسلمين دفاعاً عن الشعب العراقي وضد نظام صدام حسين الذي أذاق الشعب العراقي من صنوف العذاب والقهر طيلة ثلاثين سنة، وأكثر مما فعل جيش الاحتلال الآن مئات المرات؟
وهل أصبح ظلم ذوي القُربى على العراق (أقل) مضاضةً من وقْعِ الحسام المهند، وعكس ما قاله الشاعر العربي القديم؟
أم أن ظلم ذوي (البُعدى) على العراق (أشدُّ) مضاضةً من وقْعِ الحسام المهند، وعكس ما قاله الشاعر العربي القديم أيضاً؟
أم أن عناصر هذه المقاومة من جيران العراق العرب والمسلمين قد دخلت العراق من أجل احراق العراق؟
فهي قد احرقته بصمتها السابق وتفرّجها، دون أن تحرك ساكناً بما كان يفعله نظام صدام، وعدم (فزعتها) للشعب العراقي.
وهي اليوم تحرقه بتدخلها في الشأن العراقي على هذا النحو القائم الآن، وتؤخر فيه مسيرة الاستقرار وإعادة البناء.
&
-VII-
&يا أهل العراق..
لقد ابتليتم بنظام حكم جائر سابق، واحتلال قاسٍ وجبار. والحكمة والعقل وحدهما هما اللذان سيخلصكما من بقايا الحكم الجائر وهما اللذان سيخلصكما من الاحتلال القاسي الجبار.
فلا الدواء العربي القديم الفاسد& - الذي انتهى مفعوله - قادر على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
ولا التعاويذ العربية قادرة على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
ولا السحر العربي قادر على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
ولا الشعوذة العربية قادرة على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
ولا دعوات "عجائز السياسة"& قادرة على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
ولا الأماني والتمنّي قادر على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
ولا أبواق الإعلام العربي المسكون بالخرافة والتفاهة والعصبية والرهاب من الآخر، قادر على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
ولا سدنة المعابد وكهنة الزوايا والتكايا، الذين يريدون النفاذ من ظلام الكهوف إلى سطوع أنوار الإعلام ونجومية السياسة، بقادرين على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
العقل وحده قادر على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
والحكمة وحدها قادرة على& تخليصكم مما أنتم فيه الآن..
&
***
وليسلم العراق..
عراق الاتفاق على الحرية والديمقراطية، وعراق الانعتاق من الديكتاتورية، من أذى ذوي القُربى، ومن أذى ذوي& البُعدى أيضاً!