للمرة الثانية اجدني مضطرا لوقف سلسلة المقالات عن (تعليم الاسلام) لأتناول هذا الاسبوع قضيتين شغلت احداهما الرأي العام العربي والعالمي، وثانيتهما شغلت الرأي العام الاسلامي والاوروبي: اعني قضية اعلان القبض علي صدام حسين، وقضية اعلان فرنسا نيتها اصدار قانون يمنع الحجاب الاسلامي في المدارس ومؤسسات الدولة الفرنسية.
*****
فأما قضية اعلان القاء القبض علي صدام حسين، فان كل ما اعلن من تفاصيلها غير كاف لكي يمكن المتابع من معرفة حقيقة ما حدث. قيل ان القبض عليه تم بمعلومات استخباراتية، وهي عبارة غامضة الا لمن يعرفون حقيقة هذه المعلومات ومصدرها. وقيل ان بعض اقربائه، او شخصا من قبيلة بينها وبين عشيرته منافسة قديمة هو الذي وشي به، وهذا كلام مجمل، لا يقل غموضا عن القول الاول، وكلاهما يدل علي ان الخيانة الداخلية -التي يستعمل تعبير المعلومات الاستخباراتية للدلالة عليها - كانت هي السبب في وصول قوات الاحتلال الاميركية الي مقر صدام حسين واعتقاله. تماما كما قيل عند سقوط بغداد في 9/4/2003 ان الخيانة في صفوف الحرس الجمهوري، بل قيل انها كانت في اعلي مستوياته، هي التي ادت الي انهيار الجيش العراقي وسقوط العاصمة بتلك السهولة التي لم يتصورها احد.
وسواء اصحت مقولة الخيانة والوشاية ام لم تصح اي منهما، فان مجرد شيوعهما دليل علي مكانة الحاكم الطاغية بين قومه ومواطنيه، وهو دليل يقتضي ان يتأمله كل الحكام العرب والمسلمين الذين يحكمون بلادهم ويديرون شؤونها بمثل ما كان صدام يصنع في العراق. ولعل الفارق الوحيد بينهم - او بين بعضهم- وبينه ان صدام كان يرتدي قفازا من حديد ويستعمل لسانا كأنه الصارم المسلول، وكثيرون من الحكام العرب والمسلمين يستعملون قفازات حريرية وينطقون بكلام معسول، لكنهم يذيقون شعوبهم ويلات لا تحصي ولا يستطيع احد ان يعبر علانية عنها، ويتركون ايقاع المظالم والآلام لغيرهم من معاونيهم حتي يسهل عليهم التبرؤ منهم والتخلص من آثارهم اذا جد الجد وحانت ساعة الحساب.
وليس هناك عربي واحد ولا آدمي ذو كرامة، فرح للطريقة التي عرضت بها الولايات المتحدة صور صدام حسين وهو يفحص فحصا طبيا مهينا، وقد بدا كأنه تحت تأثير مخدر. العراق الصدامي نفسه -تمنع نشر صور المرضي وهم يخضعون للفحص الطبي فاذا كان هؤلاء اسري فان اتفاقيات جنيف الاربع تعطيهم حقوقا اضافية وتلقي علي عاتق قوات الاحتلال واجبات اشد مما يقع علي السلطات العامة في بلد يحكمه اهله والولايات المتحدة ضربت بذلك كله عرض الحائط او ألقته في اليم لكي تحقق ما ظنته ضربة قاضية للمقاومة العراقية بعرض صدام حسين في الصورة المهينة المذلة التي شاهده الناس بها علي التلفزيون وفي الصحف والمجلات المحلية والعالمية.
ولم يكن هذا الاذلال وتلك الاهانة خطأ غير مقصود او قرارا أهوج من جانب عسكريين لا يعرفون القانون الدولي الانساني ولا يقدرون عواقب تصرفاتهم. ولكنه كان قرارا سياسيا منذ اللحظة الاولي. كان رسالة يراد تبليغها الي الحكام العرب والمسلمين والافارقة والاسيويين جميعا: ان هذا هو مصير من تقرر اميركا انه واقف ضد مصالحها ولو كان في الاصل احد اكبر عملائها في التاريخ كله. وهي رسالة الي الشعوب المغلوبة علي امرها كافة: ان الذي يظلمكم ويقهركم ليس من هؤلاء الحكام الذين ينتفخون عليكم كالطواويس ولكنه السيد الاميركي الابيض الذي يملك امرهم وامركم، ويستطيع ان يفعل بكم مثل ما فعل بالشعب العراقي منذ سنة 1990 الي سنة 2003 ثم يفعل بمن لا يعجبه شأنه من الحكام مثل ما فعل صدام حسين.
وهي رسالة من واجب الحكام ان يستوعبوها جيدا، وان يتأملوا المقصد الاميركي منها، وان يسرعوا في الالتحام بالقوة الوحيدة القادرة علي حمايتهم وهي شعوبهم التي يقهرونها ويروعونها ويحرمونها من حقوقها الانسانية فضلا عن السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وليس من سبيل الي تحقيق ذلك الا بالعمل الديمقراطي الصحيح الذي يتخلي فيه الخالدون عن خلودهم، والمورثون عن خططهم، والقابضون بيد من حديد علي زمام الامور عن سيطرتهم الغشوم، ويتيحوا لشعوبهم حرية الاختيار، فعلا لا قولا، وتحقيق التغيير بارادة الناس لا بصيغة تطوير الحزب لاحكام سيطرته علي مقدرات البلاد والعباد.
ويغير ذلك فان سيناريو الاحداث قد لا يتكرر بحروفه، لكن الخاتمة ستكون دائما واحدة!
****
واما قضية القانون الفرنسي بمنع صور التميز الديني داخل المدارس والمؤسسات الحكومية، فان مناقشته بطريقة جادة وعلمية غير ممكنة لانه لم يصدر حتي الان لكن الذي قالته لجنة (ستازي) عن صون العلمانية بالمساواة بين اتباع الاديان المتعددة التي يعتنقها المواطنون الفرنسيون، ومن بينه منح اجازة رسمية في مناسبتي عيد الاضحي (الاسلامي) وعيد الغفران (اليهودي) لم يجد له صدي الا في شأن الحجاب والقلنسوة والصلبان الكبيرة. وهذه عبارات شديدة العمومية. فأي حجاب سيمنع؟ هل هو غطاء الرأس ام ما يسميه العامة بالخمار، ام النقاب واذا منع غطاء الرأس فماذا سيكون الشأن بالنسبة للراهبات اللائي يعمل عدد كبير منهن في المدارس والمستشفيات الحكومية؟ هل سيجبرن علي خلع زيالرهبنة؟ ومن الذي سيحدد حجم الصليب الكبير والصغير؟ واي نوع من القلانس سيحظر ارتداؤه! ان كثيرين من القساوسة الكاثوليك يرتدون قلنسوة تشبه التي يرتديها اليهود، هذه كلها اسئلة سيجيب عنها القانون المزمع اصداره وعندها يمكن لمن يعنيه الامر مناقشتها بالحرية والسعة اللتين تسمح بهما (العلمانية) الفرنسية لكن الذي لا يجوز لاحد مناقشته، ولا يجوز لمن ينسبون الي دين الاسلام -علماء كانوا ام عوام- قوله: هو ان منع المسلمة من ارتداء حجابها شأن لا يعني احدا سوي الحكومة الفرنسية انه شأن يعني اولا وبصفة اساسية مسلمي فرنسا كلهم، ويعني ثانيا علماء الاسلام واهل الفتوي منهم بوجه خاص لئلا يضل من اهل الاسلام احد او يزل بناء علي قولهم العجيب: (هذا شأن داخلي)!!
ومفهوم (الشأن الداخلي) مفهوم سياسي، يتصل بالعلاقات الدولية، مؤداه الا تتدخل دولة في شأن يخص دولة اخري دون سواها، ولا يتعدي سلطتها السياسية او الادارية الي المساس بعقائد الناس وشعائر دياناتهم والواجبات التي تلقيها تلك العقائد والديانات علي الفرد او الجماعة.
فأين هذا كله من مسألة الحجاب الواجب علي المسلمة ان تلتزم به؟
وما شأن الدولة السياسي او الاداري بمدي التزام الناس بأحكام دينهم وطاعتهم لربهم؟
والعجيب ان بعض المنسوبين الي علماء الاسلام يقولون ان هذا شأن فرنسي داخلي (!) والولايات المتحدة الاميركية تظهر القلق، بسبب مشروع هذا القانون علي الحريات الدينية في فرنسا وتعلن انها ستتابع هذا الموضوع باهتمام وانه يمثل مصدر قلق منهم للولايات المتحدة الاميركية لان الحجاب لا يجوز منعه ما دام لا يمثل استفزازا او ترهيبا (الحياة 20/12/2003).
ولا يقل الموقف البريطاني وضوحا عن الموقف الاميركي فقد اشارت وزير الدولة البريطانية الي ان بلادها فخورة بتقاليدها في مجال حرية التعبير والدين. وانه في وسع المرأة ان ترتدي الحجاب دون اي مشكلة في الاماكن العامة او في المدرسة واعتبر الفرنسيون هذا التعليق الحكومي البريطاني انتقادا للقرار الفرنسي (الحياة ايضا).
ان الحجاب عند المسلمين واجب من الواجبات التي ينبغي علي المرأة ان تؤديها لتستر ما امرت ستره شرعا من الشعر والعنق والصدر، وهو ليس رمزا دينيا وانما هو واجب ديني والفرق بين الرمز والواجب ان الرمز اعلان هوية لا يقصد به إلا التميز عن الآخرين المختلفين والتعارف بين المتماثلين في العقيدة او الديانة فالصليب رمز والقلنسوة رمز، لكن اداء الواجب الديني بارتداء ما يستر الشعر والصدر والعنق لا يمكن ان يعتبر رمزا، والمرأة المسلمة التي تؤدي هذا الواجب تؤدي طاعة لها اجرها - ان شاء الله- والتي تتركه تترك واجبا لو فعلته لأثيبت عليه وتركه تقصير في اداء واجب ديني امره متروك الي الله تعالي وحده، ان شاء أخذها به وان شاء غفر لها.
ولذلك فالكلام في شأن الحجاب كلام في دين الاسلام وما امر به وما نهي عنه وليس كلاما في شأن داخلي فرنسي او لأي دولة كانت وسكوت علماء المسلمين اليوم، وتنصل بعضهم عن قول الحق فيه، سيشجع علي منع واجبات اخري في بلاد اخري، ويتذرع كل ذي هوي، او عداوة للاسلام، بهذه الفتوي العجيبة: ان امر الدين وتعاليمه (شأن داخلي)!!
انني اعلم ان كلام العلماء في اي بلد اصبح -للاسف الشديد- غير مؤثر في قرار بلده، فضلا عن قرار بلد آخر، لكن قول الحق والصدع به، وتقوية استمساك الامة بواجبات الدين وتحذيرها من محرماته ونهيها عنها، كل ذلك واجب علي من يعدون من العلماء لا يسقط بتولي منصب، او عضوية هيئة، او الطمع في سمعة، عند الناس، حسنة.

كاتب مصري