&
يذكّر ظهور شادي عبدالله امام محكمة دوسلدورف بمشهد ظهور مستشار الحكومة الالمانية امام الصحافة ليعلن انباء هامة، او وزير اجنبي او احد مغني موسيقى البوب. هذا ما اوحى به جو القاعة رقم 128 في مبنى المحكمة اذ قبل ظهور الشاب الحامل جنسية اردنية وراء ستار من الزجاج المضاد للرصاص داخل مكان خاضع لحراسة مشددة، سبقه خمسة من رجال مكتب الجنايات الفيدرالي الى المكان المعد للمتهم لفحصه. وبعد ان تأكد رجال الامن من عدم وجود خطر تحدثوا عبر السماعات ايذانا بدخول شادي عبدالله قاعة المحكمة الذي وضع شعرا مستعارا(باروكة) ونظارات لاخفاء ملامحه، حتى ان احدهم ازاح كرسي الجلوس لشادي الذي شكره. ليست هذه معاملة عادية لشخص متهم بالارهاب وانما شخص فوق العادة يتمتع اليوم بحماية الدولة الالمانية ويبدو انه يستمتع بهذه المعاملة.
يوم الاربعاء الماضي كان الظهور الاخير لشادي عبدالله البالغ 27 عاما من العمر، امام محكمة دوسلدورف في اطار الدعوى التي رفعها المدعي الفيدرالي العام كاي نيهم ضده حيث اصدرت المحكمة الحكم عليه بالحبس اربعة اعوام في نهاية مرافعات على مدى 26 جولة. ووجدت المحكمة ان الادلة التي قدمها الادعاء العام ضد شادي عبدالله، صحيحة وانه كان عضوا في تنظيم(التوحيد) الذي اعتقلت اجهزة الامن الالمانية مجموعة من اعضائه في شهر ابريل عام 2002. واعترف شادي للمحققين كما ابلغ المحكمة انه كان يخطط مع رفاقه لتفجير منشآت يهودية في دوسلدورف وبرلين وانه تدرب على استخدام السلاح في قواعد(القاعدة) في افغانستان وكان لفترة وجيزة حارسا شخصيا لاسامة بن لادن.
بنهاية محاكمة شادي عبدالله، انتهت واحدة من اهم المحاكمات المتعلقة بهجوم 11 سبتمبر عام 2001 على الولايات المتحدة. لكن السرد الطويل الذي قدمه القاضي حين شرع في شرح قرار المحكمة، واجهه شادي عبدالله بهزة راس واحدة علامة الرضى على الحكم المخفف الذي صدر ضده. بيد ان الاتهامات التي وجهها المدعي الفيدرالي العام الى شادي عبدالله خطيرة وتكفي عادة لحصوله على عقوبة السجن لا تقل عن عشرة اعوام، الا ان عقوبة الحبس اربعة اعوام سببها تعاونه مع المحققين واستعداده لفضح رفاقه وتقديم معلومات عن طبيعة عمل الاصوليين في ألمانيا. ويعتبر شادي عبدالله شاهدا (من الذهب) بالنسبة للمدعي الفيدرالي العام الذي قرر ان يستعين به كشاهد في المحاكمات القادمة. وتشير بيانات مكتب المدعي الفيدرالي العام الى وجود مائة عملية تحقيق ضد اصوليين في ألمانيا يعتقد في النهاية ان عشرين منهم على الاقل سوف يحالوا الى المحاكمة في القريب. احتاج شادي عبدالله الى عشر دقائق فقط للتفكير بقبوله او رفضه الحكم الصادر ضده قبل ان اختار قبول الحكم والامتناع عن استئنافه. ثم صافح محاميه روديجر ديكرز واختفى مع رجال مكتب الجنايات الفيدرالي الذين كانوا يخفون اسلحتهم تحت ستراتهم وغادروا القاعة التي بنيت خصيصا لهذه المحاكمة وكأن الارهابي كارلوس في قفص الاتهام وليس شادي عبدالله المثير للجدل. بعد اقل من ساعة عاد شادي عبدالله الى المكان الذي سيقضي فيه العقوبة داخل سجن كولون/اوسيندورف الذي وصله في سيارة فخمة مجهزة ضد الرصاص وداخل هذا السجن يعرف شادي عبدالله بالسجين فوق العادة ويتمتع بحماية الدولة الالمانية داخل السجن ايضا.
لن يحصل شادي عبدالله على حياة عادية داخل السجن ولاحقا، خارجه. فهذا الشاب الذي يقول المدعي الفيدرالي العام ان قيمته مثل قيمة ورقة يانصيب رابحة، عبارة عن وزة تبيض ذهبا وورقة رابحة بأيدي المحققين الالمان نظرا لاهمية الشهادات التي ادلى بها ضد رفاقه واستعداده للتسبب في ادانتهم عند بدء محاكمتهم. لاول مرة استطاع المحققون الالمان الحصول على معلومات تتحدث عن طبيعة عمل وتفكير الاصوليين داخل منظمة(القاعدة) وقام بسرد قصة حياته بين الاصوليين معتبرا انها مرحلة قاتمة في حياته وانه قرر التوبة. لكن الالمان يريدون الاحتفاظ به حتى في المستقبل ولذا من المستبعد ان يغادر شادي عبدالله ألمانيا رغم ان القانون الالماني ينص على ابعاد المجرمين الاجانب بعد نهاية مدة الحبس لان حياة شادي عبدالله سوف تظل عرضة للخطر. ما يزيد على ثلاثين جلسة امضاها المحققون مع شادي حدثهم فيها عن كل ما يريدون معرفته عن منظمة(القاعدة) وتنظيم(التوحيد) وهكذا اصبح اليوم اكبر عدو للمنظمتين لانه ارتكب الخيانة العظمى بحقهما ويواجه خطر الموت الامر الذي سوف يشجعه لاحقا على طلب اللجوء السياسي لالمانيا والعيش متخفيا في مكان مجهول وبالتأكيد تحت حماية الدولة الالمانية. الدور المتميز لشادي عبدالله كان واضحا حتى في اليوم الاخير للمحاكمة وهذه المرة عبر عنه القاضي حيث نوه بالاعترافات الهامة التي قدمها شادي عبدالله والدور المعول عليه في محاكمات الارهابيين الامر الذي جعل المحكمة تأخذ دوره بعين الاعتبار ومنحته عقوبة مخففة. وكان المدعي الفدرالي العام قد طلب عقوبة الحبس مدة خمسة اعوام وهي الخطوة التي فهمتها المحكمة بأن الادعاء العام يشاطرها الرأي بضرورة مكافأة شادي عبدالله ومنحه عقوبة مخففة في اطار صفقة ثلاثية بين المتهم والمدعي الفيدرالي العام والمحكمة حتى ان محامي الدفاع اشاد بقرار الحكم لكنه طلب مواصلة حماية موكله في المستقبل ايضا.
المؤكد لمحامي الدفاع ان شادي عبدالله في خطر دائم. وقال انه خلال وجود موكله في سجن كولون تمت محاولة من قبل متطرفين للاتصال به. لم يرغب المحامي الكشف عن تفاصيل اخرى لكن كانت هناك محاولات لتهديد موكله. واكد مكتب الجنايات الفيدرالي اقوال المحامي وقال موظف في الجهاز: ذراع الاصوليين طويلة وحقدهم على شادي عبدالله كبير جدا ولهذا ربما ينبغي توفير الحماية مدى الحياة لشادي عبدالله. ويرى المحققون الالمان ان شادي عبدالله قد يتحول الى رمز بالنسبة للأشخاص الذين يفكرون بالانسحاب من التنظيمات الاصولية وتقديم معلومات مفيدة لاجهزة الامن الالمانية. واستغل القاضي اليوم الاخير للمحاكمة لتصفية حساب مع الحكومة الالمانية وهذه خطوة غير عادية. فقد انتقد القاضي قرار الحكومة بإلغاء قانون (الشاهد الملك) في عام 1999 وكان هذا القانون يعفي الشاهد من العقوبة اذا قدم معلومات مفيدة عن رفاقه للمحكمة وطالب القاضي بضرورة اعادة العمل بهذا القانون الذي كان بوسع شادي عبدالله ان يحصل على العفو لو كان ما زال العمل به ساريا. وقال القاضي ان محاكمة شادي عبدالله توحي مدى الحاجة للعمل بقانون (الشاهد الملك) لمحاربة الارهاب الدولي على حد قوله لان هذا يشجع البعض على الحصول على مخرج من فلك الاصولية والتطرف. لا احد يعرف حقيقة الاعترافات التي قدمها شادي عبدالله للمحققين عن الاصوليين في ألمانيا وكتبت مجلة(دير شبيجل) قبل اشهر تقول انها اعترافات تجمع بين الواقع والخيال وقصص ألف ليلة وليلة لكن المدعي الفيدرالي العام يعتقد ان بوسعه الاستعانة بشادي عبدالله للإيقاع بعدد من الاصوليين الذين يستعد لاحالتهم للمحاكمة. اما المستقبل بالنسبة لشادي عبدالله فسوف يكون على النحو التالي حسب البرنامج المتبع من قبل مكتب الجنايات الفيدرالي: بعد عام ونصف سوف يخرج من السجن ويكون قد ساهم في الزج بآخرين وراء القضبان لكن شادي عبدالله سوف يحصل على حياة جديدة دون مواجهة خطر الابعاد الى الاردن، وحين يمثل كشاهد لن يراه احد ولن يصوره احد بل سيكتفي بالحديث وراء ستارة. وفي الحياة العامة سوف يحصل على هوية جديدة وسيرة ذاتية جديدة واسم وعنوان جديدين ومهنة جديدة وربما على وجه جديد.. على نفقة الحكومة الالمانية طبعا.