"إيلاف"&من القاهرة
ماذا تبقى لم يكتب عن ثومه ..
وماذا أبقت هي لغيرها من المطربين ..
الحب كله‏..‏ إنت عمري ..‏ حيرت قلبي ..‏ ليلة حب ‏..‏ ودارت الأيام ‏..‏ الأطلال ‏..‏ أمل حياتي ‏..‏ يامسهرني‏ .. ثورة الشك، بهذه العناوين ومئات غيرها شدت أم كلثوم لتصل إلى ملايين القلوب، ويردد معها العشاق في كل أنحاء العالم أجمل الألحان، وكانت ولم تزل بصوتها تحلق بالروح إلى عوالم ساحرة من المشاعر النبيلة، والحديث عن "ثومه" لن ينتهي أبدا‏ً,‏ و"دارت الأيام" ومرت "ألف ليلة وليلة"، ظهرت خلالها أجيال جديدة من المطربين والمطربات، لكن لم يعش أحد منهم في وجداننا كما عاشت أم كلثوم.
ففي مثل هذه الأيام، لكن قبل مائة وخمسة أعوام ولدت "أم كلثوم"، في قرية منسية بدلتا مصر، اسمها (طماي الزهايرة) قدر لها أن تكون أشهر قرية في مصر بفضل ابنتها التي أصبحت المطربة الأولى في تاريخ الغناء العربي، ولم تزل تتربع على عرش الطرب حتى اليوم بكل المعايير، فأغنياتها هي الأكثر توزيعاً، وعلى مستوى الكمّ لم يصل مطرب عربي إلى الرقم الذي سجلته "ثومه"، نحو ثلاثمائة أغنية، لأشهر الملحنين مثل محمد عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وغيرهم، كما تغنت بقصائد لكبار الشعراء مثل أحمد شوقي وإبراهيم ناجي والأمير عبد الله الفيصل وغيرهم، ولم يدلل العرب مطربة مثل أم كلثوم، التي صارت تحمل لقب "الست" واستقبلها ملوك ورؤساء الدول ومنحوها أرفع الأوسمة، ولم يتفق العرب على أمر كما اتفقوا على "ثومه"، إذ كانت حفلاتها يوم الخميس تعد حدثا وطنيا في كل أنحاء العالم العربي‏، فالذين فرقتهم السياسة جمعتهم أم كلثوم.
واذا حاولنا رسم صورة كلية لما قدمته أم كلثوم للغناء العربي فإننا نستمدها مما قالته هي بنفسها "اعتقد أن اهم ما يمكن ان يكتب عني بعد موتي انني نقلت الجمهور من أغاني (ارخِي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانا تجرحنا) الى مستوى رباعيات الخيام", وأم كلثوم صادقة جدا في مقولتها لأنها ساهمت في الارتقاء بالوجدان العربي, وكتب عنها الدكتور طه حسين ان أم كلثوم بصوتها النادر في امتيازه سواء في الجمال أو في سلامة نطق العربية ساهمت عندما غنت القصيدة في اثبات جمال اللغة وطواعية موسيقاها حتى في أصعب الكلمات لموسيقى الغناء, وكان لصوتها فضل في انتشار الشعر العربي على ألسنة العامة والخاصة, وكتب نجيب محفوظ يقول: "كانت أم كلثوم فنانة عبقرية وانسانة عظيمة, تتبين عظمتها الانسانية في التزامها بالمبادئ السامية والانسانية"، كما أرسل لها شارل دي غول برقية قال فيها: "لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعاً".
صناعة نجم
الحب كله‏..‏ حبيته فيك‏..‏ الحب كله‏..‏
وزماني كله أنا عشته ليك .. زماني كله‏..‏
حبيبي قول للدنيا معايا‏..‏ ولكل قلب بدقته حس‏..‏
يا دنيا حبي وحبي وحبي‏..‏ دا العمر هو الحب وبس .‏.
بهذه الكلمات الرائعة في بساطتها، وغيرها شدت بها أم كلثوم لتصل إلى ملايين القلوب ويرددها العشاق في كل أنحاء العالم العربي‏.‏
وكانت ولازالت بصوتها تحلق بالروح إلى عالم ساحر من المشاعر‏.‏ والحديث عن كوكب الشرق لن ينتهي أبدا‏,‏ ودارت الأيام ومرت ألف ليلة وليلة ظهر خلالها أجيال جديدة من المطربين لكن لم يعش أحدا منهم في وجداننا كما عاشت أم كلثوم.
وأم كلثوم نموذج لصناعة نجم بجهود ذاتية يقف وراءه شيخ فقير كل ما يملكه في الحياة هو كرامته وإصراره على النجاح‏,‏ وهو والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي‏.‏ وأم كلثوم ولدت كما أجمع عدد كبير من المؤرخين يوم‏30‏ ديسمبر عام‏1898,‏ بقرية طماي الزهايرة مركز السنبلاوين محافظة الدقهلية‏.‏ وهناك روايات أخرى تقول أن تاريخ ميلادها هو‏4‏ مايو عام‏.1904‏ وإسمها الحقيقي فاطمة، وأطلق عليها والدها إسم أم كلثوم تيمنا بإسم إحدي بنات النبي‏ (‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏ والتحقت بكتاب القرية وعمرها خمس سنوات وقضت به ثلاث سنوات اتقنت خلالها حفظ القرآن وتجويده‏,‏ وقد ساعدها ذلك على سلامة النطق وفصاحة اللسان‏.‏ واكتشف والدها الذي كان يقوم بغناء التواشيح الدينية في المناسبات المختلفة بالقرية موهبة أم كلثوم في سن مبكرة‏,‏ وأدرك أنها هبة من السماء،‏ وأصبحت بالفعل فيما بعد هي نجمة فرقة الإنشاد الديني المكونة من الأب والأخ خالد والعم وبعض الأقارب.
وبدأت أم كلثوم رحلة الفن من السفح وشقت طريقها في الصخر بأظافرها‏,‏ وانتقل صيتها من القرية إلى المركز إلى المديرية حتى طافت كل قري مصر على ظهر حمار للغناء،‏ ثم وصلت إلى العاصمة واستقرت بها نهائيا عام‏1923‏ بناء على نصيحة الشيخ أبو العلا محمد أشهر مطربي عصره والذي كان قد سمع أم كلثوم قبل ذلك بإحدى الحفلات في مركز السنبلاوين‏.‏
وتعهدها الشيخ أبو العلا بالرعاية ودربها على الغناء ولحن لها أكثر من‏50‏ لحنا وظل يرعى خطواتها الأولى حتى توفي عام‏.1927‏
ويرجع للشيخ أبو العلا الفضل في انتقال أم كلثوم من مرحلة غناء القصائد الدينية، إلى الغناء العاطفي الراقي‏،‏ كما عرفها على شاعر الشباب أحمد رامي عام‏1924‏، ومنذ ذلك الوقت لم يفترقا وكتب لها رامي حوالي‏30‏ أغنية‏,‏ عكست قصة حبه العميقة تجاه أم كلثوم‏.‏ كما يرجع الفضل إلى رامي في تثقيفها وامدادها بما يلزمها من كتب الأدب ودواوين الشعر ووصل تذوقها للشعر إلى حد أنها كانت تستطيع ببراعة كاملة استبدال الكلمات الثقيلة على الأذن بكلمات أخرى بسيطة.
مراحل فنية
ومراحل أم كلثوم الفنية تنقسم إلى مرحلة مبكرة لحن لها فيها الشيخ أبو العلا محمد وأحمد صبري النجريدي ومحمد القصبجي‏,‏ ثم مرحلة متوسطة في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وهي المرحلة التي تولي التلحين لها فيها زكريا أحمد ورياض السنباطي‏.‏ أما المرحلة الفنية الحديثة فغنت فيها أم كلثوم ألحان محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل وسيد مكاوي.
وكان أول لقاء لأم كلثوم وعبد الوهاب عام‏1964‏ في أغنية إنت عمري‏,‏ كلمات أحمد شفيق كامل وأطلقت الصحافة على هذا اللقاء لقاء السحاب‏,‏ ويقال أنه كان بتوجيه من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي ابدي رغبة قوية في أن يجمعهما عمل فني واحد‏,‏ وقد نجحت أغنية أنت عمري نجاحا منقطع النظير ولازالت حتى الآن تتصدر قائمة أفضل الأغاني‏.‏
وكان موسم سيدة الغناء يبدأ بالخميس الأول من كانون الأول (ديسمبر)، وينتهي بالخميس الأول من حزيران (يونيو) أي‏7‏ حفلات سنويا‏,‏ وقد بدأت هذا النظام منذ عام‏1935‏ عندما افتتحت الإذاعة المصرية حفلاتها الخارجية بنقل حفل لأم كلثوم‏,‏ واستمر حتى آخر حفل أحيته يوم‏7‏ كانون الأول (ديسمبر) من العام‏1973‏، وانسحبت بعد ذلك من الساحة الفنية بعد أن اشتدت وطأة المرض عليها حتى وفاتها في‏3‏ شباط (فبراير) عام‏ 1975‏ وكانت حفلات أم كلثوم يوم الخميس تعتبر حدثا وطنيا في مصر وكل أنحاء العالم العربي،‏ وكان يحضر إليها جماهير العرب خصيصا للإستماع إلىها، وعلى مدى أكثر من نصف قرن ظلت "ثومه" نقطة التقاء وموضع اتفاق كل ألوان الطيف، فالذين فرقتهم السياسة جمعتهم "ثومه" حول صوتها‏,‏ وكأن للوجدان كما للأرض قانونا للجاذبية.
وهناك ظاهرة رئيسية تستوقف الذين عاصروا أم كلثوم وكتبوا عنها‏,‏ الا وهي حسها الوطني الذي ترجمته عملياً في كثير من الأغاني الوطنية التي غنتها قبل وبعد حركة الضباط في 1952،‏ وتجلت وطنيتها في أورع صورها عندما أصابت الجراح مصر بعد نكسة‏1967‏ واعتصرت الأحزان قلب أم كلثوم ورأت أن لاتقف عند حدود التبرع بالمال وقادت حملة لجمع التبرعات من أجل المجهود الحربي وإعادة تسليح الجيش المصري‏.‏ وفي بداية عام‏1968‏ أقامت أم كلثوم الحفلات من أجل هذا الغرض وخرجت تطوف الدنيا من المحيط إلى الخليج وغنت في معظم الدول العربية حيث كانت تستقبل استقبال الملوك‏,‏ كما كانت أول مطربة عربية تغني على مسرح أوليمبيا أشهر مسارح باريس‏,‏ وتمكنت خلال عام واحد من جمع مليون جنيه.
حياتها العاطفية
وحياة أم كلثوم العاطفية تلخصها كلماتها لأحمد رامي وهي على فراش الموت‏:‏ لقد وجدت دائما صعوبة في الخضوع للرجال لأنهم كانوا دائما عند قدمي‏.‏ و كان في حياتها أربعة رجال هم أحمد رامي ومحمد القصبجي وكان حبهما من طرف واحد، وفي عام‏ 1946‏ أعلنت خطبتها على الملحن الشاب محمود الشريف والذي يؤكد البعض أن زواجهما تم بالفعل‏,‏ ولم يستمر سوى أيام بسبب استنكار الرأي العام له بشدة‏,‏ والحقيقة أنه كان الحب الحقيقي في حياتها‏.‏ وفي عام‏1952‏ تعرفت على الدكتور حسن الحفناوي وأحبته وتزوجته وكان متزوجا ويصغرها بـ‏17‏ عاما‏,‏ ولم يعلن زواجهما إلا في العام ‏1954‏ واستمر حتى رحيلها.
ولعل عظمة أم كلثوم ترجع إلى موهبتها الفطرية وصوتها الذهبي الذي وهبها لها الله، وتؤكد دراسات علمية أنه فريد من نوعه من حيث القوة وتعدد طبقاته‏,‏ كما برعت في التمثيل ببساطة وتلقائية، ومثلت ستة أفلام ناجحة من عام ‏1936‏ حتى عام‏1945‏.
ماذا تبقى ليقال في حق "ثومه"، سوى أنها لا تزال حتى يومنا بأغنياتها، هي المنهل الصافي للحب، غنت فأبدعت وانتزعت الآهات من الصدور‏,‏ وأنشدت للوطن فشمخت بها الأغنيات الوطنية وقدمت الكلمة العامية فارتقت بها‏,‏ وشدت بالفصحي فجعلت منها لغة بسيطة يرددها رجل الشارع‏,‏ ولذلك استحقت عن جدارة صيحة الجماهير الموحدة والتي كانت تنطلق بعفوية في كل حفلاتها‏:‏ عظمة على عظمة يا ست‏.‏