منذ عشرات السنين ونحن نرفع شعارات محاربة إسرائيل كوجود وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر ونرفع صوتنا بلا شرعية ولا قانونية الاحتلال، كل الاحتلال. وأصبح نهجنا وفكرنا نتيجة طبيعية لشعارات لم نهن من حملها، وتشكلت مقاومتنا كما يريدها فكرنا، ولكن الاحتلال ظل قائماً، وبات الكيان الإسرائيلي موجوداً في الحقيقة. إن عقيدتنا وتاريخنا –بنظرنا- يعني ألا يكون وجود لدولة اسمها إسرائيل على هذه البقعة من أرضنا، بل على كل أرضنا، ووفقاً لهذه المعطيات (القديمة) التي نملك تصرفنا –مع الأسف- ولا زلنا نتصرف وفقاً لهذه المعطيات (معطياتنا نحن فقط)، فما تزال بعض خطاباتنا للعالم وكأنها حديث مراهق تملأه الحماسة يغني بلغته ويعزف نوتة كتبه المقدسة، فلا أحد يفهم تلك اللغة، ولا انتشى جمهور –ولو كان صغيراً- بعزفه الناشز. نريد لدولة –بمؤسساتها وشعبها وحكومتها وجيشها- أن تمحى من على وجه البسيطة، أو أن تغرب بعيداً عن وجوهنا، اعتماداً على تنبؤات دينية ونسلك لذلك كل السبل -الممكنة وغير الممكنة- بل ولكل منا أن يسلك سبيله حتى وإن لم يتفق وأخاه، لا نرى ضرورة لتنسيق جهودنا فكلٌ يغني على ليلاه، وإن كانت أغانينا تقتلنا وتضعفنا، فنحن نغني، ولا زلنا نسأل الله النصر!
لا أعترف بشرعية تلك الدولة، لكنها دولة وجاثمة على صدورنا، وكل يومٍ نسلك فيه سبلنا القديمة ونستمر في نهجنا العابث تمتد هذه الدولة وتتسرطن فينا أكثر، متى نتغير إذن يا ربنا الذي نسأل النصر؟
نطلب السلام وننشد العدل ثم نستخدم في خطابنا ما لا يعقل الحديث عنه، نحن نهاجم إسرائيل ونتهمها بأنها تسعى لإزالة الهوية الفلسطينية ومحو التاريخ الخاص بنا وتحطيم الإنسان الفلسطيني وتهويد البر والبحر والجو واستبدال الوجود الفلسطيني كاملاً بالإسرائيلي عبر سياسات التهجير والإبعاد والإذلال والحصار الاقتصادي وما إلى ذلك، فلماذا نطلب منها ألا تفعل ونحن نصرح كل يوم بضرورة شقها وتمزيقها من الداخل وإبادتها إلى الأبد ونبوح بأمانينا تلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
إذا كان المشروع الصهيوني يلغي الوجود الفلسطيني من أساسه –أو يسعى لذلك- فما هو بالمقابل المشروع الفلسطيني؟ هل هو مشروع ديني؟ قومي؟ وطني؟ إنساني؟ هل يعترف بإسرائيل ويريدها جارة، أم ينظر لذلك باستحالة؟
إذا كنا نعيب على إسرائيل أنها دولة دينية، تبني خططها على شريعة لا يمكن أن نؤمن بصلاحيتها لقيادة حياتنا الدنيوية، وتهندس مشروعها وفق نبوءات دين لا نتبعه ولن، فكيف نمارس –بالمقابل- سياسة مماثلة، ونستخدم نفس سلاحها العنصري؟ ونحن غير متوحدين حتى في استخدام هذا السلاح؟ كيف نخاطب الآخر بآيات ونصوص لا يؤمن بها؟ نرفض سطوة دينه –أو سطوة رؤيته الخاصة لدينه وتفسيره لنصوصه- على مقدراتنا وأرضنا وعقولنا، ولكننا –في ذات الوقت- يجاهر البعض بخطاب متشدد (يزعمون استمداده من الدين) يريد قمع هذا الآخر؟
أوليس كافياً حقنا الإنساني في هذه الأرض كي نلجأ للخطاب الديني؟ أليست الأرض –جميعاً- لله وأعطاها للإنسان؟ لماذا تكون بعدها ملكاً لفلان، يهبها وقفاً لله من جديد. وإذا كانت وقفاً لله، فلماذا تكون لهذا الشعب أو ذاك؟ ولماذا يطرد الرجل من منزله ليسكنه آخر؟ وتقلع المرأة من طين بيتها ليحل آخرون؟ ويقتل الطفل وتموت المئات، كي يستبدل شعب مكان شعب؟ وهل علينا أن نفعل ذلك، ونعيد التجربة كي نستعيد حقنا؟ وهل نستطيع؟ ولماذا نختار ذلك؟ أليس ثمة بديل؟ نعم هو الجنوح للسلم إن جنحوا أو المقاومة حتى يجنحوا ومن ثم استرداد حقنا والعيش بسلام في أرض الله التي تسع الجميع.
ليتنا نعرف ماذا نريد، ونتفق على سبيل –ولو واحداً- للمقاومة، حتى لا يدفع البعض ضريبة باهظة وينام الآخرون هانئون.