كتب غسان تويني في صحيفة النهار حول الأمم المتحدة وقضية شريط الفيديو تحت عنوان تأملات مسرحية من وحي الأحداث فقال:
مهداة الى الذين اختصروا قضيتنا والأمم المتحدة بخلاف على شريط فيديو!!!
في عاصمة المهرجانات الفنية في العالم، ولو لشهرين، تفهم بماذا لبنان - دون سائر العرب - يظل على اتصال بمناهل الخلق: توقه الى قيم الجمال، اذاً الخير والحق، كما مثلا في مواسم بعلبك وبتدين وصور وبيت مري وبيبلوس، وكما تفجّرت نشاطات بيروت وصيدا الثقافية والفنية فجأة، منذ "عيد الموسيقى"... وكل المسرحيات، ليلة بعد ليلة، وحركة نشر، وحلقات بحث ومناقشة، لا مثيل لها في دولة بحجمه... ومن غير فضل للفرنكوفونية ولا اصحابها!
* * *
وتبتسم، بكثير من العطف بل الشغف، عندما تقرأ هنا ان رئيس سوريا الجديد (بشار الاسد مع زوجته الضالعة في الالكترونية) حاول، ولعله نجح، في اكتساب ثقة عالمية عندما تحدّث عن مشروع - لا يزال مشروعاً، فقط - بناء مدينة علمية مستقبلية في ضواحي حمص، استملكت لها دولته مساحات شاسعة، على أمل انشاء "سيليكون فالي" سورية (ولا نقول عربية!) على النموذج الاميركي - الاوروبي...
ولكن ثمة من قال له ان ذلك يستوجب اولاً اطلاق مناخ الحرية الاكاديمية، واول الطريق اليها الغاء قوانين الطوارئ واقفال سجون الفكر والمعارضة (والصحافة)... والارجح ان سوريا اخيراً فاعلة، فنهلّل.
... بينما طموح الحكم في لبنان ان يبني "قصر مؤتمرات"، بهندسة معمارية متخلِّفة، تتشبه بقصر الطائف مثلاً، الذي ابرز ما استضاف مجلس نواب لبنان في الهجرة، لصناعة دستور لا يزال طائفاً!
في حين ينام مشروع تطوير للتعليم المهني، اقره البنك الدولي ورصد له قرضاً بزهاء مئتي مليون دولار، (ونحن نشحد قروضاً اخرى وبأعلى الفوائد!) لأن نائباً او نائبين او ثلاثة يريدون تعديل القانون، والمجلس عن ذلك مشغول... واذا فعل وعدّل، فسيتوجّب نتيجة ذلك اعادة المفاوضة مع البنك الدولي، وتعديل شروط الاستقراض... بينما الطلاب ينتظرون، والحاجة اليهم والى اعدادهم تنتظر، فلماذا الاستعجال!!!
* * *
أوَليس ذلك هو بعينه التخلّف؟
تماماً كالتخلّف الفكري الذي "جسّده" قول مسؤول لبناني لباريس الرسمية ان الحرية في لبنان هي "الفوضى"... فتمضي باريس تروي الحكاية، وسواها، لزوارها وتقهقه... لا تصدّق ان ذلك هو لبنان، وكيف يصبر لبنان على حكم "السحرة الهواة"، وحتّام يطول صبره!
تكاد تيأس، لو لم تكن تتذكر ان كبيراً من لبنان - اميل مرشد البستاني ولا ننساه! - قال مرة اننا ربما الوطن الوحيد في العالم الذي "ينجح ويستمر بدون حكم، بل رغم حكوماته وحكامه"!...
ولكن، كيف يدوم رغم هكذا عروبة؟
... ولكننا سندوم، فلنتذكّر.
سيبقى لبنان رغم تخطيط الحروب ضدّه التي يساعد على فهم بطولياتها المأسوية ازدحام الرموز "المسرحية"، وانت تشاهدها وتقرأ عنها في أفينيون، فتظن ان لبنان أمام خشبة شكسبيرية، او لتمثيلية من موليير تعود فجأة تسخّف النزعة الديكتاتورية عبر شخصية بطل يريد تربية امرأة على هواه كي يحبّها!!!
* * *
أليس ثمة شيء كثير من المسرحية الهزلية في شخصية ارييل شارون الذي زار باريس وفي خلفية ذهنه انه قادر على اقناع اهل ديكارت بمنطقية اغتيال ياسر عرفات، فتنتهي الثورة... وفي جعبته تقرير من جهاز الأمن العام "شين بيت" (نشرته الصحيفة الاسرائيلية "معاريف" ونقلته "الفيغارو") يقول حرفياً:
"ياسر عرفات الرجل يشكل تهديداً خطيراً لأمن الدولة [أي اسرائيل]، والمخاطر التي يرتِّبها غيابه المحتمل عن الساحة [أي قتله!] أقل من مخاطر وجوده فيها".
وفي مكان آخر من الصحافة هنا مقال اسرائيلي آخر (من "هآرتس") يقول ان انسحاب جيش اسرائيل من لبنان، وكأنه منهزم امام "حزب الله"، هو الذي اطلق "الانتفاضة" في فلسطين ظناً منها ان في وسعها هي كذلك ان تهزم اسرائيل... وكأن قمة المنطق المعوّج دعوة الى اجتياح لبنان لكي "تنهزم" الانتفاضة في فلسطين!!!
... في أفينيون يمثلون اخراجاً جديداً لمسرحية "ماكبث". فتدرك اذا حضرتها وتذكّرت "هاملت"، كذلك، كم ان شخصية ارييل شارون، بطل الحكم بالاغتيال، مسألة قديمة... وكم هي مأسوية "المسرحية" الشارونية، ولو ظننت انها في شكلها - ومنطقها - هزلية مضحكة... تظل تضحك منها الى ان ينتقل التصميم المجنون الى الفعل، فيكتمل الجنون!
ترى، هل نسي شارون انه حاول، فعلاً حاول، وشخصياً ومن سطح مؤسسة كهرباء لبنان، "اغتيال" ياسر عرفات، ببندقية حربية يعلوها منظار، بينما كان الرئيس الفلسطيني يهم بركوب البحر مغادراً بيروت عام ،1982 فنهر شارون ومنعه ضابط فرنسي كان هناك، مع "القوة المتعددة الجنسية"، يراقب جلاء المقاتلين الفلسطينيين؟
ويقوم صحافي فرنسي يذكّر بذلك الآن بالذات.
* * *
الذاكرة، الذاكرة... ما أهمها!
تأخرت محاسبة شارون على مجزرة صبرا وشاتيلا، ولكنه لمس ان صورها كانت ماثلة في اذهان مستقبليه، كبارهم كما الصغار الذين تظاهروا في الشوارع ضد زيارته... ولو منعت ذاكرة المانيا، و"عقدة الذنب" التي زرعتها الصهيونية في النفسية الالمانية - منعت برلين من التظاهر ضد شارون، الا انها لم تمنعها من التحفظ البليغ في استقباله وعدم الترحيب بمخططاته الاجرامية.
سرّاً، يذكّرهم شارون بادولف هتلر اكثر مما يذكرهم بضحاياه...
عالم نفساني فرنسي، لعله يهودي، كتب ما يستحق ان نسجّله، في زمن "النقد الذاتي" إذ دعا كاتب لبناني "حزب الله" - لعله منه وفيه - للقيام به (مقال طويل مدروس نشرته "النهار")... في زمن النقد الذاتي - نقول - وزمن "الحوار الديني" بين علماء مسلمين ويهود الذي كُشف النقاب عنه، وقد جرى في القدس بمعرفة السلطات الاسرائيلية والفلسطينية وموافقتها وهي تتحارب...
يقول هذا العالم النفساني، دانيال سيبوني:
"اله الاسلام هو ذاته اله الآخرين المواجهين للمسلمين، وكتابه من الكتاب ذاته (...) وقد حاول المسيحيون من قبل تبرئة يسوع المسيح من يهوديته (...) ان التبرؤ من الأصول هو العمل التوتاليتاري الأبرز، وهو بالذات ما حملته النازية الى حده الأقصى، ففشلت (...) فلكي نحول دون مجزرة "هولوكوست" ثانية، يجب مساعدة الحركات الاسلامية على قبول كونها ليست المؤتمنة الوحيدة على الوهية الله، ولا هي اول من اكتشفه (...) ولكن، هل تقدر اسرائيل على تجريد فكرها والتخلص من نرجسيتها المستسهلة التي تمنعها من النظر الى ذاتها عبر نظر الآخر اليها؟".
... هل يقبل أرييل شارون، هل يقتنع الوحش الذي في نفسه، بأنه ليس هو المؤتمن على مفاتيح "مملكة الله"؟
* * *
الذاكرة، الذاكرة!
رحم الله الرئيس شارل حلو، رئيس الرؤساء المفكرين عندنا - ايام كان الفكر وكانت الثقافة شرط تولي الاحكام - كان يقول انه لن يكون ثمة سلام في فلسطين والقدس بالذات ما دام الفرقاء يظنون انهم يتنازعون على "مملكة الله" وهي لا تُقتسم، بل نزاعهم على مدينة، ولو مقدسة، انما من هذا العالم، فتصح فيها المشاركة.
من ثلاث سنوات، في أفينيون نفسها، ارتفع صوت المؤذن العربي يدعو الى الصلاة، في صدر قصر البابوات ومن قبة الجرس... كان ذلك هو المدخل الى مسرحية للفيلسوف الالماني ليسنغ موضوعها القدس وتلاقي الاديان فيها. فمتى يحدث ما يقابل ذلك في مسجد عربي، فتقرع منه الاجراس؟
الآن، في قصر البابوات وبالذات في احدى كنائسه، معرض لرسوم الروائي الصيني (البوذي؟) المعاصر "غاو كسينغ يان" (الذي نال كتابه "نفس الجبل" جائزة نوبل للآداب) بينما تعرض، ممسرحة في احدى القاعات، خطبته امام برلمان اسوج إثر نيله "نوبل".
من بيجينغ الى واشنطن، الى طوكيو، الى موسكو، حيث كان الرئيس شيراك يدعو الى توسيع حدود اوروبا وصولاً الى جبال الاورال، اي الى شاطئ المحيط الهادئ الذي تلتقي حوله اميركا والصين واليابان... الدول كلها تعيد بحث "جغراسية" العالم، ترسم حدوداً وتدرس موازين قوى وتخطط محالفات.
وحدهم الصغار يتقاتلون على الله وباسمه: في الجزائر يومياً وكلهم من دين واحد، وفي مقدونيا باسم الله كذلك، انما الله الواحد ذاته لدينين، وفي ايرلندا تعصباً لمسيحية ضد الأخرى، الخ... الخ...
فأين موقعنا، لبنان وفلسطين، وعرباً، من العالم الجديد الذي يجري بناؤه؟
بل أين وجودنا؟ أين ارادتنا وقدراتنا التي تختار لنا مسلكاً وموقعاً؟
* * *
... أم نكون قد "سلّمنا" نهائياً بألا نبحث عن ذاتنا الا في ماضينا، ونخاطب العالم من ابراج جاهليتنا، وبلغتها؟
ليس المطلوب منع شارون من اغتيال عرفات، بواسطة نفوذ سوانا عليه، وكفى...
ولا هو المطلوب اغتيال شارون، وقد مرّت على مجازره العربية اجيال، منذ دير ياسين وصولاً الى صبرا وشاتيلا، ولم ينتقم منه أحد... الى ان تصدّى له لبنان أمام القضاء الدولي، ومتأخراً جداً، ومع ذلك لم يؤيد لبنان بعد ولا عربي آخر!
المطلوب هو ان نمنع شاروناً ما من اغتيال القضية العربية، بل اغتيال كياننا وسيادتنا كدول متقدمة وشعوب حرة!
المطلوب ان نتجرأ أخيراً أخيراً وندخل اللعبة العالمية بمفاهيمها وادواتها وحضارتها، بل وصناعة اسلحتها، فلا نظل ممترسين خارج ثقافة التاريخ وحرياته وحقوقه... بل خارج التاريخ الذي قد تخطفه اسرائيل فتخطف شعوبنا وثوراتنا وحرياتنا وحقوقنا، والثروات كذلك... ونحن على قصور امجادنا واوهامنا والعقائديات الباليات قابعون، نتفرج على ذوبان ذاتنا ولا رأي لنا ومنا.
فقط نستقبل المندوبين الدوليين - وثانويين - في رقصة باليه، ونصفّق...
نصفّق للمسرحية المأساة، يمثِّلها سوانا على ارضنا وكأن الوطن مجرد خشبة مسرح، اليوم للايجار، وغداً ربما للبيع !!!

&