بعد أن ضاق ذرعاً بضيق أفق المتطرفين من أعضاء حزبه، ومن العراقيل التي يلقون بها في طريق تنفيذ مخططاته الإستراتيجية بعيدة المدى لمصلحة دولة إسرائيل، وتحسباً لما يخبئه له زملاؤه الأعضاء في حزب الليكود من طعنات بعد أن يتقاسموا معه لذة الفوز الساحق في انتخابات الكنيست القادمة،
وتفادياً للمستجدات الحزبية في الساحة السياسية الإسرائيلية لاسيما بعد انتخاب "عمير بيرتس" لرئاسة حزب العمل، وما سيعقب ذلك من متغيرات سياسية ستصيب عصب المجتمع الإسرائيلي، بعد كل ما سبق، وبعد حيرة وتردد بعيد المدى أعلن أرئيل شارون التخلي عن حزب الليكود الذي أوصله إلى رئاسة الوزراء، وجعله ملك إسرائيل المتوج، وأعلن عن تشكيل حزبه الجديد الخاص به، حزب المسئولية الوطنية، أو حزب الواجب الوطني، القادر من وجهة نظره على منافسة الاتجاهين السياسيين الواضحين في إسرائيل، حزب العمل من اليسار، وحزب الليكود من اليمين، بل والسعي للفوز في انتخابات الكنيست القادمة بعدد المقاعد الذي سيؤهله لرئاسة الوزراء مرة ثالثة.
كان شارون محقاً في حيرته بين الاستقالة من الليكود وبين البقاء، فالأمر ليس هيناً، لأن الثقة بالنفس، وبما تحقق على يده للإسرائيليين لا تكفي للفوز، لاسيما أن مزاج المجتمع الإسرائيلي لا يسهل تداركه، فقد ينقلب عليه بنو جلدته اليهود، ويتغيروا من الولاء إلى نفض اليد، فهم ـ أكثر من أي مجتمع ـ يتطلعون دائماً إلى مصالحهم، ويلهثون خلفها، ودائماً مصلحة إسرائيل هي العليا، وهي فوق مصلحة الأفراد و الزعماء، ومصلحة إسرائيل متناغمة تماماً مع مصالح الأقوياء، والقوى على الأرض هي أمريكا، لذلك فإن المنطق السياسي السوي ألا يتجاهل أي سياسي إسرائيلي الإرادة الأمريكية، وإدارتها للصراع، ورغبتها في ضبط المسار السياسي الخاص بإسرائيل مع المسار السياسي العام في المنطقة، وتنغيم حركة المد والجزر بين الطرفين، بحيث تصب في صالح الهدف المشترك؛ فعلي إسرائيل أن تحجم إذا تورطت أمريكا، وغاصت حتى الركب في وحل الشرق، ومن حق إسرائيل أن تهجم إذا تدافعت جيوش أمريكا إلى الأمام، بأمن واطمئنان.
لقد حصل ذلك أثناء الإعداد الأمريكي لغزو العراق وأفغانستان، حيث راحت إسرائيل تعد ما يتناسب والمرحلة من قادة؛ فقدمت إسرائيل لرئاسة وزرائها أقسى ما لديها من قادة متطرفين مجرمين مجربين في الشدائد والفتك، قيادة تتناسب مع الجو العام السائد في المنطقة ولما يرتب لها، فصعد لرئاسة الوزراء حزب الليكود وعلى رأسه أرئيل شارون في نفس الفترة التي صعد فيها جورج بوش مع مشروعة لغزة العراق، ولكن مع فشل المخطط الأمريكي الواضح في العراق، وبعد تصاعد قوى وطنية وإسلامية تحمل لواء المقاومة، وبات الخطر يتهدد الأساس التي بنيت عليه مصالح أمريكا الاستراتيجية، فإن الضرورة السياسية تقضي في مثل هذه الحالة أن تتغير القيادة السياسية في إسرائيل بما يتلاءم والمستجدات، ولاسيما أن الخطر الذي يتهدد إسرائيل ليس خطراً مألوفاً، ولا هو ضمن المعادلة التي سار وفقها الصراع مع منظمة التحرير، والدول العربية عشرات السنين، وإنما تكشف عن صراع من نوع جديد، صراع تحدده، وتتحكم في مساره المعتقدات الدينية، من هنا كان لا بد من تدخل أمريكي سريع معالج لحالة الاحتقان السائدة في فلسطين، والحد من توسعها، من خلال عدم السماح بتفجر الوضع ثانية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، للحيلولة دون مزيد من التعقيد والتقليد الذي بدأت تشهده الساحة العربية، وراح يسيطر على أرض العراق، وهو ما يفسر الأسباب التي عجلت بالتدخل الأمريكي لحل قضية معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة بعد تأفف أمريكي عن التدخل في قضايا أهم، وترفعٌ لزمن طويل.

أن ما يتكشف من خطط سياسية، ومبادرات حلول، ينبئ بأن المرحلة القادمة لم تعد في يد شارون، ولم تعد تتساوق مع الخط اليميني المتشدد الذي ينتهجه "عوزي لنداو" و " يتسحاق هنجبي" و " بنيامين نتانياهو" وأمثالهم من جهابذة الليكود، فقد عبرت تلك المرحلة التي أطلقت فيها يد إسرائيل لترتيب المنطقة وفق مصالحها الإستراتيجية، وأتت بخيرها القليل، وشرها الوفير، وأكبر شر كما عبر عنه "عمير بيرتس" في خطاب له بتاريخ 20/11/200 مفسراً سياسة حزب العمل في المرحلة القادمة، قال: "أن أكبر شر تواجهه إسرائيل في المرحلة القادمة هو " التطرف الإسلامي"، وتصاعد القوى الدينية في المنطقة، وهو ما لا ترضى عنه إسرائيل، ولا يمكن السكوت عليه، وهو ما يتوجب محاربته من خلال الدعم المتواصل لأنظمة الحكم المعتدلة في الدول العربية.
لم يكن إدراك عمير بيرس لحقيقة تصاعد القوى الدينية في كل المنطقة وليس في الأراضي الفلسطينية اكتشافاً، ولم يكن اعترافاًً مغايراً للحقيقة التي نجح شارون في تفجيرها وتكاثرها كاستجابة غريزية لمواجهة خطر الإبادة، والقتل والذبح، فالقوى الدينية المتصاعدة في العالم العربي وجدت فرصتها الذهبية للنمو مع الإرهاب الإسرائيلي، ونجحت بالتمدد مع فعل المقاومة الفلسطينية التي نجحت في إيجاد الرد الذي أشفى صدور الناس، كل الناس، وسهل للفكر الديني التغلغل داخل فلسطين، والانتشار خارج حدود فلسطين، بحيث بات هذا التطور مقلقاً أكثر مما حسبت إسرائيل، وأخطر مما قدرت الولايات المتحدة الأمريكية
لقد أمسى ترابط المصالح الإسرائيلية الأمريكية بائناً، وتوافقها، وتكاملها شاهداً على مستجد السياسية، بل صار هوى السياسية الداخلية لكلا البلدين يتأثر بالآخر، وهناك أكثر من مؤشر على ذلك، ليس أخرها فرح وزيرة الخارجية الأمريكية كندوليزا رايس في تحقيق اتفاق تشغيل معبر رفح الحدودي، واعتزازها بالجهد الذي بذلته في سبيل ذلك، ـ اعترفت أنها لم تنم تلك الليلة أكثر من ساعتين ـ إن هذا النشاط الأمريكي في إيجاد شكل من الاتفاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليس إلا مؤشراً على رغبة أمريكية في إعادة ترتيب الأمور بشكل مغاير لمرحلة القوة والضرب بالعصا، لقد عبرت تلك المرحلة، وانتهت، لتجيء اليوم مرحلة الجزرة، فقد ذهب الزمن الذي كان يتهدد فيه " كولن باول" وزير الخارجية الأمريكية الأسبق الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالتصفية والطرد، وإطلاق يد الإسرائيليين، لقد عبر ذاك الزمن، وأحدث تفاعلات فكرية وسياسية في الساحة العربية لم تكن في حساب الإدارة الأمريكية، ولا في مخططات إسرائيل، وعلى رأس تلك المتغيرات المقاومة العراقية المتصاعدة والموجعة.
إن كل متابع للإحداث السياسية يدرك هذه الحقيقة التي تتفاعل في الميدان؛ فكلما اشتدت المقاومة، وتأججت نار الحقد على أمريكا وإسرائيل، خف الضغط على حكام العرب، وتراجعت المطالب الظالمة المهينة بحقهم إلى الخلف، بل وشعروا بدلالهم، وإن تراخت قبضة المقاومة، ولاح في الأفق ما يطمئن أمريكا على الهدوء، زاد الضغط على حكام الدول العربية، إلى حد مطالبة بعضهم الإسهام في تمرير بعض القرارات الدولية المناوئة لمصلحة الشعوب العربية، والتي تسهل، وتبرر جز رقاب شبابها بسهولة.

أرئيل شارون يدرك متغيرات السياسة، ويدرك أن المرحلة القادمة ليست مرحلة تواصل العنف، فهو يحاول من جانبه لبس ثوب المخلص، والظهور بمظهر الملاك الأبيض الراغب بالتعايش والباحث عن السلام، ويحاول من جهة أخرى تفويت الفرصة على خصمه اللدود حزب العمل بزعامته الجديدة، وبمقترحاته للسلام التي تتجاوز تفكير شارون، ومخططاته، لذلك فقد أعد أرئيل شارون خطته السياسية للمرحلة القادمة، وحدد المناطق التي سيتخلى عنها في خطة فصل جديدة عن الضفة الغربية ـ ولكن ليس على غرار خطة الفصل التي طبقها على غزة ـ بل وحددت الصحافة الإسرائيلية عدد المستوطنين المنوي اقتلاعهم شرق جدار الفصل العنصري، وحدد عدد المستوطنات التي سيتم إخلاؤها، وهو يرى في ذلك أهون الشرين، وأقل خسارة من خطة حزب العمل التي فهمت خطوطها الرئيسية من خطاب رئيس الحزب عمير بيرتس، والتي تذهب إلى أبعد من ذلك في عدد من القضايا الحساسة بالنسبة لإسرائيل ما عدا قضيتي القدس الموحدة عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، وقضية عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل.
إن ما يجري على الساحة الإسرائيلية من متغيرات لا تقف حدودها عند دولة إسرائيل، فكما هي انعكاس للتطور الفكري والسياسي وللتفاعلات الاجتماعية على الساحة العربية، فهي تنعكس أيضاً بالسلب والإيجاب على مستقبل العرب المعلق قرارهم السياسي على حبال الوقت، واكتفاء برد الفعل للسياسة الإسرائيلية.
بالمناسبة؛ كان تخوف الكاتب الإسرائيلي عوفر شيلح" في مقاله المنشور في صحيفة يديعوت أحرنوت منسجماً مع مستجدات السياسية الدولية عندما قال: إن الانسحاب الأمريكي من العراق قد بدأ، والثمن الذي سيدفع في أمريكا سيكون سياسيا فقط؛ ولكن الثمن في الشرق الأوسط سيكون دماً.

د. فايز صلاح أبو شمالة