محمود محمد الناكوع
&
&
&

فى مستهل هذه المقالة ، لابد من التذكير بسقوط دولة الاستبداد الكبرى ( الاتحاد السوفيتى ) تلك الدولة التى وقفت الى جانب كل النظم العسكرية الشمولية باعتبارها نظما معادية للامبريالية الاميركية زمن الحرب الباردة ، فالاتحاد السوفيتى هو الذى سلح تلك النظم الشمولية ، وشجعها على شراء وتكديس مالدية من اسلحة متخلفة فى عمومها عما انتجه الغرب الديمقراطى الذى يتفوق فى كل شيئ عن منظمومة الدول الاشتراكية ، منظومة حلف وارسو الذى انتهى منذ التسعينيات من القرن الماضى....
ان بداية تفكيك النظم الاستبدادية بدأت براس الهرم الاتحاد السوفيتى ، ثم توالى سقوط حكام ونظم الاستبداد فى اوربا الشرقية ، فقطع الرأســ كما يقال ــ كان كفيلا بقطع وموت بقية الاطراف. وشاهد كل العالم عبر ما وفرته ثورة الاتصالات والمعلومات كيف تدحرجت الرؤس من قمة السلطة وانتهت الى المقابر او الى محكمة لاهاي.
وبعد ان انهى الاستراتيجيون الغربيون عبر سيطرتهم على مجلس الامن ، وعبر قواتهم العسكرية المتجسدة فى حلف الاطلسى خططهم الخاصة بالاتحاد السوفيتى وحلف وارسو ، حولوا قدراتهم الفكرية والسياسية والعسكرية لاعادة رسم خارطة العالم الاسلامى ومركزه الشرق الاوسط. فقد اصبح هاجس الامن ، والبحث عن طريقة لتحقيق ذلك الامن هو اس التحرك الاميركى ــ الاوربى ، واصبحت الولايات المتحدة هي الامبراطورية التى تقود حركة التغيير العالمى مستخدمة كل وسائل الترغيب والترهيب.
ورغم مشهد السقوط لنظم الاستبداد فى دول حلف وارسو فان النظم العربية التقليدية والثورية الدكتاتورية لم تكن قادرة على استيعاب حركة التاريخ وما تنطوى عليه من دروس وعبر ، وظلت هذه الانظمة فى عمومها تتخبط وتبحث عن المسكنات لأمراضها وشيخوختها ، ونسيت ان وعي شعوبها يتطور ولو ببطئ نحو الافضل ، نحو العدل والحرية والديمقراطية.
وجاءت اخطاء النظام العراقى وغزو الكويت لتعرى الواقع العربى تعرية لا مثيل لها على كل المستويات.
وبعد نحو عشر سنوات من غزو الكويت ، وما ترتب عليه من حرب مدمرة للعراق ، جاءت كارثة سبتمبر / ايلول لتفتح الباب امام الغوص فى ثقافة وفكر الاستبداد وانظمة الأستبداد التى هيأت التربة المناسبة والمناخ المناسب للتطرف وما يجره من ويلات على الجميع.
وكان العقل الاستراتيجى الغربى جاهزا ومستعدا فكرا وتخطيطا واعلاما ليوظف كل الاخطاء العربية والاسلامية الرسمية وغير الرسمية توظيفا مؤثرا وفعالا ، وعايشنا وتابعنا القرارات الاستراتيجية الحاسمة والصادرة عن قيادة الامبراطورية الاميركية: فسقط نظام الملالى فى كابول ، وبعد ذلك بسنتين سقط نظام حزب البعث فى العراق ، واصبحت دولة عربية كبرى محتلة من الجيوش الغازية. ويجرى الآن تفكيك كل ما صنعه نظام الحزب الواحد والرئيس الواحد.
وبعد سقوط بغداد ، تابعنا كيف انصاعت جميع الدول العربية الى اوامر الامبراطورية الاميركية ، وقالت بصوت واحد نحن مع واشنطن ضد الارهاب، دون ان يدرك بعضها انهم من صناع الارهاب ، واصبحت الاجهزة الامنية العربية تقدم لوكالة المخابرات الاميركية كل ما لديها من اسرار ، حتى وان كانت تلك الاسرار خاصة جدا.
وفى مساء الجمعة التاسع عشر من ديسمبر 2003 جاءت مفاجأة النظام الليبى الاستسلامية بالاعتراف بانه يملك اسلحة الدمار الشامل. وصفق رئيس الوزراء البريطانى تونى بلير ، والرئيس الاميركى جورج بوش لهذا القرار ، واعتبراه انجازا يجب ان يحتذى من كل الدول الموصوفة بانها مارقة وخارجة عن القانون. القرار الليبى كان افضل هدية لبلير وبوش فى عيد السيد المسيح عيد الكرسمس.
المهم فى القرار الليبى ان عملية تفكيك الترسانة العسكرية للنظام الشمولي المستبد لأكثر من ثلاثين عاما جاءت مباشرة بعد اعتقال الرئيس العراقي السابق صدام حسين ، وجاءت بعد ذلك المشهد الذى افزع كل الحكام العرب.
وعملية التفكيك لن تتوقف عند بضعة اكداس من الخرداوات ، او عند مجموعة من ملفات برامج التسليح التى يغطيها التراب منذ سنوات طويلة ، بل ان عملية التفكيك المذلة والمهينة سوف تصبح اخطبوطا له بداية وليس له نهاية ، ولا احد يعلم الى اين ستقود رؤوس النظام الليبى ، وغيره من الرؤس العربية التى ظلت تمارس الدكتاتورية والاستبداد فى ابشع صورها وضد شعوبها.
ان الدكتاتور كما قالت السيدة الحديدية ثاتشرــ فى عصر حكمها وقوتها ــ (لايفهم الا منطق القوة ) وتؤكد كل التجارب ان الدكتاتور لايعرف لغة الحوار ولا لغة الاصلاح ، ولا يستجيب لنداءات العقلاء ، ولا يؤمن بان الحاكم وظيفته خدمة الشعب ، وليس التسلط عليه. ولذلك هاهو مسلسل انهيارات النظم الاستبدادية يتواصل ، وهاهي حتمية التغيير تطيح برؤوس الاستبداد الواحد تلو الآخر.
وحركة التغيير بكل عواصفها تهز الآن منطقة الشرق الاوسط ، او بتعبير اوضح تعصف بالنظم العربية ، وهي فى عمومها انظمة استبدادية ، وبالتأكيد ان هذه العواصف سوف تمهد الطريق لعصر جديد هو عصر الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان ، وسوف يؤدى هذا التطور الى سريان روح جديدة فى شعوب المنطقة.
هذا هو منطق حركة التغيير التاريخى عندما يبدأ لايتوقف ، والتضحيات هي بعض اسباب التغيير ، والسجون والمذابح الجماعية والمنافى تشهد ان الشعوب العربية قد قدمت ومازالت تقدم التضحيات ، ورغم قلتها فانها تمثل مشاعل مضيئة فى واقع مظلم ، وتمثل منارات الأمل امام اجيال قادمة لعلها تكون اكثر حظا فى حياة كريمة عزيزة ، فى ظل نظم اكثر عدلا واستقرارا ورفاهية.