أجرى الحديث أشرف عبد الفتاح عبد القادر
&
&
ذهبت للقاء د. عاطف أحمد الطبيب النفسي وأنا أتذكر تاريخ البشرية التي تخاف من كل ما هو جديد، وتتمسك دائماً بالقديم رغم مساوئه، وتذكرت كيف أن الحداثة كما ذكر فرويد كابدت ثلاثة جروح نرجسية قلبت كل موازين الفكر البشري خلافاً للمعتقدات الساذجة ، أما الجرح الأول فهو ما قاله جاليليو من أن الأرض ليست هي مركز الكون، بل إنها كوكب ضئيل بين الكواكب، أما الجرح الثاني فهو ما قاله داروين بنظرية التطور، من أن الإنسان ليس هو مركز الكائنات وسر الوجود ومن أن الله خلقه على صورته وخلق كل شيء من أجله، فأثبت داروين أن الإنسان ليس إلا كائناً بين الكائنات، تطور عن أصل قرد، أما الجرح الثالث فهو ما اكتشفه فرويد نفسه، خلافاً لما هو سائد حيث كانوا يعتقدون أن العقل هو مركز الإنسان، فقال لهم فرويد أن العقل ليس سيداً في بيته وأن السيد الحقيقي للعقل نفسه هو اللاعقل أي "اللاشعور" كانت هذه الاكتشافات العلمية بمثابة الجروح الثلاثة التي حطمت الأوهام الكبرى التي عاشت عليها البشرية دهوراً، وبعد أن التقيت د. محمد عاطف أحمد وعرفت منه أنه ترك مهنته كطبيب نفسي وتفرغ للكتابة والفكر وهي هوايته المفضلة.أعترف أني لم أقرأ شيئاً للدكتور عاطف احمد. لكن بعد إجراء الحديث معه شعرت أنني أمام مفكر متعدد المواهب وعميق الفكر وجدير بي أن أتتلمذ عليه وهو ذات الشعور الذي استولي علىّ وأنا أستمع للأستاذ جمال البنا صاحب المدرسة الفقهية القرآنية الجديدة ، ولشافعي مصر المستشار والصديق الأستاذ محمد سعيد العشماوي، ولجبرتي مصر المعاصرة د. رفعت السعيد، وللأستاذة الفاضلة التي جمعت بين الثقافة والشجاعة الفكرية والسياسية سيدتي فريدة النقاش التي أتمني أن يستمر عطاؤها لبنات وأبناء مصر العزيزة التي هي دائماً في القلب.
&
* د. عاطف متى وأين ولد؟
- أنا من مواليد 1/10/1939 في قرية الفنت محافظة بنى سويف.
&
* كيف كانت طفولة د. عاطف؟
كانت طفولة قلقة فكريا و نفسيا لأنني كنت كثير الأسئلة ولا استقر على حال وحتى الآن وأنا تلازمني هذه الحالة.
&
* ما هي ذكرياتك عن الطفولة؟
- لا أذكر الكثير عن هذه المرحلة ولكنها كانت طفولة عادية كأي طفل ولكن الذي كان يميزها هي عدم استقراري على حال.
&
* ما هي العوامل التي أثرت في فكرك وتكوينك الثقافي؟
- أنا بدأت مع جماعة الإخوان المسلمين ثم انتقلت إلى فكر خالد محمد خالد، ثم انتقلت مع سارتر إلى الوجودية وانتهيت بالماركسية والآن تكونت لدي، فضلا عن ذلك، نزعات ليبرالية، وتستطيع أن تسميني ماركس ليبرالي إن جاز هذا التعبير.
&
* في حوار جانبي معك ذكرت لي أنك تركت الطب النفسي وتفرغت للكتابة. كيف حدث ذلك؟
- كان والدي يريد أن أدخل كلية الطب،وكنت لا أريد ذلك وأريد أن أشتغل بالفكر وكان يشتكى للأقارب والأصدقاء من رفضي تلبية رغبته، ولازمه شعور بالحزن العميق من جراء ذلك، حتى أنني دخلت كلية الطب إرضاء له، ولكن اعتقلت وأنا في السنة الأولى وعندما خرجت من السجن، وجدت أنني فصلت من الكلية وقضيت أربع سنين بعد الفصل حتى عدت إلى الطب مرة أخرى فكنت في توتر بين الطب والفكر وتخرجت من الطب سنة 1966 ومكثت عشر سنوات في كلية الطب حيث كنت قد التحقت بها في عام 1956 وعندما تخرجت لم أجد مصدراً للدخل سوى الطب فعملت بالطب ولكني كنت أكتب بعض المقالات وأخذ عليها ثمناً زهيداً.
&
* كم كان أجر المقال وقتها؟
- ثمانية جنيهات، وكان هذا مبلغ لا باس به،حيث يمكنك العيش به شهراً كاملاً وكنت في تناقض باستمرار بين الطب والفكر، وكتبت كتاب " نقد الفهم العصري للقرآن " عام 19970 هذا الكتاب كتبته وأنا طبيب، والكتاب الآخر1971 وهو "دراسة في نقد العقل الوضعي ذكى نجيب محمود".
&
* عملت بالطب إلى متى؟
- من عام 1967- 1990
&
* هل كنت دكتوراً ناجحاً، أم أنك كنت تمارسها لكسب العيش فقط؟
- لا شك أن الطب النفسي ساعدني في فهم الحياة، وكانت له انعكاسات على حياتي، ولى بعض التحفظات على فرويد فاكتشاف اللاشعور كان أعظم شيء اكتشفه فرويد وانعكاس ذلك في الأحلام، لكن لى تحفظات على عقدة أوديب، هناك موقف أوديبي، موقف الاستقلال الشخصي عن الأم يبدأ الإنسان في السيطرة على أجهزته البيولوجية، أما فكرة أن تؤول تأويلاً جنسياً، هذه تخريجات من خارج العلم،وخارج الخبرة الاكلينيكية التي عاشها فرويد، فهو يتصور أن الذهان عقدة شخصية من حالة صراع نفسي عاشه الإنسان واضطر أن يكبت مشاعره فيه ولم يعبر عنه وقتها وبالتالي حدثت حالة تثبت شعوري فيها، الفكرة هنا أن العلاج بالنسبة له هو العودة إلى الموقف الأصلي وأن تعيشه انفعالياً مرة أخرى وتعبر عنه من جديد، وأنا لا أرى ذلك ولا اقتنع به.
&
* د. عاطف عمل لأوائل التسعينات بالطب النفسي فما الذي حدث له ليتفرغ للفكر ويترك الطب؟
- كنت أعمل بالفكر وأنا طبيب، وكانت هناك مشاغل فكرية تشغلني باستمرار، والتساؤلات مستمرة باستمرار منذ الطفولة.وقد تفرغت للكتابة والتفكير بمجرد أن أصبحت قادرا ماديا على ذلك.
&
* هل اثر عملك كطبيب نفسي على فكرك؟
- لا أعرف بالضبط، ولكنه ساعدني على فهم الناس، وساعدني على أن أضع نفسي موضع الناس لأفهم وأتفهم دوافعهم وبالتالي على التماس الأعذار لهم لأني أعرف أسباب تصرفاتهم لأنهم صادقون مع أنفسهم،حتى ولو كانت أفكارهم وتصرفاتهم خارجة على المألوف وعلى القانون وعلى الأخلاق. فالناس ضحايا تربيتهم في طفولتهم ومراهقتهم، وضحايا الصدمات النفسية التي عانوها، حتى الجلاد هو دائماً جلاد وضحية في نفس الوقت. فلا شك أن ذلك اثر في تفكيري.
&
* كنت أحد المشاركين في المؤتمر الذي انعقد في باريس لتحديث الخطاب الديني لمواجهه تحديات القرن الحادي والعشرين.ما هو ملخص الورقة التي أسهمت بها لتحديث الخطاب الديني؟
- أولاً مسألة الخطاب الديني لي ملاحظة على الاسم، لماذا قلنا خطاب ولم نقل فكر؟ أنا أفسر ذلك بأن كلمة خطاب حديثة الاستعمال أو هي الموضه، فلو أخذنا كلمة خطاب،فسنجد أن معناها منظومة فكرية ما يوحّد بينها منهج وموضوع و هدف معين، وليس شرطاً أن تكون مكتوبة، إنما يكفي أن تتوافر فيها تلك الشروط. فهل الخطاب بهذا المعنى ينطبق على الدين؟ مثلاً الدين الشعبي مثل التصوف غير مكتوب لكنه يشكل خطابا أو منظومة فكرية معينة. الملاحظ أن تعبير خطاب يكون أوسع من فكر، لكن الموقف الأساسي هو أن الخطاب الديني جزء من الخطاب الفكري أي جزء من ثقافة وبنيه المجتمع. و نحن كمثقفين يمكن أن نكون عامل تأثير, إذ بإمكاننا من خلال علاقتنا بالجماهير واتصالنا بالناس أن نشيع هذا الفكر حتى إذا توافرت له ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية مواتية فإنه يمكن أن يحدث تغييرا, أما إذا لم يحدث هذا التغيير فسيكون دور الفكر محدود ويجب أن نتفق أولاً فيما بيننا على مفردات ما أو قيم فكرية ما مثل التعددية الفكرية، وقبول الرأي الآخر. من الممكن أن اختلف مع فكرك لكن خلافنا الفكري لا يجب أن يتحول إلى خلاف شخصي مثلما هو حادث حاليا، فالخلط بين الشخص والفكري مسألة لم نحلها بعد. ممكن كمثقفين أن نتناول الدين بشيء أسميته " الإسلام النقدي " والمقصود به النظرة النقدية من داخل الفكر الإسلامي فالقرآن مثلاً فيه مكون عقيدي ومكون عبادي ومكون دنيوي، المكون الدنيوي في القرآن ليس دينياً إطلاقاً ويجب فصله عن الدين تماماً. المشكلة الأساسية في الخطاب الديني هو الخلط بين الدنيوي والديني، النبي نفسه ورد عنه أنه قال " أنتم أعلم بشئون دنياكم.
فيجب النظر إلى الدين كظاهرة سسيولوجية فكرية مرتبطة بسياق ثقافي أو اجتماعي معين فالجانب العقيدي لازمة على اعتبار أن ظاهرة الاعتقاد نفسها فوق مقياس الخطأ والصواب مسألة تنتمي إلى مجال السيكلوجيا الاجتماعية. الفكرة هنا أن موضوع الاعتقاد يختلف عن موضوع الفكر. علينا إذن أن نميز بين الاعتقاد الذي هو قناعة شعورية مرتبطة بالوجدان و بالاحتياج النفسي للمعنى والغاية وبين الفكر العقلاني المنطقي والتجريبي. إذ هناك شئ مهم بالنسبة للعقيدة الدينية أنها تجيب على أسئلة خارج نطاق العلم وخارج نطاق أي مبحث منطقي. تجيب على أسئلة المعنى الكلى والغاية النهائية, وارتباط الإنسان بالحياة وبوجوده الشخصي يتطلب ذلك .
&و العقيدة بهذا المعنى لا تناقش معرفيا ولا منطقيا بل تحلل سوسيولوجيا ونفسياً وانثروبولوجياً ورمزياً..إلخ.. بل إن المادية والمثالية مثلاً وهى مذاهب فلسفية، هما بتعبير لينين نفسه, مسلمتان أوليتان فلا تستطيع أن تدلل على صحة المقدمات الأولية لأي منهما. لذلك الجانب العقيدي يجب التسليم به، ومجال نقدها أو تحليلها هو سيوسولوجيا الدين أو تاريخ الأديان المقارن، أو السيكولوجيا وليس المنطق ولا العلم بمعناه التجريبي الذي يدرس الظواهر الخاضعة للقياس. لكن الله وخلود الروح والجنة والنار هي أمور لا يمكن إخضاعها للتجربة أو القياس. فإما أن تؤمن أو لا تؤمن فالمسألة شخصية تخصك وحدك.
الفكرة هنا أن الجانب الغير عقيدي المذكور في القرآن والنص الديني الدنيوي كان مرتبطاً بالواقع ارتباطاً شديداً جداً وارتباطاً كلياً، فأي نص دنيوي ورد في القرآن مرتبط بوقائع محددة، فلو لم تحدث هذه الوقائع لما ورد النص الخاص بها، فالنص الدنيوي محدد بأحداث معينة في ظروف معينة لناس معينين، بعقلية وتركيبه معينه. بهذا يمكن فهم الجزء الدنيوي الموجود في القرآن. فالمسألة هنا هي تبني رؤية نقدية للتشريعات و الوقائع والقصص القرآنية , لذلك يجب قراءة القرآن قراءة تاريخية ليس فقط لمعرفة أسباب النزول، بل أيضاً لمعرفة السياق الاجتماعي الثقافي والسياسي, لذلك علينا إعادة التفكير في النص القرآني و في فكرة ارتباط النصوص بالواقع ككل و معرفة ما الذي جعلها ترتبط بالواقع وما دلالة ذلك، أنا أرى أن محمدا لم يكن مجرد نبي أو رجل دين، بل كان أيضا إنسانا يعيش في واقع اجتماعي معين, و أنه غير هذا الوضع الاجتماعي بشكل ما, بحيث جعله كياناً قادرا على حمل العقيدة الدينية وبذلك تحققت الغاية من النصوص الدنيوية.
&
* لكن لا يمس العقيدة؟
- لا شأن للنصوص الدنيوية بالعقيدة ولا يمكن أن نستنتجها من العقيدة، فالعقيدة لا يمكن أن تستنتج منها أي نصوص دنيوية، لكن العبادات مرتبطة بالعقيدة، بمعنى أنها طقوس خاصة بالتقرب من المقدس الذي ترتبط بوجوده. وهناك أخلاقيات عامة مرتبطة بذلك، كل هذه التركيبة يمكن القول أنها متجاوزة لفكرة الخطأ والصواب بالمعنى التجريبي. أما الشيء المهم الذي أريد أن أقوله هو أن التشريعات على سبيل المثال هي نصوص ارتبط ورودها بالوقائع التي حدثت وقتها وهي بذلك تشريعات خاصة بها وبوقتها. ويمكن ملاحظة أن هناك موضوعات لم يحدث بشأنها في الواقع الفعلي ما يستوجب ورودها فلم تأت بخصوصها أية تشريعات. معنى ذلك أن التشريعات مرتبطة بالوقائع التي حدثت في مجتمع الجزيرة العربية في القرن السابع ولم يكن هناك تخطيط لما هو آت أو تشريعا للإنسانية ككل. فمثلاً لأنه قد وقعت أحداث تختص بقذف المحصنات وردت الآيات لتحديد ما يجب عمله، بينما التنظيم السياسي أو تداول السلطة لا توجد أية نصوص تنظمها، لأنه لم لم تحدث وقائع فعلية تستوجبها.وهذه نقطة هامة للغاية. إذن المسألة ليست مجرد أسباب النزول بل أكبر من ذلك، فأسباب النزول أهميتها تكمن في فكرتها وفي المنطق الذي وراءها، وهو منطق أن ثمة واقعا معينا تهدف إلى تغييره. الفكرة هنا أن تتحول هذه الجماعة المؤمنة إلى كيان اجتماعي سياسي قادر على حمل الرسالة. بذلك نكون قد حللنا التناقض بين تلك التشريعات وبين العلم و كذلك التناقضات بين التشريعات نفسها. و أما بالنسبة للأحكام العقابية أو القصاص وعلاقتها بالإطار العقابي والتفكير العقابي السائد وقتها. فمفهوم العقاب نفسه، هو مفهوم الموقف من الجريمة و كيفية علاجها وفقا للمتاح من إمكانات وأعراف، فعلى عهد النبي لم يكن يوجد سجن ولا نظام أو مؤسسات دولة، فالوضع مختلف تماماً عن أوضاعنا الراهنة. والجماعات الإسلامية تريد أن تخضع العالم حرفيا للنص الديني وهو أمر مستحيل، فواقع مكة والمدينة في القرن السابع لا يمكن سحبه على واقع العالم في القرن الحادي والعشرين.
&
* هل حل هذا التناقض هو الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وفقا لقول الرسول " أنتم أعلم بأمور دنياكم"؟
- بالضبط هذا ما أتصوره. فالمجتمعات التي ليس لها تاريخ كبير مجتمعات متحررة إلى حد كبير، وتتقبل التطور بسهولة. الدول الأفريقية مثلا من السهل عليها أن تتطور وتكتسب لغة جديدة بسهولة، أما نحن فموروثنا الفكري واللغوي يضغط علينا ويؤثر على قدرتنا على التطور.
يتبع