في العراق، هناك مقبرة جماعية لم تكتشف بعد. هي ليست في " السماوة " أو الحضر ولا في " نقرة سلمان "، يقول الشاعر شيركو بيكه س انها العراق كله، ويقترح في قصيدة شعرية طويلة له بعنوان " مقبرة الفوانيس" ان نحفر العراق من زاخو إلى الفاو كي نعثر على آثار ذوينا. أما تلك المقابر التي أعلنت بنفسها عن وجودها بحكم تدخل ضحاياها الأحياء وحفّاريها، فتبقى غير معرّفة ما دام النسيان يسيطر على التاريخ. المقبرة التالية التي لم ينج أحد منها واختفى حفّاروها في " المجتمع الأورويلي "، يا ترى أين ستكون، أفي السماوة أم في مكان آخر لم يش بنفسه حتى الآن، هل لا بد أن تختفي قصص القتلة وحكايات الضحايا فيها؟
لنفترض ان قاتلاً ما سيخترق الروتين في التكتيم ويعلن ما في جعبته ولو بأسلوب روائي غليظ كما فعل الحفّار " عبدالحسن موحان مراد "، لكن يستحيل علينا افتراض نجاة شخص آخر كالصغير " تيمور " أو " عوزير " والأربعة الآخرين الذين أنقذتهم الصدفة من الطمر صيف 1988. لقد روى كل واحد من هذه المجموعة حكايات سريالية بشعة عن قتل ودفن كل تلك المجاميع البشرية " الأكراد " في الليل والنهار وداخل مقابر تكتشف ولا تكتشف. وكانت قصة الحفّار " عبدالحسن مراد " التي نأتي على ذكرها هنا تبسيطاً لتلك البشاعة الحكائية التي نسجها خيال " البعث "، ذاك انه يعيد انتاج صورة الدفن بعفوية وغلاظة وكأنما الذين طمرهم بحفّارته كانوا قطع غيار وليسوا بشر.
عندما يدخل الروتين الى الثقافة السياسية للدولة القومية على طراز دولة "صدام " ويُدخل المجتمع إلى عنابر المسخ، يتحول الفرد إلى كائن متذاهن مع أدوات السلطة ويفقد إنسانيته كما حصل عند هذا الحفّار الذي نحن بصدد سيرته وتقنيات سرده الروائي عن قبور غير هادئة أو بالأحرى قبور هائجة حفر أرضها بعقل ودم باردين.
القصة،تبدأ من هنا إذ يأخذ التحول السردي في حياة " أشبال صدام " منحىً جدياً في بناء شخصية موظف روتيني يؤدي وظيفة القتل دون معرفته بالأسباب التي تدفعه لذلك. فالنعاين سيرة الحفّار " عبدالحسن موحان مراد " كما دونها الصحفي الكردي " عارف قورباني " في لقاء طويل عنونه ( من أُم الريعان إلى طوبزاوا ). كان اللقاء بعد سقوط نظام الحكم في ربيع 2003 عندما قرر الحفّار المذكور التوجه إلى مركز كركوك لتنظيمات الإتحاد الوطني الكردستاني ووشى بنفسه بأنه كان حفّاراً لمقابر جماعية في منطقة كركوك عام 1988 ولا يزال يعرف موقعها.
ولد " عبدالموحان " عام 1961 وسط عائلة مكونة من ثمانية أشخاص في قرية " أُم الريعان " الواقعة جنوب قضاء " الحي " التابع لمحافظة " الكوت " الجنوبية. يكمل سنوات دراسته الأُولى في القرية ذاتها ثم ينتقل
إلى قضاء " الحي " لمواصلة الدراسة، لكنه يرسب في المرحلة الثالثة بعد الإبتدائية وينتسب لجهاز شرطة دائرة الجنسية والسفر في محافظة الكوت بتاريخ 30/3/1978. وكان عمره حينئذ 17 عاماً، لكنه انتسب للدائرة المذكورة كمتطوع دون أن يُسأل عن عمره وباشر دوامه الرسمي لمدة ثلاثة اشهر، ثم تم نقله للمديرية العامة للجنسية والسفر في بغداد.
عام 1980 قسمت الحكومة الدائرة المذكورة إلى ثلاثة أقسام، الإقامة والمخابرات للأجانب والجوازات ومديريات الجنسية والأحوال الشخصية، وينتقل عبدالموحان إلى قسم الأمن في دائرة الجوازات في منطقة عرعر الواقعة على الحدود العراقية- السعودية. نلاحظ هنا انه أصبح واحداً من عناصر الأمن دون أي تكليف رسمي ولا حتي أية معارضة منه تجاه " مهنته" الجديدة.
لقد صار عبدالموحان نموذجاً صغيراً للمجتمع الأورويلي بعد دخوله مديريات " الحقيقة " وفضاءات الأمن غير المكشوفة، ثم أصبح سائقاً معتمداً لجرّافات مديريات الأمن والإستخبارات وحفّاراتها، حاملاً أسرار الدولة بين دهاليزها الأمنية. ويتحول فيما بعد إلى راو متمكن لسيرته وأدائه الحرفي " بفتح الحاء " لفعل القسوة اليومي في الصمت والعلن. يقول الصحفي ستران عبدالله : لقد كان عبدالموحان راوياً حقيقياً لأفعاله كسائق " حفّارة " وتمكن بعفوية تامة رواية تفاصيل ليلة كاملة من القتل والدفن دون اية ملامح التأثر بما فعله ورآه.
يظهر هذا جلياً عندما يسأله عارف قورباني : إن كانت الجريمة التي شارك فيها هي الأول من نوعها؟ ذلك ان جوابه يضمن برائته المطلقة، لأنه لم يقم إلاّ بتأدية وظيفته بطمر هؤلاء البشر الذين قتلوا ودفنوا في صيف 1988 في كركوك، أما الذي شارك في الجريمة برأيه فهو الذي اصدر قرار القتل. والغرابة في قصة هذا " الحفّار " هي القدرة على رواية تفاصيل قصة وحيثياتها القابعة بين جدران مديريات الأمن والمقابر الجماعية التي ارتسمت على ليل التاريخ المكون من جميع مستلزمات الموت. ثم يضيف الصحفي ستران عبدالله ويقول : كانت قابلية عبدالحسن في رواية الحفر والقتل والدفن ومن ثم الطمر دون التأثر شيئاً يثير الإشمئزاز والقرف، لقد روى تفاصيل تلك الليلة الجهنمية مثل اية قصة عادية اُخرى حدثت في حياته.
لا يمكنني هنا نقل الكثير من ذلك الحوار، لذا أقتصر على بعض مقاطع صغيرة تتعلق بتلك اللحظات التي قتل فيها المؤنفلون وتم دفنهم من قبل عبدالحسن وأصدقائه الحفّارون الذين يذكر اسمائهم وهم ( فرحان جابر، احمد اسماعيل، وعلي وسعدي ) – لا يذكر الإسم الثاني لهذين الأخيرين -.
ليلة الحفر
يوم 11/8/1988 أمر كل من الرائد " عبد " مسؤول فرقة حماية " علي حسن المجيد الكيمياوي " والرائد نزهان طوغان الحفّار عبدالحسن وفرحان جابر بإحضار حفارتيهما والتوجه إلى مكان يدلمها واحد من فرقة الحماية ذاتها. ويقول عبدالحسن : عندما وصلنا إلى هناك كان الرائد عبد موجوداً مع طوغان وبدأنا ننتظرهم إلى ان أمرونا بالحفر، في البداية قالوا لنا احفروا على شكل المربع ثم غيروا رأيهم وقالوا احفروا أشكالاً مستطيلة. حفرنا في ذلك اليوم الذي اشتغلنا فيه من التاسعة صباحاً إلى الثامنة مساءاً خمس حفر، طول كل واحدة منها 20 إلى 25 عشرون متراً وعمقها 2،5 إلى 3 أمتاراً.
في 12/8 كان عبدالحسن وزملائه الحفارين يضحكون وينكتون فرحاً بمناسبة إنتهاء الحرب العراقية – الإيرانية حسبما يروي، وفي حدود الساعة العاشرة أمرهم الرائد طوغان بالتوجه إلى ذات المكان الذي حفرا فيه في اليوم السابق (طريق كركوك – بغداد ) مع حفاراتهم وكانت أربع أو خمس سيارات من نوع " مرسيدس " معبئة بالحراس والعسكر جاهزة للتحرك معهم، ثم يتابع ويقول :
لما وصلنا إلى هناك كان طوغان وعبد وطاهر جليل حبوش موجودين ولاحظنا ان المكان بأكمله مُطَوَق. أطفئنا الحفارات والجرافات وبدأنا ننتظر إلى أن وصلت فرقة الإعدام المكونة من 11 شخص. ويذكر الحفار الرواي ان أفراد فرقة الموت لم يحملوا سوى المسدسات " كاتم الصوت " وكانت ملابسم حضراء ووجوههم مكشوفة. يسأله عارف قورباني عن مكانه في تلك الحظات أكان فوق الحفّارة أم في مكان آخر فيقول :
كنا واقفين على حافة الحفرة وننتظر الأوامر، كنت على معرفة شخصية بعدد غير قليل من أفراد فرقة الإعدام، ذلك اننا كنا مع بعضنا في المكان ذاته الذي قضينا فيه تلك الأيام واذكر أسماء بعض منهم وهم ( الملازم الأول صائب مرافق علي كيمياوي الشخصي، الملازم الأول صائم من الأنبار –الرمادي – الملازم الأول سعود والرائد عبد وعدد آخر من الضباط.
بمجرد الاتيان بالمؤنفلين داخل سيارات ست طويلة كانت تشبه سيارات الإسعاف، أمر " طاهر حبوش " بتشغيل جميع الآليات وحتى نحن صعدنا إلى الجرافات وقالوا لنا ان نشغلها ونعلي صخبها. بعدها، أتوا بتلك السيارات الستة المحملة بالأكراد والتي كانت تحاصرها القوات الخاصة واحدة تلوة اخرى إلى حافة الحفرة. ومع تثبيت كل سيارة على الحافة كانت تفتح ابوابها من قبل فرقة الإعدام المكونة من 11 شخصاً والذين ذكرت أسماء بعض منهم. كان هناك حارسان داخل السيارة وكانا يشدان على معصمي كل كردي ويسلماه إلى أفراد الفرقة، ثم يطلقون على رأسه طلقة مسدس واحدة ويدفعونه إلى الحفرة.
يصف عبدالحسن بربرية تلك الليلة التي لا توصف بدم بارد ويسرد تفاصيل أخرى عن سلوك تلك المجموعة القاتلة المنظمة والمصغرة لدولة البعث :( لم يكن القتل عشوائياً، كان كل واحد من مجموعة 11 يأتي بكردي إلى حافة الحفرة وينتظر الإيعاز، كانوا يطلقون النار في وقت واحد). أما عن وضعية المؤنفلين في تلك اللحظة فيقول : كانوا مقيدي الأيادي، أجثوهم على ركبتيهم على الحفرة، وكان كل ضابط من هؤلاء يضع قدمه على يدي المؤنفل من الخلف ويمسك برأسه بيد ويضع مسدسه بأخرى وينتظر امر إطلاق النار. بعد القتل كانوا يدفعونهم بأخمص قدميهم نحو الحفرة العميقة، وحتى لو لم تقتلهم الطلقة، فانكسرت رقابهم أو ماتوا تحت التراب الذي طمرناهم به.
بعد ذلك التقبير الجماعي يأخذ الحفّار إجازة قصيرة لمدة ثلاثة ايام ويرجع إلى بيته في الجنوب ويحكي لزوجته ما فعله وما رآه. جواباً على سؤال حول ما إذا قالت له زوجته ان لا يعود أو يخفي نفسه يقول : لم تحبذ زوجتي ذلك العمل وكانت تفضل وضيفة لي قرب المنزل.
يختزل هذا الجواب الشافي على مبررات تنفيذ تلك العملية البربرية سلوك نموذج الدولة البوليسة الصغير والمتمثل في شخصية الحفار عبدالحسن وبيئته الإجتماعية، ذلك انه لا يرى في طمر هؤلاء البشر أي عداء أو كراهية شخصية أو سياسية تاريخية، بل انه يؤدي وظيفته ويرزق عائلته. كان هذا – بالضبط – هدف حزب البعث، اي تحويل فكرة القتل إلى مهام وظيفية خارج مفهوم الجريمة أو أي عمل يهين حقوق البشر. وانساقت وفق هذه النظرية التي تعتمد مبادئ الحلول النهائية لإنهاء " الآخر" شرائح عراقية واسعة وراء دولة صدام السرية. ففي سياق المهام الوظيفية ذاتها يعود الحفّار إلى كركوك لأداء عمله بعد إجازته القصيرة ويشارك في دفن مجموعة أُخرى من " أكراد الله " دون أن يراوده أي هاجس للهرب أو الإختفاء. بتاريخ 15/ 9 حسبما يتذكر يتجه مع افراد من فرق الموت إلى منطقة أُخرى إذ سبقه إليها زملائه الحفّارون كما أخبروه.
تتشكل فرقة الموت هذه المرة من نفس مجموعة "11" السابقة و الضباط السابقين ولكن ليس في طوبزاوا بل في واد يقع بين قضاء " دووزخورماتوو" وسلسلة جبال حمرين. أما الأكراد كما يقول الحفّار الروائي فلم يكونو شباباً هذه المرة :
كانوا شباباً وعجائز ونساء وأطفالاً، اتوا بالنساء والأطفال من " الدبس " والشباب والشيوخ من طوبزاوا، أما السيارات فكانت من ذات السيارات التي رأيناها في 12/8 في طوبزاوا ويايجي. كانت عملية القتل هذه المرة رمياً بأسلحة " الكلاشينكوف ". في البداية أتوا بالشباب والعجائز وبعد الإنتهاء منهم أتوا بالنساء والأطفال، بالقرب من الحفر أنزلوهم من السيارات وجمعوهم ثم أمر الرائد "عبد " بالرمي. كانت هناك بينهم إمراة بين 35-40 تحمل بين يديها رضيعاً، لا أضن إنها أُصيبت أو لم تكن ميتة بعد عندما طمرتها. ربما كان هناك آخرون لم يموتو ايضاً، لأنهم كانوا يقعون على بعضهم أثناء الرمي،لكنهم ظهروا مثل الأموات إلى أن طمرناهم.
بعد هذه العمليات البربرية ينتقل عبدالحسن كمزارع إلى مزرعة " علي كيمياوي " في تل الورد الواقع في منطقة الدور التابعة لتكريت ثم إلى مديرية الأمن العامة في بغداد. في عام 1989 يصدر " مجلس قيادة الثورة " قراراً بتكريم العرب الذين يحولون " قيد النفوس " إلى كركوك ولا يتردد الحفّار في ذلك وينقل أفراد عائلته مع " شهادات ميلادهم "
إلى كركوك بعدما يحصل على عشرة آلاف دينار " 30 ألف دولار حينئذ " ومنزل ترجع ملكيته لعائلة تركمانية رحلت قسراً.
ويبقى الحفّار والرواي ومفوض الأمن ومزارع حديقة " الكيمياوي " عبدالحسن موحان مراد متنقلاً بين مديريات أمن المنصور في كركوك والنجف، لكن سقوط الديكتاتورية غير حياته!
ملاحظة : أقوال الراوي في النص الأصلي جاءت على شكل الجواب والسؤال وأضطررت لتكثيفها بسبب ضيق المساحة هنا .
التعليقات