&
برلمانيات اوروبيات
باريس- ايلاف- من كاظم جهاد: مع انتهاْء القرن العشرين ودخولنا مشارف الألف الثالث، تقدٌمت الكثير من المجلات والدوريات الغربية بجردة لمكتسبات القرن
الفائت ومراجعة لأهم الأحداث والانجازات التي حققتها الانسانية في هذا القرن المتناقض والموسوم بالغرابة في أكثر من جانب. قرن وطأ فيه الانسان تربة القمر وحقق اكتشافات علمية ومعرفية عديدة، ولكنه شهد أيضاًًًًً حربين عالميتين وما لا يحصى من الحروب الاقليمية. باختصار عن العدد الخاص الذي كرسته ٍّ"لوموند دي ديبا" ("عالم المناظرات") التابعة لصحيفة "لوموند" للقرن العشرين، والذي حرره عدد من أكبر المختصين في مختلف العلوم الدقيقة والانسانية، نقدم في الحلقات الخمس التالية مراجعة لبعض الظواهر والانجازات التي طبعت بميسمها العميق القرن الآفل. هنا الحلقة الاولى:
&
كينونة المرأة نضال دائم
قد يستغرب القارىء العربي من ادراج النضال من أجل انعتاق المرأة في صدارة الأحداث اللافتة في القرن العشرين. وقد يزول هذا الاستغراب اذا ما عرف القاريء أن التحرر الذي حظيت به المرأة في الغرب، والذي ما برحت الكثير من النساْء يعتبرنه نسبياً، قد تطلب نضالا طويل، وأن نظرة الانسان الغربي للمرأة في الثلاثينيات من هذا القرن كانت ما تزال موسومة بقدر كبير من التعالي والاقلال من شأن الجنس اللطيف.
في مقالة طويلة حملت عنوان "كينونة المرأة نضال دائم"، كتبت الباحثة الفرنسية ميشيل بيرو استعراضا& تحليليا لأهم أطوار نضال المرأة في الغرب وللخلفيات المعرفية التي تقف وراء كل من هذه الأطوار. ولم يكن ثمرة صدفة أن تضع الباحثة في صدارة بحثها عبارة سيمون دو بوفوار الشهيرة في كتابها "الجنس الآخر" : "لا تولد المرأة امرأة بل تصبح كذلك". ففي الواقع، ظل الصراع بين النظرة البيولوجية والاعتبار التاريخي يوجه الجدال حول منزلة المرأة من أقصاه الى أقصاه. فصحيح أن المرأة تولد امرأة من حيث التكوين الجسماني. الا أن التربية ووزن التعامل التاريخي هما اللذان خلعا على المرأة كينونة خاصة بقيت حتى عهد قريب متسمة بالخمول والضعف. وهذا هو ما جاء الفكر النسوي الحديث ومجمل التفكير المتعاطف والمرأة لزحزحته والغائه. بدأ هذا السعي لدى فلاسفة وأطباء من أواخر التاسع عشر. ثم جاء جورج شيمل وأوتو فايننغر وبعدهما سيغموند فرويد في الثلاثينيات من القرن العشرين ليتحدثوا عن "صيرورة نسوية" لا "ولادة نسوية". وأكد فايننغر على امكان ارتقاء المرأة الى أنماط من التفكير والعمل مرصودة للرجال تاريخيا. ثم جاء المحلل الفرنسي جاك لاكان لينفي وجود الأنثى بالمعنى المتعارف عليه والمشوب بالتبعية والضعف وأطلق عبارته الشهيرة: "ليست المرأة موجودة". وعلى أساس هذا الميراث قامت في السبعينيات من القرن العشرين في فرنسا حركة نسوية حملت اسم "التحليل النفسي والسياسة" تزعمتها الكاتبة هيلين سيكسو والمحللة النفسية أنطوانيت فوكيت، تنفي الانحطاط التاريخي للمرأة وتِؤكد بالمقابل على وجود خصوصية ثقافية وأدبية نسوية مبعثها الاختلاف الجسدي بين الجنسين.
&
"بفضل طبيعتنا المختلفة كنساِء، سنقوم بأشياء مختلفة"
هكذا نلاحظ أن النظرة تزحزحت من القول بتفوق الرجل الى القول بشمولية النوع البشري وتساوي كفاْْءات الجنسين. ثم صير الى التراجع عن الشمولية للقول باختلاف أساسي تحتفظ فيه المرأة بخصوصيتها من دون أن يكون هذا اختلافا تفاضليا يسمح بغلبة جنس على آخر. سمي التيار الأخير بالجوهراني والتيار السابق بالشمولي. وبرز مؤخرا في الولايات المتحدة تيار ثالث متأثر بفلسفة الفرنسي جزائري الأصل جاك دريدا يتجاوز الشمولية التعميمية والثنائية الضيقة الى القول باختلاف كل كائن.
ولقد استعاد الجدال حدته في فرنسا مؤخرا مع المطالبة للمرأة بدور سياسي وقيادي مكافيء لدور الرجل. هتفت بعض النساء : "بفضل طبيعتنا المختلفة كنساِء، سنقوم بأشياء مختلفة". وهتفت أخريات: "بفضل معيشنا المختلف وثقافتنا المختلفة، سنأتي بنظرة أخرى". وتؤكد الباحثة أن الحاجز العتيق المفروض في السياسة بين الرجل والمرأة ربما كان بالفعل في سبيله الى التقوض. أما اذا كانت السياسة وممارستها ستتغيران بفعل التدخل الواسع للمرأة، فهذا مما لا يمكن البت فيه الآن.
هذا الزوج المفهومي "رجل/امرأة" أو "مذكر/أنثى" يتقاطع بطبيعة الحال مع زوج مفهومي آخر اخترق هو أيضا جدالات القرن العشرين. وهو يدور حول التمييز بين العمومي والخصوصي، الخارج والداخل، المعلن والحميمي. فبحسب التقسيم القديم للمهام والأعباء، يختص الرجال بالمجال العام (الأعمال والسياسة) والنساء بالمنزل والأسرة. ومع بدايات النضال النسوي، أدانت النساء هذا التصور السلطوي الذي ينفرد فيه الرجل أو الأب بدور& رب الأسرة وتضطلع المرأة بالمهام الصعبة والمعتبرة مهينة.
&
نضالات ضد "المهن النسوية"
ونظرا لارتباط مجالات الواقع الوثيق بعضها بالبعض الآخر، انطبع المجال التربوي والنفاذ الى العلم والمعرفة العصرية عموما بهذا التقسيم العتيق. فالفتاة تربى لتضطلع بوظائف الأم ومنظفة المنزل. ولا تنال من التعليم الا القسط الأدنى الضروري. لا معرفة اللاتينية ولا العلوم الانسانية ولا الرياضيات كانت معتبرة ضرورية للمرأة. ولم تشمل شهادة البكالوريا كلا الجنسين الا في 1924. وقد لا يعرف الكثيرون منا اليوم أن المناضلات النسويات خضن في بدايات القرن العشرين معارك سياسية حامية لفرض التعليم المختلط، أي للجنسين، في المدارس.
وعلى النحو ذاته، وبالقدر نفسه من الشراسة، ناضلت النساء ضد فكرة "المهن النسوية" التي تخص النساء بمهن دون سواهن (التمريض، الخياطة، الخدمات المنزلية، الخ.). وكما ناضلت النساء ضد محدودية المهن المتاحة لهن، ناضلن ضد قوانين كانت تعتبر المرأة كائنا أضعف وتطالب لها بحماية أكبر (أوقات عمل أكثر مرونة، احالة على التقاعد أسرع، الخ.). هكذا طالبت النساء بالمساواة في الوظائف مثلما في المسؤوليات والأعباء.
&
النساء يتحملن ثلاثة أرباع المسؤوليات العملية داخل البيت
ولا يعجبن المرء اذا ما عرف أن هذا النضال خيض حتى داخل النقابات، ضد القادة النقابيين أنفسهم. فالكثير من هؤلاء كانوا يعتبرون مطالب الحركات النسوية برجوازية، والكثير من القائدات النسويات كن يرين في المسؤولين النقابيين أفرادا متشبعين بالايديولوجية الذكورية.
يرى البعض اليوم أن المرأة قد ربحت المعركة في الغرب، لا بدخولها في أوساط العمل فحسب، بل حتى في فرض قيم أنثوية في الادارة والأعمال. هكذا راح عالم الاجتماع الأمريكي مايكل فيسولي يتحدث عما يدعوه "تأنيث العالم الغربي" حيث بدأ التنافس الوحشي بين الأفراد يتضاءل، فيما يسود انتباه أكثر للأسرة وعودة الى التماسك العائلي لم تكن متوقعة في السنوات القليلة الفائتة. لم يعد عالم الأعمال يستند في رأيه الى هيمنة من نمط عسكري ولا الى روح المباراة الرياضية. لكن الكثير من النساء يرين في هذا نوعا من التفاؤل الخداع. تم في نظرهن اعادة النظر في المجالين التعليمي والعملي لا تغييرهما جذريا. فما زلنا نجد مجالات مرصودة لأغلبية ذكورية (الرياضيات والفيزياء مثلا) وأخرى مرصودة للأغلبية أنثوية (العلوم الانسانية وعلوم الحياة). وما& برحت النساء يتحملن ثلاثة أرباع المسؤوليات العملية داخل البيت).
&
انقسام حول ختان المرأة
تظل مطروحة طبعا مسألة معاملة المرأة في الجاليات الأجنبية المهاجرة الى أقطار غربية. فالكثير من الأسر المهاجرة تعمل غالبا بقيمها الخاصة وتقاليدها المحلية. ولقد انقسم الباحثون والمفكرون أمام ختان الفتاة الذي تبين أن بعض الأسر الأفريقية تمارسه في أوربا. بعض الباحثين قالوا ان هذا يشكل جزء من تقاليدها المتوارثة. والحركات النسوية استنكرته باعتباره يمثل تشويها للمرأة.
حققت النساء في القرن العشرين ولاشك مطالب كثيرة. لكن يخامر الباحثة وسواها الشعور بأن النضال ما يزال صعبا ويتطلب المزيد من الزمن لأنه يستهدف بالأساس موروث الانسانية الفكري القائم في غالبيته العظمى على قيم ذكورية وعلى أساس اعطاء الأولوية للرجال في مجالات الفكر العالي والابتكار الرفيع والعمل الشاق.
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& عرض كاظم جهاد