ترك الجيش الإسرائيلي خلفه آلاف المكعبات الأسمنتية على أرض غزة، تشهد أمام الناس والعالم أن الجيش الإسرائيلي مثله مثل أي جيش؛ معتدٍ، غازٍ، إرهابي، مصيره الانهزام والرحيل، ولكن الجيش الإسرائيلي زاد على جيوش الغزو الأخرى بأن حرص على الاستيلاء على الأرض، وطرد أصحابها كما حصل سنة 1948، ولكن عندما عجز عن ذلك في السنوات الأخيرة، أخذ معه حياة آلاف الشهداء دون رأفة، وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد شهداء انتفاضة الأقصى وحدها عن أربعة آلاف شهيد، اختطف الإرهاب الإسرائيلي أرواحهم، وترك في عيون أمهاتهم دمعاً متحجراً، وحسرة تنزف، وناراً في القلب تضطرم.
في الأيام الأخيرة جرى خلاف في خان يونس حول ملكية بعض المكعبات التي تركها الجيش الإسرائيلي، مما تسبب في إطلاق نار بين بعض القوى العسكرية الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، التي تحاول الاستفادة من هذه المكعبات في الحماية والتدريب، وترى أن من حقها بعد فعلها المقاوم للغاصبين أن تنتفع من بعض المكعبات، وبعض المواقع العسكرية المخلاة، والاستفادة من الوضع الجديد في مزيد من الإعداد والتدريب لعناصرها المقاتلة، بينما ترى السلطة الفلسطينية أن حقها بسط نفوذها على كل شاردة وواردة على الأرض التي جلى عنها الغاصبون، ولا تسمح بتعدد السلطات، والقوى الميدانية.
يقارب عدد المكعبات التي تركها المغتصبون أربعة آلاف مكعباً، أو يزيد، وهي موزعة من الجنوب في رفح وحتى الشمال بيت لاهيا، بينما يقارب عدد شهداء انتفاضة الأقصى أربعة آلاف شهيد أو يزيد، إن هذا التقارب في الأرقام يفرض على السلطة الفلسطينية أن تفكر في كيفية الاستفادة من المكعبات التي تشهد على زوال الاحتلال بما يحفظ ذاكرة المقاومة لشعب أصر على الانتصار، وذلك من خلال توزيع المكعبات على الشهداء، وذلك بتسجيل اسم كل شهيد على مكعب، ويتم تجميع هذا المكعبات في مكان بارز على الأرض التي تحررت من المغتصبين، وترتب بشكل فني على هيئة هرم ضخم يلفت نظر الزائرين، ويشهد أن دم هؤلاء الشهداء الذين أقسموا على تحرير الوطن قد انتصر على غلاة المتطرفين اليهود الذين أقسموا ذات يومٍ على البقاء في مستوطنات غزة إلى الأبد.
هذا المقترح مقدم إلى وزارة الثقافة الفلسطينية، فهي الجهة الرسمية المخولة لتبنى هكذا مقترح، وهي الجهة التي يتوجب عليها تخليد ذاكرة الشعب، وأحسب، ويحسب معي كل قريب من الأحداث؛ أن تنفيذ هكذا مشروع لا يحتاج إلى تغطية مالية كبيرة، وقدرات إدارية خارقة، ووسائل إعلامية متقدمة، فقط يد صادقة تعمل على نقل المكعبات، وترتيبها فنياً بشكل لائق على هيئة علم فلسطين، أو حمامة سلام، في مكان بارز، وثم تسجيل أسماء الشهداء.
لا بأس علينا في التعلم من اليهود، فهم الذين ابتدعوا الذاكرة التي جمعوا أجزاءها على هواهم هم، وهم الذين أقاموا في كل عاصمة أوروبية نصبا تذكاريا، أو قبة من بقايا ضحاياهم كما يقولون، لتشهد، وتذكر ا لعالم أن اليهود قد تعرضوا إلى مذبحة، فكيف بالشعب العربي الفلسطيني الذي اقتلع من أرضة، وهُجّر من بيته، وتمت تصفية دمه، ونزع روحه من جسده، أليس جدير أن تحفظ له ذاكرته، ويخلد شهداؤه؟؟!!

د. فايز صلاح أبو شمالة