حمزة الجواهري
&
&
&
&

أحداث الأيام القليلة الماضية أفرزت حقيقة كانت غائبة عن الكثيرين، وهي إن أبناء ما يسمى بالمثلث السني ما هم إلا رهائن لدى البعث كما كان كل العراقيين أيام كان النظام المقبور يصول ويجول.
قبل أيام، تم لهم تسميم مياه الشرب لثلاثة أحياء في الموصل، وحين سألنا أهل الموصل عن السبب، كان الجواب واضحا وبسيطا، إن هذه الأحياء لم تتعاون بما يكفي مع فلول النظام المقبور، ولم يصغي سكان هذه الأحياء للتهديدات التي تلقوها من تلك الفلول المذعورة للاحتماء بهم والتستر على الإعمال التخريبية التي يقومون بها. بعد ذلك بيوم واحد، نصبوا الكمائن للقوات التي تحمل النقود الجديدة إلى سامراء بين البيوت للسكان الآمنين متسببين بذلك إلى قتل الأبرياء من أبناء المدينة. أمس فقط وخلال عمليات الدهم التي جرت في الحويجة للبحث عن المخربين، كان للسكان رأيا غير الذي يقوله البعثيين من فلولهم، فالكل تشجع على الإفصاح عن حقيقة هؤلاء وفضح ممارستهم بكل وضوح، فسكان المدينة تحت التهديد بالإبادة الجماعية إن امتنعوا عن إيواء المجرمين والتستر عليهم أو حتى المشاركة بأفعالهم الإجرامية، حتى صور قائدهم المهزوم وتماثيله بقيت بمشيئة منهم تحت التهديد بعد أن أزيل عنها الطلاء الأسود.
المثلث السني، مصطلح مستفز للغاية للكثير من العراقيين بشكل عام، وللمسلمين السنة من العراقيين الأحرار خصوصا. إن ما هو معروف عن ذلك المثلث هو إنه يحتضن جزءا من أبناء شعبنا الأبرياء، وكذا مازال يحتضن فلول البعث المهزومة التي تحاول بكل ما أوتيت من قوة لإشاعة الفوضى في البلد.
إن استعمال مصطلح المثلث السني، جاء بمشيئة بعثية كمحاولة لإعطاء أعمال ما يسمونه بالمقاومة بعدا طائفيا وربطه بالسنة العرب الذي معظمهم يرفضون مثل هذه الأعمال الإرهابية، فليس جميع أبناء هذه الفئة من العراقيين يؤيدون مثل تلك الأعمال الإجرامية، بل على العكس تماما من ذلك، فالغالبية العظمى من السنة العرب لم تشترك فيها وترفضها رفضا مبدئيا.
مما يثير الاستغراب، وكما يلاحظ الجميع، إن مستوى الرفض من أبناء هذه الطائفة ليس بالمستوى المطلوب، وهذا ما جعل الكثير من المراقبين يوجهون الاتهام لهم، مرة بالتستر على هذه الأعمال، أو تأييدها تأييدا ضمنيا مرة أخرى، ومنهم من راح أبعد من ذلك ليوجه تهمة الانخراط بها. هذا ما كان يثير استغرابي جدا، ولكن قليلا من التأمل بهذه الحالة، نجد إن الأمر يفسر نفسه بنفسه، حيث إن معظم القتلة من فلول النظام الذين يحملون السلاح، هم جميعا، إما من أبناء هذه المنطقة أو انتقلوا إليها كملاذ آمن لهم لممارسة أعمالهم الإجرامية، وهؤلاء لا يتورعون عن قتل أي إنسان يقف بوجوههم من الناس المسالمين العاديين والرافضين لمثل تلك الأعمال لوقفها، أو حتى الاحتجاج عليها، خصوصا لو كان المعارض لها من أبنا تلك المنطقة.
حقيقة، إن ما تقدم كان محض استنتاج مني، ولكن عندما سألت الأخوة، السنة تحديدا، الذين زاروا العراق أخيرا، كان جواب الجميع، بلا استثناء، هو إن هذا الأمر معروفا وما كان يجب تسميته استنتاجا. أمانة، أنا لم أسأل أي من الذين يؤيدون مثل هذه الأعمال الإجرامية، لعدم التقائي بهم أولا، وثانيا لقلتهم في المكان الذي أعيش به.
حقا، ما كان يجب أن أعتبر الوصول لذلك الاستنتاج عبقرية مني، فالإرث البعثي الذي أعرفه، كان من حيث الأساس معتمدا على أسلوب سهل للغاية، وهو تصفية المعارضين تصفية جسدية. المعارضين لهم وأهاليهم يكونون هدفا للبعث حتى ينتهون من ذلك المعارض. ولعلنا لم ننسى ممارسات نظامهم المهزوم الذي يعتبر أهل المعارضين رهائن حتى يسلموا أنفسهم، وغالبا ما كان ينتقم من الأهالي إن فشل في النيل من ذلك المعارض ذات نفسه.
إن مجرد العود للماضي القريب، وإجراء استقراء بسيط لممارسات البعث، نجد إن البعثيين حين عادوا للسلطة في المرة الثانية، بدءوا بتصفية أعدائهم ومعارضتهم من العراقيين، كان الضحايا الأول هم من أبناء هذه المنطقة بالذات الذين اعتبروها هي الساحة الأرحب والتي يجب أن تكون معقلا يحتكرونه والملاذ الأخير لهم. على هذا الأساس تم تصفية كل القيادات الوطنية من حزبهم والتي لا شأن لها بمثل هذه الأعمال، ومن ثم الأحزاب أو الكتل السياسية التي تناهضها من أمثال القوميون العرب وما سمي بحزب البعث الجناح السوري، ذلك الحزب الذي كنا نعول عليه أن ينتشل البعث من براثن الشوفينية، حيث كان يتبنى الاشتراكية العلمية بدلا من هرطقيات منظري البعث من أمثال عفلق. فالأسلوب البعثي بالعمل معروف جدا وكان يجب أن لا يغيب عن بالي.
منذ اليوم الأول الذي وصل به البعث للسلطة في العراق، عن طريق المؤامرة طبعا، كان يحمل مشروعه الطائفي العنصري الخفي عموما، والمعلن أحيان أخرى تحت مسوغات مختلفة. بهذا الحدث كان المشروع الطائفي العنصري قد بلغ ذروة انتصاره على المشاريع السياسية الأخرى. ففي واقع الأمر لم يكن ذلك المسخ وليد يومه، بل كان نتاجا لتجارب السنين الطويلة من التكريس السافر للطائفية والعنصرية في العراق. فمنذ تأسيس العراق الحديث بعد نيله الاستقلال في أوائل القرن الماضي، كانت الطائفية والعنصرية من أهم أسس الحكم الملكي، فمجرد مراجعة تاريخ الوزارات لعبد الرزاق الحسني نجد إن إثنان وخمسون وزارة سنية من أصل تسعة وخمسون وزارة كانت قد شكلت خلال ذلك الحكم، كانت عربية سنية، وكان نصيب الشيعة منها هو ثلاثة وزارات والأكراد إثنان فقط، رغم إن التركيبة العراقية أصبحت معروفة للجميع. وإن مجرد مراجعة بسيطة لسجلات الكلية العسكرية وكلية الأركان، نجد إن المؤسسة العسكرية في العراق تاريخيا كانت مبنية على ذلك الأساس العنصري والطائفي.
وهذا ما يفسر في هذه الأيام موقف الأكراد والشيعة من الوضع الحالي في العراق، وما يتحلى به من حيادية إزاء التحالف الذي أخرجهم من تلك الحالة الشاذة والتي كان يمكن أن تتسبب بما هو أعظم مما كان.
إن كل الأخوة من أبناء هذه الطائفة يدركون ذلك النوع من الخلل في ممارسة السلطة، وإن طبيعة الحكم طائفية عنصرية، ولا يريدون له أن يستمر، لأنه ببساطة سوف لن يؤدي إلى عراق مستقر في يوم من الأيام، وسيكون سببا لأنهار من الدم في المستقبل، يكون ضحيتها فقط عراقيين، وقدرات عراقية ستهدر باستمرار، وتخريب سوف لن يقف بأي حال من الأحوال. هذا الموقف من الأحرار العراقيين، سواء كانوا شيعة أو سنة أو أكراد أو تركمان، هو ليس من أجل إحقاق الحق فقط، وإنما لوقف ذلك النزيف للثروة والدم العراقي الذي سوف لن يتوقف ما لم يكون هناك مجتمعا يتمتع به الجميع بفرص متساوية في كل شيء، وما سيجنيه العراق من ذلك، هو شعبا متماسكا ومستقرا من كل النواحي. إن هذا ليس مجرد هتاف، ولكن منطق العصر الحديث، وكذا من متطلبات بناء النظام الديمقراطي الذي ينعم به الجميع بالسلام والرخاء الوفير الذي لا يختلف به اثنين من أن العراق هو البلد الأغنى بالعالم.
وهكذا نجد إن البعث ليس هو الأب الشرعي لهذا الوليد المسخ في أوائل القرن، فالاستعمار كان حقا هو الأب الشرعي له والذي بقي يترعرع تحت رعاية الاستعمار البريطاني حتى بلوغه سن الرشد عبر سنوات الحكم الملكي.
ورثت الحكومات التي تلت كل الإرث الطائفي والعنصري الثقيل واستمرت نفس العناصر التي استأثرت بالسلطان والجاه والثروة دون أن يستطيع أحد أن يغير من طبيعتها، فمحاولات الزعيم عبد الكريم قاسم لجسر الهوة السحيقة بين أطياف الشعب، وإحقاق الحق، وبناء عراق يعيش به الإنسان وهو يتمتع بفرص متكافئة مع الآخرين، محاولات الزعيم هذه، كانت سببا كافيا لهم أن يضعوا نهاية له متعاونين بذلك مع الاستعمار البريطاني الخاسر الأول من عملية التغيير التي كان قاسم يبغي الوصول لها.
البعث الذي ورث ذلك المسخ، نجح بتكريسه من أجل البعث منذ اليوم الأول لاستلامهم السلطة بعد أن أضافوا له الجينات البعثية النجسة ونجحوا من استئصال كل أنواع المعارضة من داخل المثلث السني لمشروعهم، بالتصفية الجسدية، وتحييد الباقين من خلال الإرهاب الذي لا حدود له، كل ذلك لكي يعطوا لحزبهم البعد الطائفي العنصري، خصوصا بعد أن أبعدوا كل البعثيين الشيعة العرب عن القرار وتم لهم تصفية الباقون أيضا جسديا.
إن هذا المسخ الجديد بعد التعديلات، هو اليوم من يعمل بكل جد، وبلا هوادة من أجل عودة البعث المهزوم للسلطة، ومازال الأحرار من أبناء المثلث السني تحت تأثير التهديد اليومي لكي لا يبدوا أي نوع من أنواع المعارضة له، والأكثر من ذلك تم ربطه موضوعيا بالسنة العرب من خلال النشاط المشبوه لجمعية علماء المسلمين التي يقودها رجالا عرفوا بارتباطهم بأجهزة حزب البعث ونشاطه الاستخباري الكريه.
من الواضح جدا إن أبناء هذا المثلث هم الآن رهائن لدى فلول البعث تتحكم بهم كما تشاء كما كانوا يتحكموا بكل الشعب العراقي يوما ما، حيث إننا لم نزل نتذكر كيف كنا وجميع من يمتون لنا بصلة رحم، مهما كان نوعها، رهائن لهؤلاء الجبناء الذين سيبقون يمارسون أبشع الجرائم بحق الإنسانية.
ليس إنصافا ربط الإرهاب بشعب هذا المثلث الذي لا ذنب له سوى إن إرادة بعثية أجبرته أن يكون بهذا الوضع. يجب أن لا ننسى إن البعث نفسه يوم دخل للعراق، فإنه كان قد دخل على أيد من الشيعة العرب وليس أيد سنية عربية. ولكن التكريس ركنهم في عالم العزل والنسيان في أحسن الأحوال، فالكثير منهم من راح ضحية لذلك التيار طائفي العنصري في داخل حزبهم وكرس الحزب بعدها تكريسا مطلقا للسنة، وبالطبع من العرب، أي على أساس طائفي عنصري، وقد اتخذ له هذه المنطقة من العراق كملاذ آمن.
ليس إنصافا أن نضع كل الشرفاء الذين نعرفهم وهم من هذه المنطقة من بلدنا في صف البعث ونقع نحن المثقفين بالشرك البعثي الذي نصب للجميع ونروج لما يحلو للبعث أن يسميه بالمثلث السني.
ليس إنصافا أن يبقى أبناء المثلث يموتون كل يوم كنتيجة لاستمرار العنف الذي يهدف فقط لعودة البعث للسلطة، أنا لا أدعو هنا لأن يتسع نطاق العنف، ولكن لوقفه خشية وقوع المزيد من الضحايا من أبناء هذه المنطقة التي هي جزءا لا يتجزأ من أرض العراق.
هكذا جاء مفهوم المثلث السني وليس فلول النظام المحصورين في منطقة جغرافية محددة، وذلك لاختلاط الحزبية وربطها بطائفة واحدة، مارس الحزب من خلالها أبشع أنواع الحكم وأكثرها دموية عبر التاريخ، وهذا من أبشع أنواع التكريس حينما يختلط الأمر بالدم، واليوم يستعمل نفس أساليب التحكم بالسكان التي عرفناها وإكتوينا بنارها.
بقدر ما كان كحم البعث مجحفا بحق الشعب العراقي، فإنه، بذات الوقت، مجحفا بحق العراقيين من السنة العرب من غير البعثيين، وهم الأكثرية من هذا الطيف العراقي، والذين يعانون الآن نوعين من الإجحاف، الأول ربطهم بأبشع دكتاتورية بالتاريخ والثاني هو ربطهم بالأعمال الإجرامية لفلول النظام المقبور التي هم ضحيتها قبل الآخرين.