الرجل الذى شغلتنا صورته لسنوات طويلة وساحات الصدام تتقاذفه وكل الأصابع مصوبة نحو وجهة المنحوت كنقش على أعمدة الكرنك، ذلك الرجل يقف الآن قبالة نفس العدسات التى أرهقته طويلا بوميض فلاشاتها المتطفل، الفرعون النبيل يستقبل فى صبر الفلاحين أسئلة الجائزة التى رأيناها بألف عين وألف لون ؛عيون رأتها إكليلا وعيون رأتها سجيلا، عيون رأتها تكريما وعيون رأتها تأثيما، تتفاوت حدة الإبصار ومستوى الرؤية بحسب زاوية الجلوس. الرجل الذى تحمل قسماته كل عناويين المرحلة وإلتباساتها يحدق فى نفس الوجوه التى طالما طاردتة وهى تمارس التفتيش تحت جلده بحثا عن زلة لسان أو عثرة حوار تشى بتحيز ثقافى أو تعاطف شوفينى كثيرا ماأرهق الغرب والشرق نفسه بالبحث عنه فى أسلاك تيلفونه أو مفكرة ملاحاظاته اليومية،أو تلك الدوائر التى كثيرا ماأجهدت نفسها فى تفسير مصافحة أو عناق بروتوكولى لمحمد خاتمى أو ضحكات مجاملة مع سيلفان شالوم، أو همس باسم فى أذن كولين باول. الجميع الأن فى حالة تساؤل : كيف يمر رجل كهذا لايحمل حتى هذه اللحظة أداة تعريف أو باسوورد بكل هذه السلاسة على جسر مراوغ من الأضداد والمتنافرات ولافا البراكين، كيف يمر ويقبض على التفاحة الوحيدة الباقية على الشجرة المتمنعة.

محمد البرادعى كان قد ترك ملامحه وقناعاته وقلنسوته الفرعونية وبطاقة هويته الشرقية هناك على شاطىء النيل القاهرى بحى الدقى وهو يخوض فى مستنقعات الخوف الذرى حاملا إنتماءا جديدا وحيدا هو:( بدون ) هذا البدون يستجمع الأن خجله وإصرارة وقدرته، يستجمع حياد القاضى وحذر الدبلوماسى وخبرة القانونى ومكر الفلاحين ومرواغة الساسة وهو يقف أمام نفس الوجوه ويحاول أن يفرح قليلا وويبعثر بعضا من حلوى نوبل على رفاق إتكأ عليهم طويلا، يحاول أن يبدو حكيما وهو يسوق نوبل الملغومة بالتفسيرات على أنها تجديد للثقة فيترجم الرسالة على نحو صحيح أمام الميكروفون : keep doing what you are doing. تماما كأقاربه المبعثرين على حواف الحقول والمراوى النيلية يخشى من الإفراط فى الفرح ويترجم الأشياء بمعانيها الصحيحة ويراها من الزوايا التى لاتحتمل خداع البصر أو سراب الظهيرة فى الفيافى العربية الحبلى على الدوام بالسراب والعيون الكليلة.

البرجماتى.. البدون القادم بلا تحيزات إلا لمهمته، بلا قناعات إلا تلك التى وردت فى مرسوم إنشاء وكالته الأممية، الفرعون المحتفظ بجبروته فى إصراره، وبخجله فى فرحه، وبمكره فى نزاله، وبمصريته فى مكان سحيق بين رئتيه، يبدو الأن كما قال سارتر : " يناضل ويناضل ليعبر عن نفسه فى الظلمة وعباراته ليست لوحات لروحه، بل هى أفعال تقول أكثر مما ينبغى وأقل مما ينبغى " البرجماتى المشع لم يضبط مرة واحدة منتميا الى عشيرة أو منسوبا الى جغرافيا، فكان على الدوام ذلك الجلوبى الأممى الناطق بإسم مراسيم المعبد، المدافع عن وصاياه. الجلوبى العابر على نصل التبايانات الثقافية والمصالح الجيوبوليتكية لم يضبط مرة واحدة يتبع هوى قبلى أو قطبى، لم يضبط مرة واحدة متقاطعا مع قسمه ومهمته، لم يضبط مرة واحدة ممسكا بمانيفست العشيرة حتى وإن راهن الجميع على ضعفه الشرقى وتحيزاته الثقافية التى تجرى مع البلازما وكرات الدم الحمراء كما زعموا.

البرجماتى المشع لم يضبط مرة واحدة منتميا، يمضى حاملا بادئته ( محمد ) ليحولها الى بادئة كونيه تتجاوز الإحالات الدينية والعرقية،تتجاوز التصنيف والإنتقاء والأدلجة "محمد البرادعى" حتى لو تقاطعت المحمدات والإحالات، يكون الخصم محمد خاتمى أو احمدى نجاد أو إيل سونج، لاتنفع الإحالة ولايستقيم الغمز والهمس فى غرف المخابرات، يكون الإستدعاء محمد عطا وحزام مانهاتن الناسف وسيف الرقاب الرخيصة فى أصقاع الخرافة والكراهية، لايفت ذلك من عزم الجلوبى النيلى المنحوت من بازلت الأهرمات ولايجدى معه تسويقة كتوابل شرقية تحمل نفس الطعم والرائحة والشكل وهو القادم برسالة السلام والأمن للجميع. لايمكن إذن قسمته على أحد أو ضربه فى أحد أو طرحه من أحد أو جمعه فى سلة واحدة مع أشباه، هو الأن رجل الجميع لايطاله رهان عقائدى ولايعجزه نسب قبلى، يستعصى على التسليع والعنونة can not be labelled.

البرجماتى البدون لم يكن ليعلو صوته على إسرائيل قبل أيام من نوبل مطالبا إياها بالشفافية والإنضمام الى شرق أوسط مختلف خال من التهديد، إلا تأكيدا لولاءات لاتهتز لمنظمته وقناعاتها، وإسرائيل التى لم يعرف عنها من قبل تفويت الفرص ولو بتلميح إعلامى عن السامية وغربتها، سكتت هذه المرة على الرجل الذى لم تستطع أن تعثر له على ملامح أو دفتر أحوال أو منطقة مميتة يوجه إليها أقرب سهم. خرج المعلقون المؤدلجون بإشارات مفادها أن نوبل لن تحط على فيينا هذا العام، لما لا ونحن جميعا تربينا فى مدرسة أمنا الغولة فمنحنا إسرائيل طواعية جلد ديناصور وحوافر نمر وصدقنا أنفسنا وإسترحنا، المعلقون المؤدلجون نسبوا الرجل الى حالة دولية ولم ينسبوه الى دور يعتنقه ويتنفسه، نسى بعضهم مواقفه المتقاطعة فى كثير من المواضع مع الولايات المتحدة وهى التى كانت حتى اللحظة الأخيرة تراهن على رحيله، نسى الجميع جلسة الأمم المتحدة الشهيرة وكولين باول يعرض للجميع براهينة الجرافيك على مشروع العراق النووى وهو يتمنى كلمة واحدة من البرادعى يقول فيها إن رجاله لمحوا لعبة أطفال فى يد طفل عراقى يصدر منها إشعاع، البرادعى القاضى القانونى قال : لم نعثر على شىء. قد يكون إذن للحرب على العراق مليون مبرر نقتنع بها جميعا ونتحيز لها، لكنه ليس من بينها وجود برنامج نووى عراقى وقت التفتيش.

من حق البرادعى أن يسمع بعض الإطراء وهو الأمين على مبادىء ضميره قبل مبادىء وكالته، من حقه أن يسمع ذلك الآن متجاوزا الغمز واللمز من منشدى العشيرة ومحللى الثوابت والمنطلقات والمصير والهدف وأنا وأخى وإبن عمى والغريب على الشيطان والأخر، من حقه أن يسمع بعض الإطراء متجاوزا أجهزة التصنت والمراقبة على تيلفونه ومعجون حلاقته وعدسة نظارته، متجاوزا التفتيش فى ملامحه المتهمة وبادئته المعبرة، متجاوزا تخريجات مخبرى الفضائيات وباشكتبة الأعمدة فيما قد تعنيه الجائزة وحجم الريبة فيها. فيما قد تعنيه مصافحة رئيس إيران أو رئيس وزراء إسرائيل، من حقه أن يسمع بعض التصفيق من الأروقة التى أرهقته طويلا بتربصها ونصب الفخاخ وأجهزة قياس النزاهة وكشف الكذب له، من حقة أن يفرح بحذر كما المصريين حين يرددون مع كل فرحة فى ليالى القمر والشاى والعيش والملح : خير اللهم إجعله خير.. إستر يارب.

محمد البرادعى البراجماتى، البدون - حتى إشعار آخر -، القانونى، القاضى، الدبلوماسى، الفلاح،غير المتلون، المشع المضىء : أنت مازلت تمشى على نصل التباينات والمصالح المتقاطعة وتربص الكبار وشك العشيرة، أنت مازلت تقف بين النار وبين النار، أكمل عبورك، هنالك فى أخر الممر توجد قاعدة حجرية أخيرة شاغرة لتمثال من صخر الأقصر ؛ قف عليها وإسترح كى تنضو عن جسدك ثوب ( البدون ) و تستعيد ملامحك وبطاقة هويتك وأنت تعتمر تاج أجدادك الصوان....

كاتب من مصر [email protected]