&
&حاوره في باريس: مارغريت أوبانك وصموئيل شمعون
_________________
كان زعيم العشيرة التي أنتمي اليها، متسلطاً عليها، كأنها ملكه الخاص
&
عدت لأرى الأب الذي مات
لكن، أين هذه القرية الآن؟ حين عدتُ اليها، بعد خمسين عاماً، شعرت كأنني أعود الى نوع من الموتِ، محمول في ماء اللغة. شعرتُ كأنني صاعدٌ على جَبلٍ من الريح.
وما أتحدث عنه هنا ليس، اذن، إلا دخاناً لا موقدَ له، وضَيّعَ ناره الأمّ. لا مادة تُمسك ببصري: هل يكفي& أن أتَنوّرَها ببصيرتي؟ صحيح، بقيت من هذه المادة أسماؤها- وليست الأسماء إلا أصداءً، وأخيلة، وتوهمات. وهل يُجدي أن نكتبَ التوهّم؟
أم لعلّي، في عودتي الى القرية، عدت لكي أرى الأبَ الذي مات، دون أن أراه، دون أن أحضر مأتمه، وأشيّعه الى داره الأخيرة- لكي أراه ظِلاًّ لا يكاد أن يرتسم، يتنقل على الدروب اياها، تحت الأشجار نفسها، أو ما تبقى منها. بين الكتب التي كان يختارها لي، ويختزنها. على أوراقها التي تكسوها أنفاسه، وأنفاس الذين خَطّوها.
أم أعود لكي أتفحص، شأن كثيرين غيري، ما نصيب الواقع، حقاً، في الحياة، وما نصيب الذاكرة، وما نصيبُ التخيّل؟
وما أتحدث عنه هنا ليس، اذن، إلا دخاناً لا موقدَ له، وضَيّعَ ناره الأمّ. لا مادة تُمسك ببصري: هل يكفي& أن أتَنوّرَها ببصيرتي؟ صحيح، بقيت من هذه المادة أسماؤها- وليست الأسماء إلا أصداءً، وأخيلة، وتوهمات. وهل يُجدي أن نكتبَ التوهّم؟
أم لعلّي، في عودتي الى القرية، عدت لكي أرى الأبَ الذي مات، دون أن أراه، دون أن أحضر مأتمه، وأشيّعه الى داره الأخيرة- لكي أراه ظِلاًّ لا يكاد أن يرتسم، يتنقل على الدروب اياها، تحت الأشجار نفسها، أو ما تبقى منها. بين الكتب التي كان يختارها لي، ويختزنها. على أوراقها التي تكسوها أنفاسه، وأنفاس الذين خَطّوها.
أم أعود لكي أتفحص، شأن كثيرين غيري، ما نصيب الواقع، حقاً، في الحياة، وما نصيب الذاكرة، وما نصيبُ التخيّل؟
أتعجب مِمّن يزعمُ أنه يعرف نفسه؟
أم لكي أستعيد من جديد، توهّماً، جَريان الزمن الذي يفصلني عن مكان ولادتي؟ هل لكي أقارنُ بين قسمات وجهي وتجاعيد جسدي، وبين قَسَمات المكانِ وتجاعيد الوقت؟ هل لكي أستبقَ موتي وأراه عياناً عِبْر جريان هذا الزمان، في الأشياء التي عرفتها طفولتي والتي تغيرت- ولم تعد هي هِي؟ هل لكي أواجه موتي، مسبقاً؟ أو لكي أرى تلك النقطة الغائمة، الهائمة التي تفصلُ بين الحياة والموت، وتصل بينهما في اللحظة نفسها؟
لكن، لماذا أشعر أن المكانَ الذي ولدتُ فيه ليس مكاناً جغرافياً؟ لماذا أشعر أنه رَحِمٌ لُغويّةٌ؟ لماذا أشعر كأنني أبتكر مكانَ ولادتي،& كما أبتكر قصيدتي؟
والقصيدة لا تكتمل. كذلك المكانُ الذي ولد فيه الانسان: انه هو أيضاً لا يكتمل.
هَلْ أفاجئ، أو أصدم أحداً، ان قلت: أتعجب مِمّن يزعمُ أنه يعرف نفسه؟ كيف أعرف نفسي، فيما تبدو لي كمثل الأثير، أو كمثل خَيطٍ في غَزْلِ الشمس، أو كمثل الهواء- سائِحاً في الجهات كلّها؟ كلّما خُيّل اليّ انني اقتربُ منها، أكتشفُ أنني أبتعد. وأعرف أنها ليست سراباً. انها كمثل ضوءٍ يُسْلمكَ، فيما تَصِلُ اليه، الى ضوء آخر يسلمك هو نفسه الى آخر. الى ما لا ينتهي.
وكل ما كتبته ليس، في ظنّي، إلا بَحْثاً عنها: بحثاً، وليس تعبيراً عنها. كنت أترصدها، أستقصيها، أكمنُ لها. وكانت تُفْلِتُ دائماً.
كأن نفسي، كأن هويتي هي هذا البحثُ، أبداً.
والقصيدة لا تكتمل. كذلك المكانُ الذي ولد فيه الانسان: انه هو أيضاً لا يكتمل.
هَلْ أفاجئ، أو أصدم أحداً، ان قلت: أتعجب مِمّن يزعمُ أنه يعرف نفسه؟ كيف أعرف نفسي، فيما تبدو لي كمثل الأثير، أو كمثل خَيطٍ في غَزْلِ الشمس، أو كمثل الهواء- سائِحاً في الجهات كلّها؟ كلّما خُيّل اليّ انني اقتربُ منها، أكتشفُ أنني أبتعد. وأعرف أنها ليست سراباً. انها كمثل ضوءٍ يُسْلمكَ، فيما تَصِلُ اليه، الى ضوء آخر يسلمك هو نفسه الى آخر. الى ما لا ينتهي.
وكل ما كتبته ليس، في ظنّي، إلا بَحْثاً عنها: بحثاً، وليس تعبيراً عنها. كنت أترصدها، أستقصيها، أكمنُ لها. وكانت تُفْلِتُ دائماً.
كأن نفسي، كأن هويتي هي هذا البحثُ، أبداً.
قراءة الشعر العربي القديم&....& للضيوف
أذكر أيضاً قراءة الشعر العربي القديم، بعناية أبي وبسهره على تربيتي.
كل ليلةٍ قراءة. للشعر وحده.
يَحضر المتنبي (كان الأكثر حضوراً). يحضر أبو تمام، البحتري. الشريف الرضي. يحضر امرؤ القيس. المعرّي- لكن، نادراً. ربما لأنه كان "حكيماً"، لا شاعراً، كما تعلّم تقاليد التذوق، وكما يقول العارفون بشعرنا القديم.
قراءة بصوتٍ عال وأمام ضيوفٍ يحبّون السّماعَ، وهم أنفسهم شعراء. يُصغون الى صوتك باهتمام، كأنهم يمتحنون ويقوّمون. يُصغون الى لغتك- نطقاً، وتجويداً. يطربون غالباً. لم تكن تقرأ برأسك وحده. كنت تقرأ بقلبك، بحواسك، بجسدك كلّه.
بعد السَّماع، يأتي امتحان الصّرف والنحو. أَّعرب هذه الكلمة. هذا البيت. واذكر وجوهَ الخِلاف، هنا أو هنالك.
ثم يأتي امتحان المعنى. ما معنى هذا البيت؟ هل أخذه الشاعر، أم ابتكره؟ ما المعاني الخاصة به في هذه القصيدة، وحده، دون غيره؟
كل ذلك في جلسةٍ& بعد العشاء، في البيت الذي ولدت فيه، والذي يتكوّن من غرفة واحدة. في ضوء قنديلٍ شاحب يغذّيه زيت النّفط، الذي حلّ محلَّ زيت الزيتون.
كل ليلةٍ قراءة. للشعر وحده.
يَحضر المتنبي (كان الأكثر حضوراً). يحضر أبو تمام، البحتري. الشريف الرضي. يحضر امرؤ القيس. المعرّي- لكن، نادراً. ربما لأنه كان "حكيماً"، لا شاعراً، كما تعلّم تقاليد التذوق، وكما يقول العارفون بشعرنا القديم.
قراءة بصوتٍ عال وأمام ضيوفٍ يحبّون السّماعَ، وهم أنفسهم شعراء. يُصغون الى صوتك باهتمام، كأنهم يمتحنون ويقوّمون. يُصغون الى لغتك- نطقاً، وتجويداً. يطربون غالباً. لم تكن تقرأ برأسك وحده. كنت تقرأ بقلبك، بحواسك، بجسدك كلّه.
بعد السَّماع، يأتي امتحان الصّرف والنحو. أَّعرب هذه الكلمة. هذا البيت. واذكر وجوهَ الخِلاف، هنا أو هنالك.
ثم يأتي امتحان المعنى. ما معنى هذا البيت؟ هل أخذه الشاعر، أم ابتكره؟ ما المعاني الخاصة به في هذه القصيدة، وحده، دون غيره؟
كل ذلك في جلسةٍ& بعد العشاء، في البيت الذي ولدت فيه، والذي يتكوّن من غرفة واحدة. في ضوء قنديلٍ شاحب يغذّيه زيت النّفط، الذي حلّ محلَّ زيت الزيتون.
كل ليلة، تقريباً، تتكرر القراءة. مسرحٌ مفتوح يكاد أن يحاذيَ ذلك المسرحَ الأول في رأس شمرا، قرب اللاذقية، حيث ولدت الأبجدية.
وكانت الكتب قليلة. وكانت غالباً تُستعار. وغالباً، لا تُرَدّ. كان من يملك في القرية كتاباً يشعر انه يمتلك ما هو أكبر من القرية. وكان مقامه في نظر الفلاحين يكبر ويعلو.
الشعر، سمعتَه أو قرأته أو كتبته، سفَر. يوسّع العالمَ-خارجاً، وداخلاً. خارجاً- تتوسَع القرية فتحاذي تخومها تخوم البلد الذي نشأ فيه الشاعر. داخلاً- تتسع حدود الحلم والخيال والمعرفة. هكذا كان يؤكد القرويون الذين يمضون سهراتهم مع الشّعر.
وكانت الكتب قليلة. وكانت غالباً تُستعار. وغالباً، لا تُرَدّ. كان من يملك في القرية كتاباً يشعر انه يمتلك ما هو أكبر من القرية. وكان مقامه في نظر الفلاحين يكبر ويعلو.
الشعر، سمعتَه أو قرأته أو كتبته، سفَر. يوسّع العالمَ-خارجاً، وداخلاً. خارجاً- تتوسَع القرية فتحاذي تخومها تخوم البلد الذي نشأ فيه الشاعر. داخلاً- تتسع حدود الحلم والخيال والمعرفة. هكذا كان يؤكد القرويون الذين يمضون سهراتهم مع الشّعر.
- "غداً أسافر لزيارة الأصدقاء في قرية (يسميها). أو في قريتين (يسميهما). هل تأتي معي؟ تقرأ لهم شعراً. سوف يسرون بك، ويحبونك".
وتكون القرية، غالباً، بعيدة عليّ-& أنا الطفل الذي لم يكد يتجاوز العاشرة. لكن، أستيقظ مع أبي صباحاً. نفطر خبزاً وزيتوناً، ونمضي. يسير أمامي. يضع عُكّازه وراء ظهره، ويشبك به ذراعيه. وإذ أتخيله الآن، يبدو لي في هيئة شخصٍ مصلوب. أتعثر، ألتفتُ يميناً، شمالاً، ورائي. أنظر الى السماء. ألْهو، أحيانا، وأتخلّف عنه قليلاً. يلتفتُ ليتفقدني، ويقف ضاحكاً:
- ٍتعبتَ؟"
بلى، يولد الانسان أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان.
ولادته الأولى من أبويه عَملُ الطبيعة. لا اختيار فيه. وربما بَدَوتُ مغالياً اذا قلت انني، منذ طفولتي، كنت مسكوناً بشعورٍ غامض أن مكان ولادتي الأولى ليست مكانا لكي أنمو فيه، بل لكي أنطلق منه. شعورٍ يقول لي: لن تجد نفسك إلا في مكانٍ آخر، في أمكنة أخرى. كأن الانسان لا يُصبح نفسه إلا بالخروج منها. كأن تاريخ الانسان هو تاريخ الخروج من نفسه.
لكن، كيف أخرج، وأين؟
وتكون القرية، غالباً، بعيدة عليّ-& أنا الطفل الذي لم يكد يتجاوز العاشرة. لكن، أستيقظ مع أبي صباحاً. نفطر خبزاً وزيتوناً، ونمضي. يسير أمامي. يضع عُكّازه وراء ظهره، ويشبك به ذراعيه. وإذ أتخيله الآن، يبدو لي في هيئة شخصٍ مصلوب. أتعثر، ألتفتُ يميناً، شمالاً، ورائي. أنظر الى السماء. ألْهو، أحيانا، وأتخلّف عنه قليلاً. يلتفتُ ليتفقدني، ويقف ضاحكاً:
- ٍتعبتَ؟"
بلى، يولد الانسان أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان.
ولادته الأولى من أبويه عَملُ الطبيعة. لا اختيار فيه. وربما بَدَوتُ مغالياً اذا قلت انني، منذ طفولتي، كنت مسكوناً بشعورٍ غامض أن مكان ولادتي الأولى ليست مكانا لكي أنمو فيه، بل لكي أنطلق منه. شعورٍ يقول لي: لن تجد نفسك إلا في مكانٍ آخر، في أمكنة أخرى. كأن الانسان لا يُصبح نفسه إلا بالخروج منها. كأن تاريخ الانسان هو تاريخ الخروج من نفسه.
لكن، كيف أخرج، وأين؟
الطفل الذي قرأ قصيدته أمام أول رئيس للجمهورية
لا أعرف كيف خطر لي أن أحلمَ حُلْمَ يقظة، أرسمُ فيه الطريق الى دخول المدرسة. قلت: الرئيس الأول للجمهورية الأولى لسورية بعد الاستقلال، سيزور منطقة اللاذقية، ضمن برنامج زيارته للمناطق السورية. سأكتب له قصيدة ألقيها أمامه مرحبّاً. وسوف تعجبه. واذن سوف يطلب أن يراني. وسوف يسألني عمّا أريد. وسأجيبه: أريد أن أتعلّم. وسوف يعمل على تحقيق هذه الارادة.
وهكذا تمّ حرفياً.
أول حلم يتحقق. كنت آنذاك في الثالثة عشرة من عمري. ومن ذلك اليوم، أحبّ رقم 13 .
وهكذا تمّ حرفياً.
أول حلم يتحقق. كنت آنذاك في الثالثة عشرة من عمري. ومن ذلك اليوم، أحبّ رقم 13 .
المطر.
كان ينهمرُ كأنه يصعد من الأرض السّوداء الموحلة، أكثر مما يهبط من الغيم. جسدي تحته يرتعش كمثل عصفور لا يَجد مأوى. وتَنْجبلُ قدماي بذلك الوحل الأسود. وتكاد قامتي أن تتحول الى عمودٍ راسخٍ في الأرض ، لا تستطيع أن تتحرك. قدماي شبه حافيتين. كتفاي تنوءان. وثيابي غيومٌ سوداء تَسيل مطراً.
شَجَرٌ ، والرياح تمارس عُنفها على أعناقه. وكان الشَجَرُ ينحني لهذه الرياح، ويظلّ عالياً.
كان زعيم العشيرة التي أنتمي اليها، متسلطاً عليها، كأنها ملكه الخاص. يقرّب هذا ويُبعد ذاك. يجازي ذلك أو يُثيبه، وينتقم من هذا أو يعفو عنه. وكان أبي على طرفي نقيضٍ معه. لم يخضع له قطّ. وظلّ حريصاً على أن يبقى بعيدا عنه. غير أنه دفع الثمن غالياً غالياً.
وكان هذا الزعيم قد أعدّ استقبالاً، قرب قصره، في دوير الخطيب، على الطريق العامة، احتفاءً بالرئيس الأول للجمهورية الأولى في سورية، شكري القوتلي، بعد زوال الانتداب، ونيل الاستقلال.
رفض أبي أن يحضر هذا الاستقبال، امعاناً منه في رفض هذا الزعيم. وكنت أنا قررت حضوره. لم أسْتَشِرْ أبي، بالمعنى الدقيق، وانما أعلمته، وقرأت له القصيدة التي كتبتها.& أعجب بها ولم يمنعني- ربما احتراما منه لرغبةٍ أحسَّ أنها قوية عندي، تنفيذاً لفكرةٍ خَطرت لي، وأخبرته بها.
- "وفقك الله"، هذا كل ما قاله لي، وهو ينظر اليّ أترك البيت، شبه حافٍ، بالقنباز وبقية الزيّ القرويّ، وأنطلق تحت غيم كثيف أسود يكاد أن يلامس رؤوس الشّجر.
كان آلاف الناس يُصطفون على جانبي الطريق. ولا أذكر كيف عرف زعيم العشيرة بأنني آتٍ لألقي قصيدةً، تحيةً لرئيس الجمهورية. وهو خبرٌ سرى بسرعةٍ وشاع بين الحضور. أذكر وجوهاً: كان في بعضها شيءٌ من الفرح، وفي بعضها شيءٌ من عدم الاكتراث، وفي بعضها شيءٌ من الغضب والرفض.
كان ينهمرُ كأنه يصعد من الأرض السّوداء الموحلة، أكثر مما يهبط من الغيم. جسدي تحته يرتعش كمثل عصفور لا يَجد مأوى. وتَنْجبلُ قدماي بذلك الوحل الأسود. وتكاد قامتي أن تتحول الى عمودٍ راسخٍ في الأرض ، لا تستطيع أن تتحرك. قدماي شبه حافيتين. كتفاي تنوءان. وثيابي غيومٌ سوداء تَسيل مطراً.
شَجَرٌ ، والرياح تمارس عُنفها على أعناقه. وكان الشَجَرُ ينحني لهذه الرياح، ويظلّ عالياً.
كان زعيم العشيرة التي أنتمي اليها، متسلطاً عليها، كأنها ملكه الخاص. يقرّب هذا ويُبعد ذاك. يجازي ذلك أو يُثيبه، وينتقم من هذا أو يعفو عنه. وكان أبي على طرفي نقيضٍ معه. لم يخضع له قطّ. وظلّ حريصاً على أن يبقى بعيدا عنه. غير أنه دفع الثمن غالياً غالياً.
وكان هذا الزعيم قد أعدّ استقبالاً، قرب قصره، في دوير الخطيب، على الطريق العامة، احتفاءً بالرئيس الأول للجمهورية الأولى في سورية، شكري القوتلي، بعد زوال الانتداب، ونيل الاستقلال.
رفض أبي أن يحضر هذا الاستقبال، امعاناً منه في رفض هذا الزعيم. وكنت أنا قررت حضوره. لم أسْتَشِرْ أبي، بالمعنى الدقيق، وانما أعلمته، وقرأت له القصيدة التي كتبتها.& أعجب بها ولم يمنعني- ربما احتراما منه لرغبةٍ أحسَّ أنها قوية عندي، تنفيذاً لفكرةٍ خَطرت لي، وأخبرته بها.
- "وفقك الله"، هذا كل ما قاله لي، وهو ينظر اليّ أترك البيت، شبه حافٍ، بالقنباز وبقية الزيّ القرويّ، وأنطلق تحت غيم كثيف أسود يكاد أن يلامس رؤوس الشّجر.
كان آلاف الناس يُصطفون على جانبي الطريق. ولا أذكر كيف عرف زعيم العشيرة بأنني آتٍ لألقي قصيدةً، تحيةً لرئيس الجمهورية. وهو خبرٌ سرى بسرعةٍ وشاع بين الحضور. أذكر وجوهاً: كان في بعضها شيءٌ من الفرح، وفي بعضها شيءٌ من عدم الاكتراث، وفي بعضها شيءٌ من الغضب والرفض.
- "هو ابنه، اذن؟ اطردوه. لا أريد أن يبقى هنا. لا أريد أن أراه"، أخذ هذا الزعيم يردد هذه العبارات على حاشيته، بلهجةٍ جادةٍ، غاضبة.
طردوني. بكيت. ماذا أفعل؟ هل أعود الى القرية؟ كلا. سأتابع، وأحاول تحقيق ما صَمّمت عليه. أذهب، اذن، الى مدينة جبلة القريبة. سأصل اليها قبل أن ينتهي الاحتفال هنا. وفي جبلة، سأحظى دون شكٍّ بمن يساعدني. وأقرأ القصيدة.
الى جبلة، مَشياً. عبر الحقول، وكان معظمها حديث الحراثة، لهذا كان المطر والوحل حليفين ضدّ قدمي، وضد سُرعة الوصول، خوفاً من أن يفوتني الوقت.
وصلت. ولم أكن أقطر عرقاً، بل مطراً. أين أذهب. من أرى؟ لا أعرف أحداً.
طردوني. بكيت. ماذا أفعل؟ هل أعود الى القرية؟ كلا. سأتابع، وأحاول تحقيق ما صَمّمت عليه. أذهب، اذن، الى مدينة جبلة القريبة. سأصل اليها قبل أن ينتهي الاحتفال هنا. وفي جبلة، سأحظى دون شكٍّ بمن يساعدني. وأقرأ القصيدة.
الى جبلة، مَشياً. عبر الحقول، وكان معظمها حديث الحراثة، لهذا كان المطر والوحل حليفين ضدّ قدمي، وضد سُرعة الوصول، خوفاً من أن يفوتني الوقت.
وصلت. ولم أكن أقطر عرقاً، بل مطراً. أين أذهب. من أرى؟ لا أعرف أحداً.
&
*&نشر هذا الحوار باللغة الانكليزية في مجلة "بانيبال" المختصة بترجمة الأدب العربي الحديث. والصيغة المنشورة أعلاه مستمدة من عشرات الاسئلة التي أجاب عليها الشاعر . وننشره هنا بالاتفاق مع "بانيبال".
التعليقات