حاوره في باريس: كاظم جهاد
في مطلع الثمانينات، وصل الكاتب السعودي أحمد أبو دهمان الى باريس لمواصلة دراسته العالية، ولم يبرحها بعد ذلك. جاء حاملاً في جعبته عدداً من القصائد المكتوبة بالفصحى وبالعامية، كانت أثارت حماسة النقاد والأدباء وحظيت باعجاب جمهور
اخحمد ابو دهمان
الشعر في بلده. أنجز أبو دهمان دراسة هامة منتظرة الصدور عن القصة القصيرة في العربية السعودية رجع فيها الى دراسة كامل تاريخ المنطقة ومكوناتها الثقافية والشعورية. هكذا تمتزج في اعداده كباحث روافد النقد الأدبي والتاريخ وانثروبولوجية الذهنيات. غير ان الشاعر الذي يسكن أحمد لم يتراجع أمام "هجمة" الباحث و"هوس" المؤرخ النبيل الذي دفعه الى اعادة اختبار الحقائق ومراجعة المسلمات. بقي الشاعر ينمو في داخله وينتظر. ينتظر شكلا ما تنصاغ فيه تجربته الوجودية ويعاد فيه ابتكار العالم الذي ولد هو فيه والذي سافر معه، محمولاً في دواخله، الى قلب الحضارة الاوروبية ممثلا بباريس. وجد أبو دهمان هذا الشكل، المتعدد بالضرورة، نظراً لتعدد مشارب الكاتب ومصادر ثقافته.
في "الحزام" نص نثري شاعري الصياغة يستعيد فيه طفولته في قريته الأصلية شاء أن يفتتح به تجربة أدبية ما هذا الكتاب إلا حلقتها الأولى التي تحمل وهج البداية، بداية بالغة النضج، وترتسم كبشارة لافتة ووعد أساسي.
كتب الكثيرون عن العمل وحاور الكثيرون مؤلفه. في الحوار التالي حاولنا الرجوع مع الكاتب الى مناخه الأصلي نفسه. الى شخوص العالم الذي يرتسم في "الحزام" والى تكوينه الخاص كشاعر وروائي.



كاظم جهاد: عرفت فجأة في الاوساط الادبية العالمية والعربية عبر روايتك الاولى "الحزام" التي فاجأت القراء بمعالجتها لعالم قريتك الولادية معالجة اصيلة ومضمخة بالشعر، وتكشف عن قدرات روائية وادائية قد لا يمتلكها الكثير من الكتاب في اعمالهم الاولى. من اجل التوقف عند تجربتك الروائية هذه ومجمل تجربتك الادبية السابقة لهذه الرواية عبر المقالات والاشعار التي كتبتها وعرفها بعض الاصدقاء، سنحاول الرجوع معك الى عالم البدايات هذا. هذه القرية التي حولتها الى اسطورة في هذا العمل والتي استطاعت ان تجتذب محبة جميع من قرأوا هذا الكتاب، ما هي هذه القرية؟ ما حجمها في الواقع، ما عادات الناس فيها، ما اثرها في تكوينك الشعوري والانساني والابداعي؟
أحمد أبو دهمان: في البداية سأكشف عن سعادتي بوجودك أمامي ليس كمحاور وصحفي وانما كصديق اولا.، وفي قريتي ولدت في ما يشبه الشعر، هذه القرية لم تكن تتوقف عن الغناء على الاطلاق منذ لحظة الولادة حتى ما كنا نسميه الرحيل، اذ لم تكن كلمة الموت واردة ضمن قاموس القرية. كنا نغني منذ الولادة كما اشرت، وحتى لحظة الرحيل كان يصحبها غناء أي في لحظة الدفن نفسه. قريتي تشبه الحلم او الخلاص لما يواجهه المبدع في هذا العالم البائس، وعودتي الى القرية عبر هذا النص محاولة لاعادة ابتكار عالم نقيض لما هو سائد الآن. وكان أمامي في هذه القرية بالاضافة الى ما اختزنته في طفولتي من قيم انسانية ومعرفية وشعرية، ما يمكّن من محاولة اعادة صياغة العالم. كان هذا الهاجس يراودني منذ اللحظة الاولى أي منذ لحظة الكتابة، والكتابة بالفرنسية بالذات، تقديم هذه القرية كبديل لهذا البؤس، بديل لهذا الألم الذي يجتاح كل شيء. ألم وكأن هناك تواطؤاً بشرياً يشرف على صيانته وتنميته.
انطلقت اللحظة الاولى للكتابة وأنا في البيت مع ابنتي التي قالت لي "يا الله سترك"، فكانت هذه الجملة الاولى في "الحزام". كنا ندعو هكذا كل صباح وكل مساء "يا الله سترك". وبعضهم كان يضيف "اللهم استرني واستر اسراري الى يوم الدين". كنت أود أن أحيل هذه الجملة مع ابنتي الى نشيد انساني. وانطلقت فعلا من القرية، فحدثت ابنتي وزوجتي عن كل شيء، عن أمي وأبي، عن ابائي وامهاتي، عن
اخواتي واخواني الى حد اننا كنا على يقين بأن الاشجار التي كتبتها او المياه او الامطار او اصوات العصافير كانت تشبه الكائنات الانسانية وتحول هذا الى نص عائلي، نص حميم، نص في جوانب كثيرة منه كان يجب ان يظل بيني وبين زوجتي. عندما اكتمل النص وجدت ان العالم جدير بهذه الحميمية وان الكثير من الاصدقاء كانوا الى حد ما قريبين جدا كما هو الوضع بالنسبة لزوجتي وابنتي. هؤلاء الاصدقاء دفعوني فعلا الى البحث عن ناشر. كانت هذه هي حكاية "الحزام"، حكاية هذه القرية التي يجب ان تظل كمخرج من جهنم. وقد كنت سعيدا بقراءة احد النقاد الفرنسيين الذي قارن بين الجنة في قريتي وجهنم الغرب، الذي ربما تعرفونه اكثر مني.
كاظم جهاد: في اثناء حديثك عن العلاقات الاجتماعية في القرية، قلت أبي وأمي، ثم صححت واستدركت وقلت أمهاتي وابائي، وكأن الاخرين من جيران واقارب كانوا يلعبون دور الأب والأم بالقدر نفسه تقريبا، فهل يمكن ان نعود الى طبيعة هذه العلاقات الاجتماعية؟ وهل تعتقد ان هذه القرية كانت تطرح انموذجا لنوع من التضامنية الاجتماعية او نوع من الحنان بين الافراد، يمكن ان يوضع في المقابلة مع العلاقات السائدة في المدينة كما عرفتها فيما بعد؟
ابو دهمان: ما سميته القرية لحظة كتابتي لهذه القرية هو انها كانت تنتمي الى مجتمع أمومي في معظمه، فلم يكن سكان قرية أمي ينادوني الا باسم أمي. كانوا ينادوني "هذا ابن شويلة". وأبي كان اسمه " ابن فاطمة"، ومعظم الرجال في القرية كان كل منهم يدعى لأمه، بينما النص القرآني كان واضحا وصريحا: ادعوهم لابائهم.& فالقرية كانت تعيش الى حد ما عهود ما قبل الاسلام، عهود ما قبل المدينة الذي يشكل تدميراً للجبال والمرتفعات. كانت القرية بمعزل تماما عما يحدث في العالم وبالتالي تشكل في هذاالمجتمع ما يمكن ان نسميه اسرة واحدة. عندما كنت اقول امي كنت اقول لوحدها أي اعني أمي الحقيقية. وعندما اتحدث عن جارتنا او عن امرأة اخرى في القرية، فكنت اقول "أمي فلانة" و"أبي فلان". كانوا ابائي وكانوا في مستوى الأب، ومستوى الأم أيضا. لم يكن في القرية ما يعرف اليوم بالجوع، كان بامكان أي طفل ان يدخل أي بيت ويأكل فيه، وتجد بعض الامهات يبحثن في الطرقات والمزارع عن جائع، احيانا تحمل الأم غذاء او وجبة نسميها "الوصل" لما بعد الظهر، لزوجها او لاطفالها في المزرعة، واحيانا لا يصلهم الا النزر اليسير من الطعام، لأنها قسمت الطعام على المارة او على الرعاة. يظل هذا الوضع الاجتماعي حلماً، خاصة امام هجمة المدينة، وامام هجمة التحديث سواء في المملكة العربية السعودية او في البلدان العربية الاخرى، في العالم الثالث اجمالا. هذا الوضع الاجتماعي، اوهذا النسق الاجتماعي بدأ في التفتت، وتفتت معه حتى مبادئ القرية، والناس خرجوا فيما يشبه "الفيلل" الحديثة التي لا تحمل أي ملمح من ملامحنا القديمة، وليس هناك أي مادة من مواد القرية في بناء هذه "الفيلل" الحديثة، كل شيء مستورد. وأمام هذا الاستيراد الهائل، وهذا الاستهلاك الفج لكل شيء فقدت القرية لغتها، ونمت لغة عمياء باهتة مستوردة لم نصنع فيها شيئاً، وهذا ما يحيل بعض الناس الى اشباه ناس، ناس فقدوا كينونتهم الحقيقية وفقدوا علاقتهم بلغتهم وارضهم وحتى بذواتهم، هذا التشوه طال كل شيء، طال الناس اجمالا، في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وحتى علاقتهم بالهواء والشمس.
كاظم جهاد: هل يمكن بهذا المعنى القول انك تتحدث في هذه الرواية عن عالم لم يعد موجودا، وأنك تقدم نشيد رثاء ووفاء لنوع من فردوس باتت مفقودة؟
أحمد ابو دهمان: للأسف هذه الحقيقة قائمة الان. في شهرآب (اغسطس) الماضي وجدت القرية تشبه معلقة شعرية نادرة لكن معظم ابياتها انمحت ولم أعد أجد الا بعض الابيات في هذه المعلقة. كنت في مشهد مأساوي، الابواب والنوافذ التي اعرفها والشوارع التي اعرفها وعشتها وعاشت في روحي ودمي وصوتي وفي كتابتي كلها لم تعد موجودة. لكن هذا لا يلغي امكانية استعادة هذا الفردوس عبر الكتابة، لان هذه احدى ميزات العمل الأدبي، ألا وهو الوقوف في وجه الموت، او التصدي للموت، و"الحزام" هو نوع من التصدي لهذا الموت الجارف. لقد وجدت بين القراء من يحلم بالحياة في هذه القرية، من هو مستعد ان يبذل كل شيء من اجل اعادة بناء هذه القرية، من اجل اعادة امطار القرية وشموسها ومزارعها. لو فتح باب للتبرع لوجدت فعلا امكانية لاعادة بناء هذه القرية لكن لم تكن قريتي هي الهدف، كنت اتمنى بالفعل كما اشرت في البداية أن نشارك جميعا في اعادة صياغة هذا العالم انطلاقا من قرية صغيرة تشبه ارواحنا كلنا وتشبه كل القرى في العالم. وجدت اصداء هذه القرية عبر "الحزام" عند قراء من البرازيل وكندا وافريقيا، كلهم يا كاظم وجدوا انتماء لهذه القرية، انتماء لأمهاتها لناسها ولقصائدها. فالفردوس كحقيقة تاريخية تقريبا انتهت.
كاظم جهاد: ذكرت عرضا كتابتك للعمل باللغة الفرنسية، وعليّ ان اطرح عليك هذا السؤال الذي طالما طُرح عليك، لماذا اللغة الفرنسية؟ وهل كنت ستكتب العمل نفسه لو كتبته بالعربية؟
أبو دهمان: لم ينطرح هذا السؤال على الاطلاق بالنسبة لي، الا بعد ان انتهيت من كتابة النص، ربما كان السبب الرئيسي لكتابتي بالفرنسية هو ان هذا النص كان موجها اصلا الى زوجتي وابنتي وهما لا تتحدثان العربية، وأنا كنت اكتب عن قرية عربية ولديّ القدرة على الكتابة بالعربية، ثم اكتشفت بعد ان طرح السؤال اكثر من مرة بانه كان من الصعب كتابة القرية بالفصحى. الفصحى تعلمتها في المدرسة، والفصحى الى حد ما نقيضة للقرية. أُدخل ما يسمى الفصحى عبر المدرسة وكنا نعتقد ان القرية فصحى وما زالت فصحى. معظم كلمات القرية اجدها في كل القواميس وأفاجأ احيانا بكلمات في القواميس واتذكر اننا كنا نعيشها يوميا، فكتابتي بالفرنسية جاءت تلبية لروح القرية، لأن في الفرنسية من المرونة ومن البساطة ما يمكن ان أنقل عبره قريتي للعالم الاخر. عبر اللغة الفرنسية اكتشفت بلادي واكتشفت نفسي، انها لغة ليست مُقيِّدة ولا مُقيَّدة، لغة ليست لغة مؤسسات رسمية، بل لغة افراد، ليست لغة قبيلة بل لغة فرد، يمكن للفرد ان ينمو من خلالها وان يكتشف ذاته من خلالها. تماما كالمجتمع نفسه. مجتمع افراد، يعترف بالفرد، وما كان ممكنا ان اكتب قريتي بهذه الصورة لو لم اكتشف أنا ذاتي كفرد. هذه الحالة من النمو الاجتماعي، ومن الاستقلال الذاتي مكنتني من كتابة قريتي كما أود. كنت منذ طفولتي وأنا أحلم بأن استقل عن هذا الجسد الضخم، اقصد جسد القبيلة الذي لم أكن فيه الا خلية. هنا بالفرنسية وجدت نفسي. في باريس وجدت نفسي ككائن مستقل وكانسان أمام مسؤولياتي. تظل القبيلة سندا اذ لم اشعر يوما ما بالخوف او الجوع في باريس، كان بامكاني ان اتصل بأحد اصدقائي في المملكة او حتى في القبيلة التي يمكن ان تنجدني، ولكنها لا تستطيع ان تنجدني على الصعيد الروحي او على صعيد الاستقلال الذاتي كفرد. لهذا كانت اللغة الفرنسية اقرب ربما الى هذه اللحظة من حياتي. اقرب من اللغة العربية التي تبدو لي لغة رسمية، لغة فيها احيانا من القدسية ما يحول دون كتابة نص حر. اضافة الى عامل اخر: عندما اكتب بالعربية فاني امارس رقابة ذاتية مدمرة، وهي ابشع انواع الاستعباد، اقصد ان يستعبد الانسان ذاته. بينما عندما كنت اكتب "الحزام" بالفرنسية كان هناك هذا الهاجس، هاجس القارئ العربي، القارئ الرسمي لكنه لم يكن حاضرا كما يحضر لي عندما اكتب بالعربية.
كاظم جهاد: يعيدني كلامك هذا الى عالم الرواية والعلاقات المتبادلة بين الاشخاص، ويلاحظ القارئ نوعا من النضال من اجل ما يدعوه ميشال فوكو بصناعة الذات، نضال من اجل التحرر مما تدعوه جسد القبيلة الشاسع،& ونوعا من الصراع او الجدلية بين الكائن والمجموع. وهذا النضال طبعا لا ينشأ في فراغ، يبدو لي انك باعتبارك بطل الرواية او راويتها تحمل شيئا من والدتك، من ارثها الخيالي والشعري ومحبتها للغناء،وشيئا من والدك ومحبته للسفر والتجوال وهو الملقب في الرواية بـ"الرعدان"، أي هذا الذي يصيب سامعيه بالرعدة من فرط جمال غنائه. وفيك ايضا شيء من حزام، هذه الشخصية العجيبة التي تنطق بحكمة اصيلة وبمحبة هائلة للعمل والوجود. نعود الى البداية، دعني أسألك بم تدين لأمك، بم تدين لأبيك، بم تديم لحزام؟ وهل حزام هذا كان شخصية موجودة فعلا أم انه تركيبة صنعتها من مجمل رجال القبيلة؟
أبو دهمان: هذا السؤال يذكرني بقلة قليلة من القراء استطاعت ان تكتشف ما خبأت في "الحزام". وأنا سعيد جدا بوجود بعض المزارعين الحقيقيين في هذا العالم يستطيعون ان يجدوا ما في باطن الارض. كنت أحلم أن تظل بعض الاشياء في "الحزام" مغيبة الى ما بعد الموت. لكن بعض القراء استطاع ان يصل له في حياتي. ليكن، عندما تسألني بماذا أنا مدين لأمي ولأبي ولحزام وما اذا كان حزام شخصية فعلية ام شخصية مركبة. لا يمكن ان أرى أمي لوحدها ولا أبي لوحده ولا حزام لوحده. أرى هذه القرية بمجملها، لم اكن اشعر بالبرد ولا بالخوف ولا بالجوع. قرية كنت فيها مطمئناً مثل كل الاطفال. لم تكن قرية مقدسة او خارجة عن هذا العالم، كانت قرية مثل كل القرى الاخرى لكننا كنا في هذه القرية نحمل ما يشبه الروح الواحدة. حتى الحيوانات تشكل عندها هذا الوئام او هذه الألفة. كنا نعرف روائح الناس، فلان او فلانة مرت من هنا كنا نعرف خبز من هذا الخبز الذي أمامنا، اقصد عندما يكون هناك تجمع وتأتي امرأة وتضع قرصانها أمامنا فكنا نعرف ان هذه قرصان فلانة وهذه قرصان فلانة دون ان نشاهد أي منهما وهي تضع خبزها أمامنا. كما أشرت، نعرف ان هذه رائحة فلانة التي مرت من هنا، لكل امرأة رائحتها وملابسها التي تشبه زهور الجبال وتشبه طهارتها ايضا. أنا مدين لأمي على صعيد ضيق جدا بهذه الشعرية لكن أمي كانت ايضا تمنح هذا الجانب للاخرين. وكان باستطاعة أبي أن يشعل القرية رقصا وغناء، وقد ولدت في هذه الاجواء بين أمي وأبي، بين العمل والغناء. بالنسبة لحزام، هناك نواة لحزام في أحد رجال القرية، لكن حزام كشخصية هي فعلا شخصية مركبة، وان كنت بعد ان انتهيت من كتابة النص فجعت بأخي يخبرني من القرية بوفاة أحدهم، وهذا الشخص هو الذي كان نواة حزام. ولما أخبرت زوجتي وأبنتي بوفاة حزام، تحول البيت الى مأتم حقيقي. مأتم لزوجتي ولابنتي ولي، قضينا أياما تشبه موت أبي تماما.
أنا مدين للناس وللقرية وحتى للقرى المجاورة ايضا. مدين لشعراء بعيدين، تأتينا أصواتهم وقصائدهم كالرياح، لم نكن نعرف القراءة والكتابة فكان الشعر ينتقل من فم الى فم ومن اذن الى اذن ومن جبل الى جبل، كنا نسمع اغاني الرعاة عبر الجبال ومعظم غنائنا كان غناء عشق وحب ووفاء. من هنا يبدو "الحزام" كنص غنائي شعري، يحمل بساطة هؤلاء الناس، البساطة البكر وهذا هو ما ابحث عنه الان أمام شراسة العالم، أمام حروبه، جوعه وأمراضه التي هي احيانا امراض مبتكرة.
كاظم جهاد: سؤالي الاخير عن هذه الرواية، قبل ان نعود الى مجمل تجربتك الادبية. أين تموقع هذا العمل بين السيرة الذاتية التي تتعهد بمعيش حياتي وتعيد معالجته عبر الاستبطان الذي هو استبطان شعري اساسا، وبين الرواية التي تحتوي قدرا كبيرا من الابتكار واعادة الكتابة والتخييل والفنطازيا..الخ
أبو دهمان: يا عزيزي ربما تعرف أكثر مني ان الناشر في فرنسا هو الذي يحدد نوعية العمل. رواية، سيرة ذاتية او محاولة او نص. لم يكن في ذهني شكل روائي او شكل سيرة ذاتية، دخلت هذا النص من خلال هذه الكلمة "يا الله سترك" واستمر النص معي دون ان أسأل نفسي فيما لو كانت رواية او سيرة ذاتية او قصيدة الى ان أعدت تصحيحها أكثر من مرة واعادة كتابتها اكثر من مرة، دون ان أسأل نفسي على الاطلاق ما هو جنس هذا النص. كان عليّ ان أكتب هذه القرية، وقريتي لا يكن ان تكون رواية ولا سيرة ذاتية ولا قصيدة، لكن يمكن ان تكون كل شيء. ولعل من أمتع اللحظات التي عشتها بعد صدور "الحزام" هو ما قالته احدى الناقدات الفرنسيات من انه لو كان كلود ليفي شتراوس قد كتب الانثروبولوجيا البنيوية، فانني كتبت الانثروبولوجيا الشعرية. أنا اعتقد ان هذا النص ينتمي الى أمي وأبي والقرية أكثر مما ينتمي لي. لم أكن إلا راوية، رويت هؤلاء الناس ، وخرج هذا النص دون ان يحمل أي تحديد من دار النشر نفسها. نعم الكتاب صدر في سلسلة مخصصة لكتاب تعرفهم جيدا من بينهم حملة جائزة نوبل للاداب، يكتبون عن طفولتهم. وكأول عمل لم أفاجأ على الاطلاق، لانه يدخل ضمن هذه السلسلة، لانه عندما قررت الكتاب كان أمامي شرط اساسي هو كتابة نص مختلف. الذي هيأ لي كتابة& هذا النص المختلف الى حد ما& هو مجيئي من عوالم اخرى غير العوالم الروائية. جئت من التاريخ، من علم الاجتماع، من قراءات متعددة وكان أمامي كل هذه التساؤلات الجديدة التي يجب ان تطرح على القرية وعبر القرية. واعتقد ان المشروع قد نجح الى حد كبير.
كاظم جهاد: دعنا نعود الى مجمل تجربتك الانسانية والثقافية، متى وصلت الى فرنسا وما كانت ممارساتك قبل المجيء الى فرنسا؟ معروف انك كتبت قصائد بالعامية، واعتقد انك ما تزال تكتبها، هل يمكنك ان تحدثنا عن هذا اللون، وألا تعتقد انه مهمش نوعا ما في العالم العربي؟
أبو دهمان: الحقيقة عشت تشكلي الشعري والروحي في القرية، وغادرتها في سن الثانية عشرة تقريبا، كنا مضطرين للهجرة الى المدينة لمتابعة الدراسة المتوسطة التي تابعتها في مدينة أبها، وكان الناس في أبها كما كنت أتوقع كلهم شعراء رجالا ونساء. أبها مدينة لم تكن تنام. أنهيت المتوسطة فيها ثم انتقلت الى معهد المعلمين في الرياض لمدة ثلاث سنوات، ثم عدت ودرَّست في القرية لمدة ثلاث سنوات ايضا، بعدها التحقت بجامعة الملك سعود في الرياض. وفي الجامعة بدأت التعرف على بعض الاسماء& الثقافية والشعرية في العالم العربي التي لم تكن في متناولنا في القرية وفي أبها. كما تعرفت لحسن الحظ على بعض الاصدقاء من المثقفين السعوديين الذين علموني القراءة والكتابة وما زلت مديناً لكثير منهم وسأظل على الصعيد المعرفي بشكل خاص.
لقد حاولت كتابة القصيدة الحديثة فنجحت الى حد ما لكن هاجسي كان ان يسمعني اهلي في القرية. عندما أسمعتهم اولى قصائدي الحديثة لم يفهموا شيئا على الاطلاق مما دفعني الى ان اكتب ما يسمى بالقصيدة الشعبية، وكتبت حتى الآن ست قصائد شعبية، استطعت ان اصل الى اهلي في القرية وان اصل الى اصدقائي والىالقراء في المملكة، ثم انهيت دراستي الجامعية في الرياض وكنت قد حصلت نتائج متفوقة مما اتاح لي الحصول على بعثة بالسفر الى الخارج، وكانت الخيارات امامي كثيرة: اميركا وبريطانيا وفرنسا واسبانيا والمانيا، فأخترت فرنسا. فرنسا لانني كنت قد قرأت عبر الترجمات العربية لشعرائها الكبار مثل لوي اراغون وجاك بريفير وبول ايلوار، خصوصا جاك بريفير. كنت اعتقد ان مجيئي الى فرنسا هو امتداد لحياتي في القرية بحكم وجود جاك بريفير وبول ايلوار. تحولت قريتي الى عالم شعري ومن الممكن ان يكون هذا العالم موجود في كل مكان، وقد اكتشفت في فرنسا شعراء اخرين وبلغات اخرى مما منحني يقيناً مطلقاً بان هذا العالم الشعري الذي ولدت فيه موجود في كل مكان. وان ما كنا نغنيه في القرية غناه الناس ايضا في كل مكان. ينقلني هذا الى يقين اخر هو وحدة الانسان رغم الفروق اللغوية فقط وأنا لا اؤمن بغيرالفروق اللغوية، فالانسان هو الانسان في كل مكان.
حاولت كتابة الشعر وكنت اصل احيانا مرحلة ما يشبه الجنون في علاقتي بالقصيدة فتوقفت، وقد ساهم في هذا التوقف تحولي الى العل الاكاديمي. اثناء بحثي الاكاديمي، اثناء البحث العلمي كنت اعيش لحظات من الاكتشافات المعرفية التي تفوق متعتها أي قصيدة، واثناء بحثي العلمي لم أحس باي غربة شعرية او انفصال عن الشعر بمعناه الذي تعلمته في القرية خصوصا. اذكر احدى اللحظات التي لا يكن ان انساها في حياتي هو ان احد الاصدقاء من كتاب القصة في المملكة& سمى قصته "شمس الموتى" فسألته من اين جاء هذا العنوان، قال لي هكذا كنا نسمي الشمس قبل الغروب، لحظة اصفرارها. واثناء بحثي العلمي وجدت حكاية تشبه الاسطورة، عن قرية مجاورة لقريتي كان فيها ولي لأن المنطقة كانت صوفية، وهذا الولي اقسم ان يصل الى احدى القرى قبل غروب الشمس، فصعد الجبل وقبل ان يصل الى القمة التي تمكنه من الاطلال على القرية كادت الشمس ان تغيب فقال لها قفي فوقفت، ثم استطاع ان يصعد. وعندما وصل الى القمة، متعبا طبعا، أطل على القرية التي اقسم ان يراها قبل مغيب الشمس، ثم مات، فيما كان اهل القرية في انتظاره، ولما شاهدوا الشمس لم تغب صعدوا الى القمة فوجدوه ميتا فأسموا قبره "قبر الشمس" وأسموا الشمس في لحظة اصفرارها "شمس الموتى".
هذا الاكتشاف على انه حقيقة وكما هو متعارف عليه في الذاكرة الشعبية، فالذاكرة الشعبية لا يمكن ان تموت. وقد حاولت في "الحزام" رصد& هذه الذاكرة عبر أمي وأبي وحزام وعبر أمهاتي الاخريات ايضا. لهذا فان علاقتي بالشعر الشعبي يبررها حنيني للناس،& وهو الذي دفعني للكتابة بلهجتهم&& وبلغتهم. هناك قصيدة تحضرني الآن.
كاظم جهاد: يلاحظ في روايتك افادة من الشعر، سواء العامي او الفصيح، ومن معرفتك الانثروبولوجية الموسعة، التي امل ان نقف قريبا على شواهدها الحية عند صدور اطروحتك عن القصة القصيرة في العربية السعودية. سؤالي الاخير يتعلق بالقادم من مشاريعك الادبية، هل هناك صلة او تتمة لـ "الحزام"؟
ابو دهمان: لم أفاجأ على الاطلاق بنجاح عملي الاول. ولا هذا التوسع الهائل لقبيلتي، مما دفعني للتساؤل عن جدوى الحياة بلا كتابة. كان تساؤلي حقيقياً طرحته على نفسي اولا، واكتشفت ان هناك انتظارا حقيقيا من قبل القراء لما سيأتي. واود ان اقول ما سيأتي يا عزيزي هو مشروع قصص قصيرة للاطفال، كنت قد كتبته لأبنتي قبل كتابة "الحزام". طلبته مني دار "غاليمار" وسوف يصدر قريبا. هناك مشروع اخر يشكل امتدادا لـ"الحزام" عن تجربة الراوي في الرياض كمدينة ليست ككل المدن، وعن انتقال هذا الراوي من مجتمع القبيلة الى باريس، بالاضافة الى مشاريع اخرى كثيرة،& وهنا اقول، كما قلت لأحد الاصدقاء، ان الفقراء لا يعلنون عن ثرواتهم. لذلك احتفظ بالحديث عن مثل هذه المشاريع الى لحظة وضوحها تماما بالنسبة لي. وسوف تكون انت اول من يعرف عنها.
&

احمد ابو دهمان في السان جيرمان ديه بريه
&