أجرى الحوار في باريس:& مارغريت أوبانك وصموئيل شمعون
_______________
الشاعر الكبير أدونيس
حين خبئت القصيدة في صدري
من اللافتات التي تملأ ساحة المدينة، عرفت ان للبلدية شأناً في اعداد الاستقبال. اذن، أذهب وأرى رئيس البلدية، وأخبره، وأطلب أن أقرأ قصيدتي لرئيس الجمهورية. وكان يرأسها آنذاك، ياسين علي أديب.
- ماذا تريد يا ابني؟
سألني رئيس البلدية، بنوع من الشفقة والاستغراب، وهو ينظر اليّ، مبللاً، شبه حاف، أرتعش- لكن دون أن يفارق البريقُ عينيّ.
- أريد أن ألقي قصيدةً أحيي بها رئيس جمهوريتنا.
صمتَ. شعرت ان استغرابه زاد. شعرت كأنه يتساءل في ذات نفسه: كيف لهذا الطفل، وهو في هذه الهيئة، أن يلقي قصيدة أمام رئيس الجمهورية، في حشد حافل؟
تبسّم. قال بلطف:
- طيب، اقرأها لي.
تناولت القصيدة من صدري حيث أخبأتها حفاظاً عليها من المطر، وأخذت أقرؤها.
أصغى، بانتباه قليلٍ. بانتباهٍ. بحماسة. بفرح. ولم أكد أنهيها حتى قال بغبطة كبيرة:
- نعم سوف تلقيها.
اتصل هاتفياً بشخص عرفت فيما بعد انه القائمقام عبد الله الياس. أرسلني الى مكتبه في السراي. دخلت المكتب. كان بَللي قد خفّ، وعاد الى وجهي اشراقه الطفولي. المكتب قاعة كبيرة كانت تمتلئ بالموظفين الكبار في السّراي. صمت ودهشة. ثم قال لي القائمقام:
- "اقرأ القصيدة لنرى".
قرأتها. استحسانٌ واعجاب. لكن حيرةٌ كذلك في أمر هذا الطفل.
- "نعم ستلقيها"، قال& القائمقام، بفرحٍ أقل من فرح رئيس البلدية. ثم تابع:
- "اذهب الآن. انتظر في ساحة السراي. أمام المدخل مباشرة. عندما يجيء دورك في الالقاء، سنناديك".
أريد أن أدخل المدرسة يا سيدي الرئيس
لم أصدِّق. ان صحّ الأمر فسوف تكون الاعجوبة هذه المرة، اعجوبة واقع، لا أعجوبة خيال. سوف يكون التخيّل هو نفسه الواقع.
ساحة السراي. الناس صفوفٌ متراصة على مدى النظر. لافتاتٌ، أعلامٌ، صور: سقْفٌ عائم. في وسط الساحة، مقابل الشرفة التي سيطل منها رئيس الجمهورية، ليرد على تحية مستقبليه ويخطب فيهم، نُصب منبرٌ خاصٌ للخطباء.
اذن، سوف أصعد هذا المنبر. سوف يملأ صوتي، أنا أيضاً، هذه الساحة. ويُصغي اليه رئيس الجمهورية نفسه. وبعد أن أنهي قراءة القصيدة، سوف يناديني- أنا القروي الطفل، لكي أقابله- هو رئيس المدن والقرى في البلاد كلها. وسوف يسألني: " ماذا تريد، يا بني، ماذا يمكن ان نقدم لك؟" وسوف أجيبه بعبارة وحيدةٍ واحدة: " أريد أن أدخل المدرسة، أريد أن أتعلم".
هو ذا موكب الرئيس. أمواجٌ من البشر تحيط به، منشدة هاتفة. يصعد الى السراي. يطل من الشرفة. تصفيق. هتافات. صمت. تبدأ خطب الترحيب. الخطيب الأول. الثاني. الثالث.& وآخرون نسيت عددهم وأسماءهم. وأنا؟ أهملوني، اذن؟ غيّروا رأيهم. أكاد أن أنفجر، لكن حنقاً وغيظاً، هذه المرة. والناس، الآن، ينتظرون خطاب الرئيس. في هذه اللحظة، والرئيس يهم بالقاء خطابه، سمعتُ من يقول لي، غاضباً: "أهملوك. انه القائمقام" وشتمه. ولم أعد أذكر عبارة الشتيمة. أمسك بيدي، وصرخ بأعلى صوته، فيما كان الرئيس يبدأ خطابه: "يا فخامة الرئيس، هذا طفلٌ جاء من أعالي الجبال، لكي ينقل الى فخامتكم مشاعر أهل الجبل وعواطفهم. نرجوك أن تُصغي اليه". توقف رئيس الجمهورية، وأشار بالقبول. حضنني هذا الشخص، وكان رئيساً لدائرة الأحوال الشخصية في جبلة، وكان اسمها "دائرة النفوس"، وحملني، ووضعني على المنبر، وعرفت فيما بعد ان اسمه عبد الرزاق المحمود.
حضنني الرئيس بحنانٍ. قَبّلت يده
أحسست كأنني رئيس آخر. وبهذا الاحساس، قرأتُ القصيدة. كانت مفاجأة ضخمة. وصفق الناس اعجاباً. وازداد اعجابهم حين أخذ الرئيس بيتاً من القصيدة، استشهد به، وبنى عليه جزءا من خطابه.
وعندما أنهى الرئيس خطابه، أخذ الناس يتدافعون حولي، فيما كان صوتٌ يناديني: يريد الرئيس أن يراك.
صعدت الى السراي. حضنني الرئيس بحنانٍ. قَبّلت يده.
- "ماذا يمكن أن نقدم لك؟ ماذا تريد؟"
- "أريد أن أدخل المدرسة. أريد أن أتعلم".
- "سنفعل ذلك. اطمئن".
بعد حوالي اسبوعين جاء الدّرَك يبلغونني: " أنت مطلوبٌ لكي تذهب الى طرطوس، وتدخل المدرسة".
السيارة التي نقلتني الى المدينة، طرطوس، تغص بركابها. كبيرة، كشاحنة كبيرة. كان السفر في السيارات الصغيرة امتيازا لذوي المال والجاه.
كان عليّ، في ذلك النهار، أن أستيقظ باكراً، ليكون لديّ الوقت كي أقطع الطريق الى جبلة، سيراً على قدميّ، ولكي لا تفوتني السيارة التي تنطلق منها في اتجاه طرطوس: لم يكن لديّ بزّة مَدنية. سافرت بلباس القرية: القنباز الطويل المقلّم، السروال الأبيض الطويل، والسترة الفضفاضة التي لم تُهيأ لي أساساً. ولا أذكر أنني أخذت معي شيئاً. أو لعلّ ما أخذته لا يجد له مكاناً في ذاكرتي.
سفري الى طرطوس، مثل الخروجٌ من القبر
طرطوس- لم أكن أحلم، وهي التي تبعد عن قريتنا حوالي خمسين كيلومتراً، أن أراها أبداً. كنت أشعر أن القرية التي ولدت فيها، مقامي الأخير، وتخومي القصوى. وكانت المدينة، بالنسبة اليّ، فكرة بعيدة جدا، مُلكاً لأشخاص بعيدين، هيهات أن أتمكن من بلوغها.
الطريق الى طرطوس.
كنت أشعر أن سفري اليها كأنه خروجٌ من القبر، ولادة أو تكملة لولادتي. والسفر اذن ليس غياباً. الغيابُ هو البقاء حيث ولدتَ، كأنك ميّتٌ قبل الموت. هو شعورك أنك حيٌّ، لكنك لستَ قادراً على ممارسة الحياة. السفر هو الحضور.
وأخذتُ أتمتم في ذات نفسي، متسائلاً، ضائعاً، ذاهلاً: هل السفر وصولٌ، أم هو طريقٌ لسفر آخر؟ واذن، لا عودة؟ كأنه انفصالٌ، قطيعةٌ، ونوعٌ من الموت؟ وكنت أجيب نفسي: كل رحلةٍ لا عودة منها. ان كانت هناك عودة، فليست منها، بل مما ليست هي.
السفر أفقٌ. ولا تخوم له. والمكان هنا وَتَرٌ، والأيام أنغامٌ وايقاعات. والزمن هنا "طفل يلهو" (هيراقليطس). ايها الطفل الذي فيّ، هل تفهم هذا "اللهو"؟ وهل أنت في مستواه؟
وشعرتُ أن جسدي يتحول الى ايقاعات يتداخل فيها النبض، التنهد، الحالةُ، المزاجُ، وأن دمي يسيل في هذه جميعاً. وشعرت أنني أتعرفُ على حاضرٍ لا ماضيَ له من جنسه، أو حاضرٍ مسكون بماضٍ لا ماضيَ له. أأنا في انخطاف لا يعود الزمن فيه إلا هذه الهنيهة من هذا السفر؟
لماذا أخذ الموت أختي الجميلة، سكينة
ولماذا، في هذه الهنيهة بالذات، تملأ داخلي، تملأُ هواجسي، صورةُ القرية مُبقعة بالموتِ- ولبست هذه البقعة إلا مَوتْ أختي سَكينة؟ لا أذكر وجهها؟ أذكر وجهَ أمي الذي يأكله الحزنُ العاجز الصامت.
لماذا بكّر الموت وأخذ هذه الطفلة التي قيل انها جميلة جدا؟ لم تمرض. ذهبت الى عين القرية وعادت. العين قريبة جدا الى بيتنا. أقل من خمس دقائق سيراً على القدمين. ذهبت وهي في كامل زَهْوِها الطفولي، وعادت شبه ذابلة. لا علّة فيها، قالت أمي باكيةً. ماتت، فجأة. كمثل شهابٍ لم يكد يتلألأ حتى انطفأ. أُصيبت بالعين، لجمالها، قالت أمي.
لا تُصيبيني بعينيكِ، يا هذه الطريق.
ولماذا، في هذه الهنيهة نفسها، تُحاصرني صُورٌ خاصةٌ من طفولتي الأولى،-
صورةُ بيتنا أولاً. مختصر للطبيعة، في الهواء الطلق: جدران من الحجر والطين، يغطيها سقف من الخشب. وكان البيت مقسوماً الى جزئين: داخلي، معتم لادخار المؤونة- حبوباً، وزيتاً ويتوناً، على الأخص. وخارجي للجلوس والنوم والأكل والاستحمام والضيافة. في الشتاء، كانت أمي تجلسني في طستٍ كبير وتغسلني. كنت أصرخ وأبكي، خصوصاً عندما تدخل في عيني رغوة الصابون. وكانت تقول بهدوء: قلت لك أغمضْ عينيك، عندما أغسلُ رأسك.
ولماذا، في هذه الهنيهة أيضاً، لا تفارقني صورة "الكُتّاب": حفظ القرآن، التجويد، الخَط: كانت تلك هي الدرجات الأولى في& سُلّم المعرفة.
الطريق الى طرطوس،-
شاطئٌ آخر من الخُضرة يواكب زُرقة البحر. والبحر يتمدد في ظل الجبال، تحت أقدامها. بين أمواج البحر، والجبال- تلك الأمواج الأخرى من التراب والصخر والشجر، سِرتُ الى طرطوس. كنت أشعر أنني كمثل طائر، وأن جسدي ليس معي. يقفز من نوافذ السيارة، يُجاريها في سرعتها، ويحاول أن يسبقها الى المدينة. وكانت أفكاري وخواطري ترقصُ كأنها الموج. تتمازج بما تراه عيناي- بالشجر، والصخور، والحصى، بالشمس والظل. كانت فضاءً آخر داخل الفضاء.
تُرى، هل جسدي هو الذي يسير في هذه السُّهول
تهدرُ السيارة وتتموج، مثقلة بركابها. يهدر في شعوريَ الساحل كلّه، ويتموّج معها- بسهوله وروابيه. وأنى اتجهت عيناي، كنت أشعر أن ثمة مرآة كبيرة أخترقها صوب الجهة الأخرى، ذلك الفراغ المليء بأمواج لا أراها. أين تبدأ، أين تنتهي؟ من أين تجيء، الى أي تمضي؟ سديمٌ عذبٌ كأنه جسدٌ آخرُ خُيّل اليّ أنه يحملني، ويُهدهُدني- فأمشي، وأحلم، وأحسَبُ أنه هو نفسه جسدي الحقيقي الذي يحمل رأسي وقلبي، ذراعيّ وقدميّ. وكنت أتساءل بقلق كأنه الطمأنينة: تُرى، هل جسدي هو الذي يسير في هذه السُّهول، أم أنّ هذه السهول هي التي تَسير فيه؟ وكنت أتحسسه: تُرى بقي منه شيءٌ في القرية، في فراشي الذي نهضت منه، دون ان أودِّعه كما ينبغي، أو على عتبة بيتنا، أو بين ذراعي أمي، أو في الطريق التي تصلُ بين القرية والبحر، بينها وبين جبلة، حيث صعدتُ الى السيارة؟ وشعرت، للمرة الأولى، أن بين جسدي والمكان االذي وُلِدَ فيه وحدةَ نهارٍ وليل، ماء وتراب، قمرٍ وشمس. ولم أعرف كيف انتبهتُ الى رائحة تفوحُ من ثيابي لم تكن إلا رائحة الحَبقِ أمام بيتنا ممزوجة برائحة الطيون والزنزلخت وتلك الأعشاب التي أجهل أسماءها والتي طالما نمتُ عليها أو نمتُ معها.
نهر السّن/ حريصون: اسمانِ أولانِ يَسمانِ الطريق، قبل بانياس. يَنطبعان حتى اليوم، لا في ذاكرة خواطري وحدها، بل في ذاكرتي عينيّ أيضاً. دخلا عِبْر هواجسي في إنبيق كيميائي من التساؤلات: لماذا "االسنّ"؟ والنّهر هو، في الحقيقة، نبع. ومن أين تجيء كلمة "حريصون"؟
ورَجَحَ في هذا الإنبيق، ربما مؤقتا، ان "نهر السن" اسم مُصغَّر لذلك النهر الذي يجري في جغرافية أخرى، بعيدا: "نهر السّين". ذلك ان السنّ لم تكن سِنّاً. الأحْرى أن تُسمى فَماً. والنهر نبع غزيرٌ كريم يخرج من أحشاء جبل تربض فوقه قرية "قرفيص" التي بدت لي كأنها حقاً تجلسُ القرفصاء على صدر هذا الجَبل، ويوزعه الفلاحون بسخاء على السهول التي تمتد حتى البحر.
حربة الامام علي...& والتنين
ورَجحَ في هذا الإنبيق، وربما مؤقتا أيضا، ان كلمة "حريصون" ليست إلا تصحيفاً أو تحريفا للكلمة الآتية من "نهر السين": Hérisson - اشارة الى ان المكان الذى يجاور "نهر السين" عامرٌ بالرجال المشاكسين، أو بالحواجز ومراكز المقاومة، أو بالمزارعين المختصين بتوزيع الأسمدة، أو بالقنافذ، أو بهذه جميعاً.
ولم أقدر ان أسأل شخصاً عن حقيقة هذين الاسمين، قبل مرحلة الانتداب الفرنسي على سورية. لذلك لا يزال الإنبيق الكيميائي مليئاً بالتساؤلات.
"قلعة المرقب" الاسم الثالث الراسخ ايضا عميقاً في ذاكرتي. رأيتها من نافذة السيارة، وكنت عرفت اسمها من أحد الركاب، تجلس مهيبةً على جبل مُسْتَوٍ، تدير خدّاً لبانياس، وخدّاً للبحر. تجلس لابسة السواد، وما حولها ترابٌ اسود، وصخور سوداء. على الشاطئ، قبالتها تماما، مرفأ صغير. في رأس المرفأ صخرةٌ سوداء. في الصخرة ذراع صخرية سوداء طويلة، مشكوكة بشكل مائل. قلت في نفسي: أكيدٌ انها غُرست منذ القديم لربط القوارب التي تُرسي في هذا المرفأ. لكنني، فيما بعد، سمعت الأسطورة التي يُرددها القرويون هناك، والتي تقول شيئاً آخر. تقول ان هذه الذراع ليست إلا جزءا من حَرْبة كان الامام علي قد ضَرَب بها التنين. قتله، وانغرست الحَرْبة، من شدة الضربة، في الصخر، لتبقى شاهدةً على ذلك مدى الدّهر!
أيتها البلادُ، يا جسدي الآخر
يا بلاد الموج والأساطير،
أيتها المكتوبة بالحنّاء والكحل وأحلام الملائكة،
ألَن تُعطيني سحركِ الآن، في هذه اللحظة، لكي أتسلَّحَ به، في هذا السَّفَر؟
*&نشر هذا الحوار باللغة الانكليزية في مجلة "بانيبال" المختصة بترجمة الأدب العربي الحديث. والصيغة المنشورة أعلاه مستمدة من عشرات الاسئلة التي أجاب عليها الشاعر . وننشره هنا بالاتفاق مع "بانيبال".
&