علي بابان
عندما كتب الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كتابه الوحيد (فلسفة الثورة )تحدث عن دوائر ثلاث تحظى باهتمام مصر و تشكل قوام (الرؤية الاستراتيجية ) للقاهرة ، هذه الدوائر هي (الدائرة العربية)و (الدائرة الإسلامية ) و (الدائرة الأفريقية..) و في الواقع فأن الأخيرة لم تكن سوى (دائرة النيل..)شريان الحياة لمصر التي يحتشد سكانها على ضفافه ، ولذلك فأن تأمين إمدادات النيل كانت ولا تزال الهم الرئيسي للسياسة المصرية في أفريقيا و لهذا السبب تدخل عبد الناصر و دعم لومومبا في الكونغو كما قدم المساندة للكثير من حركات التحرر الأفريقية ،و كانت عين القاهرة على النيل في كل الأحوال، فاذ كانت مصر هي النيل فأن النيل هو هبة أفريقيا فهو ينبع من بحيرة فكتوريا و تغذيه الهضبة الأثيوبية بحوالي 85 بالمائة من مياهه و يقطع طريقه في ثمانية دول أفريقية قبل أن يصل الحدود المصرية.
وفي السنوات الأخيرة عندما تطور التمرد في جنوب السودان و بدا أنه على وشك تحقيق أهدافه بفضل الدعم الأمريكي و الغربي و أظهرت حكومة الخرطوم بزعامة البشير بعض المؤشرات بأنها ستقبل بانفصال الأمر الواقع في الجنوب عندها سارع الديبلوماسيون المصريون إلى الخرطوم ليستوضحوا حقيقة الأمر و نسبوا كل خلافاتهم مع الحكومة السودانية ، فانفصال الجنوب قد يعني بداية ضغوط جديدة على القاهرة فيما يتعلق بإمدادات النيل .
الرئيس المصري حسني مبارك الذي شارك في قمة سرت الأفريقية مؤخرا ذهب هناك و في ذهنه أولوية واحدة هي النيل ،و لم يكن معنيا بطروحات العقيد القذافي حول تشكيل الجيش الأفريقي الموحد ، فلقد كانت المياه هي أحد أهم محاور قمة سرت و الرئيس مبارك كان مهتما بسبر نوايا القادة الأفارقة من دول حوض النيل و معرفة ما يعتزمون الإقدام عليه خصوصا بعد صدور تصريحات مثيرة للقلق من قبل بعض المسؤولين الأفارقة .
معاهدة عام 1929 بين مصر و بريطانيا التي وقعتها نيابة عن مستعمراتها في شرق أفريقيا تعطي مصر حصة الأسد من مياه النيل (55,5 مليار متر مكعب من المياه من إجمالي 84 مليار متر مكعب ) كما تعطيها الحق في رفض أي مشروعات من شأنها أن تؤثر على الوضع القائم لحصص المياه ، كانت بريطانيا تجامل مصر آنذاك و تنظر لها باهتمام بسبب وجود قناة السويس بينما كانت دول حوض النيل الأفريقية مستعمرات فقيرة لا وزن سياسي كبير لها هذا إذا استثنينا أثيوبيا بالطبع ، و من جهة أخرى فقد كان عدد السكان محدودا لا يشكل ضغطا كبيرا على موارد النيل ، غير أن الحال تغير و لم يعد كما كان في السابق، دول أفريقيا استقلت و صارت أقوى نفوذا و السكان تضاعف عددهم، و الـ(160) مليونا الذين يعيشون على الضفاف الآن سيصبحوا (320)خلال 25 عاما ، و عندها ستتعالى أصوات الأفارقة المطالبين بحصته أكبر من النيل الذين يرونه ينبع من أرضهم .
الدول الأفريقية النيلية لم تعد تخف اعتراضها على اتفاقية 1929 و وصفها لها بأنها من مخلفات الاستعمار ، و كلما حل الجفاف بكينيا أو تنزانيا أو أثيوبيا تصاعد الحديث عن النيل و إمداداته و ضرورة قيام المشاريع عليه ، تنزانيا ستبدأ خلال أيام العمل بمشروع أنبوب يقوم بسحب المياه من بحيرة فكتوريا و وزير المياه التنزاني إدوارد لوواسا يقول عن مواطن بلاده (هؤلاء ناس لا تتوافر لديهم المياه ، كيف تقف دون حراك بينما تلك البحيرة تقبع أمامنا ..؟؟) ، غير أن الطرح الأثيوبي يبدو أكثر خطورة عندما تدعو أديس أبابا إلى إجراء مفاوضات سياسية بدلا من (المواجهات ..!! ) لإيجاد حل يتيح استخدام عادل لمياه النيل على حد تعبير المسؤولين الأثيوبيين و الذي يعلن أحدهم صراحة (لدينا مشروع يسمى دي سي 3 يهدف إلى إعداد استراتيجيات و أهداف لاستخدام عادل لمياه النيل ..)، و تدعو تنزانيا و أوغندا و كينيا صراحة لإعادة النظر في معاهدة 1929 .
القاهرة و من خلال دبلوماسيتها الهادئة لم تتسرع في إظهار رد فعلها رغم أن بعض الرسميين فيها يهمسون بأن هناك (أصابع تقف وراء الأزمة ) ، القاهرة لم توضح طبيعة هذه الأصابع الخفية إلا أن معلومات صحفية سابقة أشارت إلى قيام خبراء مياه إسرائيليين بزيارات لأثيوبيا و عدد من دول حوض النيل لدراسة (مشاريع محتملة ) في تلك البلدان ، مشاريع أديس أبابا لاستغلال مياه الهضبة الأثيوبية لم تعد سرا و رغم أن المانحين الدوليين يحجمون حتى الآن عن تمويل المشروعات مراعاة لمصر إلا أن لا أحد يستطيع ضمان استمرار ذلك و ألا تقدم جهة دولية أو مالية مستقبلا على تقديم قرض إلى أثيوبيا أو غيرها لتمويل هذه المشاريع خصوصا إذا جاء الضوء الأخضر من بعض الجهات الدولية النافذة .
تسعى القاهرة لإبقاء الأزمة (مكتومة )على أمل أن ذلك يزيد من فرص تطويقها و حلها ،و لكن الدول الأفريقية النيلية بدأت تتحدث بقوة عن حاجتها للمياه و عن إستراتيجية جديدة لتوزيع عادل لإمدادات النيل تجعل من اتفاقية عام 1929 شيئا من الماضي .
المياه من وجهة نظر الفيزياء تطفئ النيران لكنها من وجهة نظر السياسة و الاقتصاد قد توقدها ، و لعل الانكشاف المائي هو أخطر جوانب الانكشاف و الضعف الاستراتيجي للعرب ، فأعظم انهارتا (النيل و دجلة و الفرات )تنبع من خارج الأرض العربية .
عندما وصف عمرو بن العاص مصر بأن طولها شهر و عرضها نهر فإنه ما تحدث عن حقيقية جغرافية بقدر ما وضع يده على موقع هذا النهر و أهميته في حياة مصر و شعبها و دوره في صنع حضارتها و وجودها .