يوخنا دانيال
&
&
- 1 -
&& بالنسبة لأصحاب السوء ومرضى النفوس وكارهي الشعب العراقي، فان اللبننة: هي الحرب الأهلية وصراع الإرادات الخارجية ليس إلاّ. بالنسبة للعديد من العراقيين؛ فإنها تعني التوافق السياسي الطائفي والقومي بطريقة شبيهة بالوضع السياسي اللبناني. والغريب ان معظم المعجبين بالتطبيق السياسي اللبناني هم من المواطنين المسلمين، الذين لم يعودوا يشعروا بالحرج من وجود رئيس جمهورية مسيحي على رأس بلد عربي، ما دام هذا التوافق يحفظ&السلْم الأهلي، ويحقق درجة من التمثيل النسبي لمعظم قطاعات المجتمع. ويبقى السؤال الحرج؛ هل تقود الطائفية السياسية "المنهجية" فعلاً الى الاقتتال الأهلي او الحرب الأهلية؟&&
&& والحقيقة انه من الصعب جداً إثبات ان التوافق السياسي الطائفي اللبناني كان هو السبب الرئيسي لاندلاع الحرب اللبنانية، وإن ساعد على استمرارها ووفّر لها الحاضنة الملائمة. وباعتراف قادة وأمراء الحرب اللبنانية؛ فان التدخلات السياسية العربية والأجنبية كانت هي السبب الرئيسي للحرب إضافة الى التنافر السياسي والطبقي الداخلي.
& بالطبع، فانه كان معيباً ان يستمر النظام السياسي في لبنان قائماً على التعددية الطائفية منذ الأربعينات في بلد منفتح وحداثوي مظهرياً، على الأقل. وأعتقد ان مشرّعي الطائفية السياسية او التوافق الطائفي السياسي فكّروا به كنوع من الحلّ الوقتي لحفظ حقوق الجميع وإبعادهم عن الصراعات المبكرة، لحين الوصول الى حالة "وطنية" شاملة، تطغي على الفوارق المذهبية والعرقية وغيرها.
& ان استمرار هذه التوافقات لأوقات زمنية طويلة، يشير ضمناً الى فشل المشروع الوطني العام، واستمرار تكريس وإعادة إنتاج الانتماءات والولاءات "التقليدية" او ما قبل الوطنية. أما منتقدو ومعارضو هذه التوافقات في لبنان والعالم العربي ، فان خطابهم بشأن تمثيل الجميع، فما هو إلاّ محاولة "ذكية" لاحتكار السلطة من قبل فئة محددة، تختبئ خلف شعارات سياسية توحيدية شاملة او شمولية إن أردنا ان نكون أكثر دقة.
& ومن السهولة بمكان، اكتشاف او تتبع الأصول العائلية والعشائرية والطائفية والمناطقية او تتبع النخب السياسية والطبقية والاجتماعية خلف معظم القوى والنظم السياسية الحاكمة في العالم العربي. لقد كان نظام صدام نموذجا صارخا على احتكار تمثيل كل القوى السياسية والطائفية والعرقية والقومية ودمجها وصهرها بالإكراه في بوتقة تبدو "حزبية" او "وطنية" من الخارج، لكنها في الداخل تتمحور حول "الولاء الشخصي" المطلق والصارم للقائد الضرورة.
& ان معظم الأنظمة السياسية العربية، في جوهرها أنظمة "صدامية" بدرجات متفاوتة في ممارساتها وتطبيقاتها؛ قائمة على أساس احتكار السلطة وتوارثها وإعادة إنتاجها الى ما لانهاية. ومقارنة بهذه الأحادية السياسية "السلطانية"، فان التعددية السياسية الطائفية والعرقية تبدو أهون بكثير وأكثر معقولية وعدالة . ومع ذلك، فانها لا يمكن ان تكون إلاّ حالة وقتية؛ غير دائمة، أو ممراً لقيام كيانات وطنية حقيقية؛ تصهر الجميع بطريقة إنسانية وحضارية . وصولاً الى دولة المواطنين والمؤسسات، والهيئات القائمة على صناديق الانتخابات، والتداول السلمي للسلطة السياسية.

- 2 -
& يتحدثون في العراق كثيراً عن الرغبة في حكومة قوية، او حاكم قوي . لكن من أين نأتي بحكومة قوية، كيف نخلق حاكماً قوياً. ان دكتاتورية صدام حسين لم تقم دفعة واحدة؛ استلزمت سنوات وأموال ورؤوس متدحرجة بالآلاف. ابتدأ صدام بتصفية النظائر اولاً القوى القومية العربية غير البعثية، وتلاها بالقوى الإسلامية السنية. ثم الكردية والشيوعية والشيعية، وانتهاءً بالقوى البعثية نفسها.
& الدكتاتورية هي نوع من الـ Process الدائمة، الي يجب رعايتها وتغذيتها وحمايتها باستمرار للمحافظة على سلطة قوية، فورية، دائمة. أي تغافل، مهما كانت قوة هذه الدكتاتورية، قد يسقطها. وقد تعطي الدكتاتورية وهماً او "صورة" لسلطة او حكومة قوية، لكنها فعلياً قائمة على الخوف الدائم من الناس، الخوف الدائم من القوى التي تمثل الناس.
& والحقيقة، ان المشروع السياسي لمختلف الحكومات والأنظمة السياسية في العراق، ظل في جوهره، يتمحور حول إمكانية الهيمنة المطلقة على عموم العراقيين وقمع انتفاضاتهم ومطالباتهم، بحجة محاربة الطائفية او النزعات الانفصالية او الشعوبية او الرجعية. وفي الظروف الراهنة، على الجميع ان يسعوا الى تشكيل او تكوين مجتمع مدني قوي في العراق، وليس سلطة حكومية قوية.
& ان تمثيل قوى وأطياف المجتمع العراقي بعدالة وتوازن في سلطة سياسية ، لتحقيق تنمية بشرية واجتماعية وثقافية متوازنة، هو خطوة أولى في الطريق. لكن المشكلة الكبرى تتمثل في تحديات ورهانات المستقبل. فالصيغة التي قد تبدو ملائمة اليوم او عادلة، قد تصبح غداً او بعد غد، معيقة أمام طموحات ومصالح وظروف داخلية وخارجية متحركة. ان مجلس الحكم العراقي، او حكومة "قوس قزح" التي تشكلت في تموز - يوليو الماضي في ظروف معقدة جداً، أثبتت الأيام بسرعة انها كانت بحاجة الى المزيد من التمثيل والمشاركة والشرعية الجماهيرية. فمع انها تشكلت من أحزاب وحركات سياسية لها تاريخ وثقل، إلاّ انها ظلت فوقية، بعيدة عن الجماهير، وبعيدة عن الفعل . حكومة "محبوسة" لشعب "محبوس"؛ حكومة تتلقى الضربات المؤلمة مثل شعبها بالضبط.

- 3 -
& العراقيون بصورة عامة براغماتيون، معتدلون في انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية، يتبادلون النكات عن بعضهم البعض بسهولة وأريحية. وحالياً، هم يخجلون كثيراً من "كلمات" مثل: سنّي، شيعي، كردي، مسيحي، مسلم، واستخدامها المتكرر في الحياة السياسية والإعلام. الأستاذ جلال الطالباني عندما يسألونه؛ هل هو قائد كردي أم قائد عراقي . يفضل كلمة "عراقي" قبل كل شيء. ولا أتصور ان القادة السياسيين الآخرين يفكرون بطريقة مخالفة.
&& وهؤلاء القادة السياسيون عليهم ان يعملوا بصورة خلاّقة للوصول الى الحالة " الوطنية العراقية": او دولة المواطنين . وعدم الاكتفاء "النرجسي" بنظام التوافق السياسي الطائفي القومي. هناك رغبة عارمة عند معظم العراقيين ولمختلف الأسباب للاحتكام الى صناديق الاقتراع كبديل عن الاحتلال والعنف والإرهاب. هذه الرغبة العارمة تم تأجيلها او تجميدها لعام او عامين، لكنها يجب ان لا تغيب عن العقول والقلوب. هذه الرغبة يجب تعميقها، ترشيدها، ورعايتها في هذه المرحلة الانتقالية. وبقدر أهمية الأمن والخدمات الأساسية في حياتنا الراهنة، فان "المسألة" السياسية لا تقل أهمية . بل يجب إعطائها وضعاً استثنائياً خاصاً. لأنها بصراحة، هي الشغل الشاغل للناس في حياتهم الواقعية وأحلامهم وطموحاتهم.