أشار تقرير دعمته الأمم المتحدة وصدر مؤخرا إلى أن عدد المهاجرين في العالم، قد تزايد منذ عام 1970، حيث كان يبلغ 82 مليون إنسان، إلى 200 مليون حاليا، ورغم أن هذا الرقم يعادل فقط 3 % من سكان العالم، إلا أننا إذا أضفنا إليهم من يعبرون الحدود بين الدول، دون ترخيص، كذلك عدد الأقليات التي استقرت منذ ما قبل ذلك، وأخذت جنسيات الدول، لتبين لنا حجم التداخل البشري بين الشعوب والقوميات، الذي يعتبر بتقديرنا أهم سمة للعصر الحديث، عصر ما بعد الحرب الباردة.
ولظاهرة المهاجرين بعد اقتصادي في غاية الأهمية، حيث يشير التقرير إلى أن هؤلاء يحولون ما مجموعه ( 150 ) مليار دولار سنويا لأوطانهم، إضافة إلى ( 300 ) مليار بطرق غير رسمية، والرقم الأول يعادل ثلاثة أضعاف المساعدات الخارجية التي تحصل عليها الدول النامية.
ويضيف التقرير أن 60 % من المهاجرين يعيشون في الدول المتقدمة وينتمون إلى 70 دولة، ومنهم ما مجموعه 35 مليون أي 20 % في الولايات المتحدة. وبعضهم بات يشكل ثلثي سكان بعض الدول مثل أندورا، الإمارات العربية وقطر.
وإذا أضفنا إلى ما نجم عن المتغير السياسي الكوني، ثورة الاتصالات وتبادل المعلومات، الناجمة عن الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت العالمية، لتبين لنا مدى ما يدخل إليه المجتمع البشري من عملية تداخل اجتماعي / اقتصادي / ثقافي بعيدة العمق، بما يغير من طبيعة وشكل العلاقة بين أفراد وجماعات المجتمع الكوني، لم يحدث لها مثيل من قبل.
وإذا كانت عملية الاتصال والتواصل بين الشعوب والأمم، لم تتوقف يوما عبر التاريخ، من خلال التبادل التجاري والحركة السياحية، كذلك تبادل الثقافات والتعليم والتمثيل الدبلوماسي وما إلى ذلك، فإننا بتنا في العصر الحديث، في حالة تجاوز حاسمة لكل الحواجز والحدود الفاصلة التي كانت تفصل بين الشعوب والأمم التي تأطرت في إطار ما عرف بالدولة القومية الحديثة، التي استندت إلى تشكيلة اقتصادية / اجتماعية مستقلة، كان يحتكم أفرادها إلى عقدهم الاجتماعي الخاص بهم، يديرون شؤونهم من خلال نظامهم السياسي الخاص عبر الدولة القومية.
وحيث أن العالم، بعد التنافس بين البرجوازيات الحديثة، ثم ما بين العالمين الرأسمالي والاشتراكي، وما بينهما من عوالم ثالثية، قد انتهى إلى تجاوز الاقتصاد للحدود القومية، أو تجاوز الاقتصاد لقوميته أو لحدوده القومية، بعد تشكل الشركات متعددة الجنسيات، والتي بتقديرنا تجيء الدعوة إلى إقامة النظام العالمي الجديد، لتقول بإقامة الدولة الكونية، أي الدولة التي تحفظ امتيازات هذه الشركات متعددة الجنسيات، والتي تتحكم منذ وقت بأكثر من ثلث الاقتصاد العالمي، فان العالم يسير باتجاه وحدة كونية، لن تقتصر على المستوى الفوقي، أي إقامة النظام العالمي، على مستوى الدولة التي تحفظ مصالح هذه الشركات وحسب، بل سيأخذ مداه على المستوى المجتمعي، ولعل في ظهور المنظمات الأهلية : أطباء بلا حدود، صحفيون بلا حدود، كتاب بلا حدود … وما شابه ما يدل على ما نذهب إليه.
وبتقديرنا أن انشغال العالم الآن بوحدته السياسية، التي تبدأ من خلال إقامة نظام أمنى موحد ( عبر محاربة الإرهاب ) والتدخل في شؤون الدول والمجتمعات الداخلية، يذهب إلى مزيد من " وحدة الحال "، وفضلا عن أن التطورات الداخلية للدول والمجتمعات، لم تعد شانا خاصا بها، أو على الأقل، تعتبر شانا إقليميا ثم كونيا، باتت وجهة تفرض على جميع البشر مزيدا من التفاعل والتعاون في إدارة شؤون البشرية على كافة المستويات.
ولعل من يراقب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الدورات الأخيرة، يلاحظ وبحكم القيادة الأمريكية للعالم، مدى الاهتمام المتزايد على الصعيد الكوني لنتائج هذه الانتخابات، نظرا لتأثيرها المباشر على مستقبل الكون بأسره.
ولان عدد المؤتمرات الكونية التي تناقش شؤون البشر فيما يخص الطاقة والبيئة ثم الأوضاع السياسية والاجتماعية للعديد من المجتمعات، والتي تصدر عن الأمم المتحدة، ويتحول بعضها إلى وثائق تحدد سياسات التدخل من قبل الكبار ( كما في حالة الشرق الأوسط الجديد )، تتحول إلى مناسبات لتشكيل قوى كونية، وليس عوالم كونية، فان كل المؤشرات تذهب باتجاه وحدة كونية قادمة.
لا أحد يمكنه الآن أن يضع تصورا مفصلا لما يمكن أن يكون عليه التنظيم الكوني الجديد، لكن ربما يكون في إطار الأمم المتحدة ومنظماتها، سمة من هذا التشكيل، وربما تكون إقامة أنظمة إقليمية متوافقة، تشكل بمجموعها إطار النظام العالمي، في حين تبقى العوالم البشرية قائمة على أساس الاختلافات الثقافية في مكونيها ( اللغة والدين ).
التساوق مع الوجهة الكونية بتقديرنا سيذهب بهذه السمة إلى اقل مستوى ممكن، وحيث أن نصف البشرية يتحدث عبر ثماني لغات فقط، فإننا نعتقد بأنه خلال بضع سنين فقط، ستندثر مئات اللغات الهامشية المحلية، فضلا عن اللهجات، كذلك سيتراجع تأثير الأديان إلى اقل مستوى ممكن. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما يمكن أن يقوم به النظام العالمي، وأنظمته الإقليمية المتساوقة معه، على صعيد مناهج التربية والتعليم، التي بدا بعضها في تعليم اللغة الإنجليزية للنشء منذ الأول الابتدائي وحتى ما قبل ذلك، وما يمكن أن يتم تعديله من ثقافة قائمة على التمييز، وما نشهده من حديث عن الطريقة المثلى لتعليم وتوريث الثقافة الدينية، والتي يمكن أن تصل إلى حدود جعل هذه المادة اختيارية، أو تدريسها في مراحل متقدمة تحت عنوان " الميتافيزيق " أو مادة الأديان كمادة تثقيفية فقط، لمنح حرية الاختيار للأجيال القادمة في مرحلة متقدمة، يكون معها الشاب قادرا على التمييز والاختيار الحر بين أن يكون مؤمنا من عدمه، وان يختار الدين الذي يشاء، كرؤية لعلاقته بربه. كل هذا يمكن أن يعزز من وحدة البشر الكونية.
وحيث أن مفهوم المواطنة الحديثة قد ارتبط بالدولة القومية الحديثة، فان العالم الذي يسير الآن إلى ما بعد النظام القومي، إلى نظام كوني، ( انترناشيونالي )، يعني بان مفهوما مختلفا سينشأ للمواطنة، ربما تكون هي المواطنة العالمية، المواطنة بلا حدود، وحيث كان من حق المواطن في الدولة القومية أن يقيم حيث يشاء في إطار هذه الدولة، ينتقل من مدينة، من مقاطعة، أو من ولاية لأخرى بحرية ودون الحاجة إلى جواز مرور، فانه بحكم المواطنة العالمية سيكون بمقدور الإنسان ليس أن ينتقل بحرية وحسب، بين الدول والأقطار، بل وان يقيم فيها حيث وأين يشاء.
وبذلك فان ظاهرة المهاجرين، يمكن أن تنتفي، حين تتحقق العدالة والمساواة المطلقة بين البشر، دون النظر إلى ما يفرق بينهم على أساس المعتقد أو الجنس أو الانتماء الاثني، وهي فوارق ستأخذ في التلاشي تدريجيا، في ظل مجتمع يسير بقة على طريق وحدته المجتمعية الكونية.
وربما يتحول العالم مع مرور الوقت إلى نظام فدرالي كوني، ذلك انه إذا كان واقع السياسة الدولية الآن يقول بان المركز العالمي، يقرر مصير الشعوب كافة، فانه بات من حق هذه الشعوب كافة أن تقرر مستقبل وطبيعة هذا المركز العالمي للسياسة، وانه إذا كانت الإدارة الأمريكية بالذات تقرر المصير السياسي لدول وشعوب في هذه الأرض، فانه بات من حق شعوب هذه الدول أن تتدخل في صناديق الاقتراع التي تحدد من يقود الإدارة الأمريكية.
استنادا إلى كل ذلك، ندعو البشر في كافة أرجاء المعمورة، وفي مواجهة وحدة المركز الكوني، إلى أن يتداعوا ويبدؤوا في تنظيم التوحد البشري من قبل الناس أنفسهم متجاوزين ما يفرق بينهم من حدود قومية أو اختلافات في اللغة أو الدين، حتى يتوحد العالم على أساس إنساني، في مواجهة حالة التوحيد القسري التي يقودها الأغنياء، والتي ستؤدي فقط إلى إقامة دولة بوليسية عالمية، لن تهمها المساواة والعدالة بين البشر، بقدر ما يهمها الحفاظ على الامتيازات التي يتمتع بها الأفراد ممن يملكون الشركات متعددة الجنسيات وممن يسعون إلى الاستمرار في الاحتفاظ بالثروة العالمية، خدمة لمصالحهم الضيقة.
رجب أبو سرية
[email protected]




التعليقات